إذا كنت سمعت عن فيلم المخرج الاميركي تيرنس ماليك الاخير، فإنك بلا شك سيثيرك عنوانه: "الخط الاحمر الرفيع". إذا أحالتك كلمة "الاحمر" الى الحالة التقليدية التي تتسم بها هذه المشاهد الدموية العنيفة التي تلعب على مشاعرك الفطرية كالخوف والألم والتعاطف، وهو ما يتسق مع كون الفيلم واحداً من افلام الحروب فإنك في المقابل ستتوقف طويلاً عند كلمتي "الخط" و"الرفيع"، حىن تنتبه الى تناقض ما في اجتماع هذه المفردات الثلاث بما تعكسه كل منها من دلالات، ذلك انك في فيلم عن حرب ما لن ترى اللون الاحمر في مجرد خط رفيع ينسال، بل إنك تدخله وقد أعددت نفسك "لوليمة" من الدماء التي ستغطي الشاشة لساعات. ولكي تستطيع ان ترى هذا الخط الرفيع الاحمر وسط كل هذه الدماء، عليك ان تبطئ اللهاث قليلا، أن تنظر الى الاحداث بعد ان تسقط الألفة عنها، لا كما اعتدنا النظر اليها. عليك فقط ان توقف انسياقك وراء حال الهرج التي تتسم بها هذه الافلام وتجعل الاحداث تنساب من حولك فتشاهدها بالحركة البطيئة. عندئذ تتمكن من ان تلحظ هذا الخط الاحمر الرفيع الذي استطاع ماليك ان يصوره في لقطة سريعة في قلب المعركة وهو يتطاير لينطبع على ورقة نبات صفراء. كان ماليك يوصل الينا هذه الرسالة عبر عنوان فيلمه، ليقول لنا إنه ليس مجرد فيلم آخر عن الحرب ولكنه فيلم مختلف. تلمس هذا منذ اللحظة الاولى التي تدخل فيها عالم الفيلم عبر مشاهد الطبيعة البرية في منطقة استوائية او مدارية، تتشابك فيها اغصان الاشجار العالية، ولا تسمح بعبور إلا حزم ضعيفة من اشعة الشمس، حين يغزوك صوت ايقاعي هادئ، كأنه آتٍ من السماء يحدثك عن توحش الطبيعة والصراعات البدائية للإنسان معها. وتستمر هذه الحال الشفافة عندما تنتقل الى الجزيرة الكاريبية، حيث يراودك احساس بأنك انتقلت عبر الزمن، الى الوراء لتصل الى هذا المكان الذي يعيش سكانه أنصاف عرايا في حال بدائية تماما وفي اتساق وسكينة، وحتى هذين الرجلين الابيضين اللذين يبدوان غريبين تماما عن المكان، كانا جزءاً من هذا الهارموني المتكامل. ماليك هنا، على خلاف جميع أفلام الحروب، لا يبدأ معك في ساحة قتال، ولكنه يبدأ من نقطة اخرى، يجعلك تنظر من خلالها. هناك الى اليسار قليلا، تنحرف بزاوية بصرك درجات عدة لترى وجهاً آخر للحياة يجاور ما تفرضه علينا الحرب. في هذه المشاهد لا تستطيع ان تمنع هذا الاحساس الطاغي بالسلام والطمأنينة من التغلغل تدريجاً الى نفسك، وأنت تسمع هذا الصوت الايقاعي، والذي سيستمر معك حتى النهاية متصوراً تارة انه لهذه الشخصية او لتلك وهو يردد: "اين كنا من قبل... كنا اسرة واحدة؟ ثم افترقنا وتباعدنا. كيف أضعنا الخير الذي مُنحنا إياه، كيف تركناه يتسرب بإهمالنا؟". ولا يخرجك من هذا الصفاء سوى ظهور السفينة الاميركية التي تكتشف معها ان الرجلين الابيضين ليسا سوى مجندين هاربين من فرقة مشاة، وأنك الآن في العام 1942، تتجه السفينة بالفرقة لاقتحام معقل ياباني في مهمة عرفت ب"معركة غواندال كانال"، واعتبرت نقطة تحول مؤثرة في الحرب العالمية الثانية، في هذه اللحظة تتصور انك دخلت الآن الى قلب الفيلم، الى المنطقة الساخنة التي هيأت نفسك لمشاهدتها من البداية. ولكنك تعجب لاستمرار الاحساس بالحركة البطيئة حتى اثناء المعركة نفسها في الثلثين الاخيرين من الفيلم. إنك