في الماضي ذهب العرب إلى تعريف السياسة بأنها القيام على شيء بما يصلحه، ومنها جاء الفعل يسوس، بمعنى الترويض. وضربوا لنا مثلاً بقولهم: "الولي يسوس رعيته". كما جاء ذلك في "لسان العرب" لابن منظور. ويبدو أن حياتنا الحالية لا تخرج عن هذا المعنى، خصوصاً في العلاقات الدولية، لجهة الممارسات البشعة المصحوبة بنوع من الديكور وأحياناً التغيير بهدف الجذب، ويترتب على هذا تعامل مباشر مع الأجساد، تتذوق شعوب الشرق حلاوته لزمن قصير، وتدفع ثمن ذلك باهظاً من نهضتها وحياتها، نتيجة أفعال الآخر "الغربي"، الذي يسعى بأساليب متعددة إلى إغراق المجتمعات البشرية، وقد يغرق معها. السياسة، على الأقل من الناحية الثقافية، تغيرت مفاهيمها ودلالاتها، وأصبح الغرب من ناحية العلاقات - على رغم النقد الذي يوجه إليه - هو الملاذ والانقاذ والمساعدة، وإليه الهروب من حال الى حال أخرى، وبالذات من مجتمعاتنا المتخلفة الى المجتمعات المتقدمة. فبعضنا ذهب الى هناك كأفراد للبحث عن العمل بعد أن ضاقت علينا بلداننا بما رحبت. وذهبت الى هناك جماعات بهدف اللجوء السياسي، والاستمتاع بحقوق الانسان وحرية التعبير، بعد أن رُفضت تلك الجماعات من طرف السلطات والحكومات والمؤسسات وحتى الشعوب أحياناً. ليس هذا فقط بل ذهبنا الى الغرب كدول نبحث عن المعونات والقروض بعد الإفلاس والتبذير والاختلاس. والآن هناك ذهاب على مستوى الأمة من خلال الدعوة الى إجراء حوار بين طرفين غير متساويي القوة، من ذلك القول بالحوار العربي - الأوروبي، والعربي - الاميركي أو الاسلامي - المسيحي. وحين مثَّل الغرب لنا ملاذاً آمنا كان من الضروري القبول بتدخله المباشر في حياتنا على المستويات الأربعة السابقة الذكر، وارتبط ذلك التدخل بمسألة الحريات ففي شقها الإعلامي هو بالنسبة الينا نموذج يحتذى به، خير دليل على ذلك كثرة الصحف والمجلات العربية التي تصدر في العواصم الغربية، وأيضاً القنوات الفضائية العربية التي تجاوزت في طرحها للقضايا القنوات المحلية بمراحل. والسؤال الذي يُطرح الآن: هل الغرب فرض سيطرته على العالمين العربي والاسلامي فقط أم امتد الى عوالم أخرى؟. المعطيات المتوافرة - حالياً - تؤكد أنه على رغم الادعاء برفضه أو مواجهته يتجه الغرب نحو تحقيق أهدافه، وأهمها جعل الثقافة العالمية واحدة من خلال أنماط استهلاكية بما في ذلك الاستهلاك للمواقف والآراء والتصورات. أليست معظم دول العالم تسعى الآن إلى ما يعرف بالديموقراطية وعلى النموذج الغربي؟ ثم أليست المطالبة بتحقيق الديموقراطية شرطاً لإبرام الاتفاقات مع الدول والحكومات؟ وما قولنا عن التطبيقات الليبرالية الإلزامية المتوحشة على مجتمعات العالم الثالث؟ والقول ذاته عن حرية الأفراد والجماعات على مستوى الأفعال والعقائد والسلوك، ناهيك عن الضغط بحرية الجسد كمرحلة أخرى من مراحل فرض السيطرة أو ترويض العالم. ولا شك، فإن هذا كله هو عمل سياسي. نعود إلى الاجابة عن السؤال السابق المتعلق بمدى سيطرة العالم الغربي على العوالم الأخرى، ومنها الشرق بما في ذلك الدول المتقدمة أو تلك التي هي على وشك الخروج من مرحلة التخلف، فالشرق هنا ممتد وبأجزائه الثلاثة، الأقصى والأدنى والأوسط، إذ لم يعد الشرق مبعث الروحانيات السماوية ولا الديانات الأرضية - إن جاز التعبير - فلا البوذية نافعة في اليابان، ولا حتى الحكمة الكونفوشيوسية نافعة في الصين. وكذلك الحال بالنسبة الينا على المستوى الروحي، فهناك اهتزاز في عالم القيم، إذ تغيرت غالبية المفاهيم التي نعرفها عن الدين. المهم ان الشرق في عجزه عن الالتزام بروحانيته وجد نفسه مضطراً، وأمام التقدم الهائل في الماديات وبالذات في عالم الاتصالات، الى الخضوع بعد رفض طويل الى ما يمكن تسميته "بتوابل السياسة"، فدخول الثقافة الغربية بقوة المال أو قوة الاتصال أو حتى قوة القرار جعلته يقبل، أو بالأحرى، ينتج، هو نفسه، مبررات يراها مقبولة بهدف البقاء أو التعايش، وهذا لا يعني أن الروحانيات انتهى دورها، وإنما أقصد مدى التفاعل الحاصل الآن بين ثقافتين: الأولى شرقية ضعيفة، والثانية غربية قوية. والحديث هنا على مستوى الماديات، بما في ذلك الماديات الخاصة بالأجساد، كما هو في صالونات التجميل أو ما يطلق عليها سياسياً "بالتجميل". وفي واقعنا العربي، فإن تشبه النساء بالرجال أو العكس، هو تأثر بالنموذج الغربي، ومع ذلك يعتبر إلى الآن هيناً مقارنةً بما يحدث في الصين أو اليابان المعروفتين بالمحافظة والالتزام بالتقاليد، ففي الأولى أي الصين - كما تابعنا من خلال وكالات الأنباء - راجت جراحة التجميل من الأمام. وفي الثانية أي اليابان راجت الصناعة نفسها لكن من الوراء. وسواء كانت الأولى أم الثانية، فإن جراحة التجميل مرتبطة بتغير في ثقافة القيم، وهذه الأخيرة مرتبطة بالمواقف السياسية. والأمر مثير للاستغراب في البلدين السابقين، لجهة أن سعي الإنسان هناك ليكون مشابهاً للإنسان الغربي ليس تقليداً أو تأثراً، وإنما هو رفض للخلقة. وإذا كنا نفهم مثلاً أن بعض الناس يرفضون ألوانهم خصوصاً السود، لوجودهم في مجتمعات عنصرية، مثلما الحال بالنسبة الى المطرب الأميركي مايكل جاكسون - الذي غيّر لون بشرته - فإننا لا نفهم معنى أن يغير أحدنا الشكل الظاهري الداخلي أو الخارجي، خصوصاً عندما يكون الشكل سمة جمالية بالنسبة إلى الذين يحاولون تقليدهم. لا شك أن الغرب، وهو يساهم في هذا النوع من التغير البشري على مستوى الجسد، يؤكد أن الدعوات المتكررة التي يطلقها وبالذات "العولمة" لن تلقى القبول بالدرجة التي يتصورها. وحين يدخل الغرب الى الشرق من باب صناعة التجميل لتغيير الشكل، يمكن القول انه حقق جزءاً من أهدافه، وليس كلها. وإذا كانت الحضارات تؤثر في بعضها البعض، وأحياناً تتداخل في ما بينها، فإن المغلوب يُدفع هنا الى القبول بالهزيمة الروحية، وهو ما يتعذر القبول به طوال الوقت، وإنما يرتبط بقاءً أو تراجعاً بمدى ثورة المجتمعات الرافضة لهذا الشكل. واذا كان المقياس هو الديموقراطية، فإن الغالبية من سكان دول الشرق - متقدمة كانت أو متخلفة - ترفض الانسحاق الكلي في ثقافة الغرب على رغم هجمة العولمة الشرسة. وربما هذا ما يجعلنا نطمئن لكون الحرب لا تزال في بدايتها على رغم الدعوات المتكررة لاعتبارها حالاً من السلم والمؤاخاة التي يجب الدعوة إليها كما نجد في كتابات الكثيرين. * كاتبة جزائرية مقيمة في مصر.