لن تتنبه كثيراً الى القائد وهو يحدد مواقع الهجوم على خريطة ما موضوعة على منضدة وجنوده من حوله، بل يدخلك ماليك الى قاع السفينة حيث يقبع الجنود في انتظار الوصول الى الشاطئ لتبدأ مهمتهم في الارض المجهولة. تنتقل في هذا المكان الضيق الخانق لتلمس كيف يشعر هؤلاء الجنود، انه يغربك بحركته زووم الى ما يداخلهم، ما يفكرون به في هذه اللحظات، قد يستوقفك هذا الفتى الذي يبدو عليه التوتر وهو يتحدث الى الرقيب ويلش شين بين عن خوفه من المعركة، وكيف انه كان يخشى زوج امه ويختبئ منه تحت الفراش هربا من الضرب. ومع ذلك لن تعيره انتباهاً كثيراً، ولكن مع استمرار الجولة داخل هذا المكان واستعراض الحالات المختلفة للجنود، ثم بالربط مع ما ستراه من ردود افعالهم في المعركة تكتشف ان الفيلم لا يتحدث عن بطولات وتضحيات باسم الوطن، او باسم اي قضية، انه يتحدث تماما عن ذلك الجانب الآخر من الحرب، ولا أقصد الألم الذي تمتلئ به افلام الحروب الأخرى، استثارة لدموعنا وشفقتنا، الجانب الملازم لفكرة الحرب/ المخفي عمداً عن الجمهور ببساطة لأنه يمس صميم الصورة الاسطورية التي يصنعها الإعلام للجندي وبالذات الاميركي، يمس فكرة الحرب من اجل هدف ما، إنه يتحدث عن الخوف، عن الهلع. في "الخط الاحمر الرفيع" لن ترى ابطالاً او بطولات، لن ترى تضحيات بدافع "الإيمان" او "الشجاعة"، ولكنك ستلمس عن قرب ماذا يعني الموت خوفاً، ستلمس الجحيم الذي يعيشونه والتحولات القاسية التي يمرون بها منذ ان تبدأ المعركة وحتى نهايتها. يدخلون المعركة بصورة تبدو متماسكة، ويخرجون منها وقد تحولوا إلى جثث هامدة أو جثث تسير... هكذا توقن وأنت ترى احد الجنود الاميركيين بعد ان نجحوا في اقتحام الموقع الياباني وهو يجلس تحت مطر غزير ممسكاً بكبد احد الجنود اليابانيين وهو يبكي ويرتعش في هيستريا، ويأتيك هذا الصوت العلوي ليقول لك "إن الحرب لا تُكسب الرجال نُبلاً، بل تحولهم الى وحوش ضارية تمس الروع" كلمات تضرب بعرض الحائط كل حديث رنان عن الحرب المقدسة، والحرب النبيلة والحرب التي تشن من اجل تحرير الشعوب. ولا يختلف في هذا الهلع الجندي الاميركي عن الياباني. انها حرب واحدة. من اين يأتي كل هذا الشر؟ من الذي يقرر من يعيش ومن يموت؟ هكذا يتسرب الى مسامعك هذا الصوت المهيمن وانت تشاهد الجنون الذي اصاب الجميع بعد اقتحام المعقل الياباني، وكنت قبله تشاهد رعباً مثله في عيون الجنود الاميركيين وهم يشاهدون زملاءهم يتطايرون اشلاء. من يقرر؟ انهم عند ماليك قادة حرب أيضاً مختلفون. ان هذا الكولونيل تول نيك نولتي لا يمتلئ بحماس قوي للمعركة، لايمانه بها، او حتى لانه يعكس سيكلوجية الرجل العسكري ولكنه يكشف عن نفسه في حواره مع ذاته عن سنوات وسنوات من النفاق والمذلة للقادة ورغبته في الحصول على هذه الفرصة للترقي، رافضاً ان يلتف الجنود حول الهضبة بل يأمر باقتحامها من الامام بغض النظر عن الخسائر. قرار ليس من الفكر العسكري في شيء، لكن وراءه خوفاً من نوع آخر، خوفاً من الخسارة، في حين ان الكولونيل تول لا يستطيع ان يسمح لنفسه او لأي آخر بأن يدفعه نحو هذه الخسارة، فيعود لهذه المذلات التي تلمسها مع بداية ظهوره حين تراه يلازم قائده الاعلى جون ترافولتا، كيف يوافقه على حديثه، كيف يشعل له السيجارة في ادب واحترام اشبه باحترام العبيد لأسيادهم. والكولونيل تول ليس القائد الوحيد، فهناك جيمس سناروس الياس كوتياس قائد الكتيبة. انه هو الآخر نموذج لقائد مختلف. فهل عرفت قائدا في معركة ما لا تشغله سوى فكرة الحفاظ على أرواح جنوده؟ هل قدمت لنا السينما قائدا يبكي متضرعا الى هذا القبس، ألا يدفعه تحت أي ظرف الى ان يخذل رجاله؟ هل عرفت قائدا يحب جنوده كل هذا الحب؟ تلمس هذا الحب في علاقة الرقيب يلتس شين بين بالمجند "ويت" جيم كافينرال، الرقيب ويلتس الذي يأخذ مسافة من كل ما يحدث، ينظر باشمئزاز الى فكرة الحرب، وكل العبث المحيط بها، يسخر حتى من "ويت" على رغم أنه يحبه. وحين يموت ويت الذي ظل مؤمناً بأن هناك قبساً ما وراء كل هذا الظلام، وحين يتغير القائد يردد في ملل: "يريدونك ميتاً. او بعضاً من اكذوبتهم". نعم هم القادة الكبار الذين يقبعون هناك ويتخذون القرارات. نعم هي اكذوبة الحرب التي تسخر من الجميع في كل لحظة ولسان حالها يقول كما يحدث المجند "فايف" نفسه: "هل رأيت الكثير من الموتى؟ انهم لا يختلفون كثيرا عن الموتى من الكلاب، حتى اعتدت على الفكرة". يطالعك مشهد من اقسى مشاهد الفيلم حين ترى الكلاب في الليل تأكل جثث الموتى من الجنود، تلك الجثث التي جعلها "ماليك" تئن مثل الجميع من الحرب، ها هي جثة جندي ياباني تتحدث الى مجند اميركي، كأنما تنظراليه وهي مغمورة في الطين. "هل انت رحيم، عطوف، تحب الخير؟ انا كنت كذلك. هل تعتقد انك ستكون اقل عذابا لانك احببت الخير والحق؟". اعتقد ان ماليك في هذا "الخط الاحمر الرفيع" لم يكن يتحدث عن حرب بقدر ما كان يتحدث عن عالم بلا حرب فيه السلام والسكينة والاحساس بالجمال. تلك الاحاسيس التي تغمرك وانت تشاهد البراري الواسعة او حتى وانت تتغلغل في احلام المجند شارلي بن شابلن عن زوجته، هذه الاحلام الشفافة الملائكية التي ينجح بها فقط في اختيار المساحة الخضراء الواسعة التي كان عليه ان يتخطاها في مهمة استطلاعية مقتربا من موقع المدافع اليابانية. إنها هذه الاحلام وصوت زوجته التي لا تتحقق فعليا الا مع نهاية الاحداث عندما ترسل اليه تطلب الانفصال لأنها احبت شخصا آخر بعدما ملت الانتظار، هما اللذان يناديانه للخروج وللبقاء فيبقى. يخيل اليّ ان هذا الفيلم بكل هذه المعاني، هذه التأملات الطويلة العميقة داخل الشخصيات، هذا البطء في استعراض الاماكن والانفعالات وردود الافعال، هذه الرهافة والشفافية والرقة ساعدتها كثيراً موسيقى هانز زيمي التي تبعد كثيراً عن ان تكون لفيلم تدور أحداثه عن الحرب والموت. بكل هذه التوليفة لا يقول الفيلم كلمة اخيرة عن الموت وانما كلمات عن الحياة، بهذه التوليفة أيضاً لا يستغرب كثيرا ألا يحظى هذا الفيلم باقبال جماهيري عال مقارنة مثلا بفيلم آخر عن الحرب تزامن خروجه معه، هو فيلم "انقاذ الجندي رايان" للمخرج ستيفن سبيلبرغ، ذلك ان الفارق شاسع بينهما، فارق يكمن ببساطة في ان ماليك لا يستخدم تيمة "بشاعة الحرب" ليبيع فيلمه، مثلما اعتمد عليها سبيلبرغ. استبعد ماليك كل العلامات التي تشبع المشاهد "البصاص" كل مواقع الاستثارة الحسية الرخيصة التي تروق للمشاهد وتجبره على المتابعة. اعتمد كلية على هذه المسافة التي وضعنا فيها بعيدا عن ساحة القتال، فلم نعد متورطين في الحرب، وكذا جنوده وأبطاله ظلوا تماما محتفظين بهذه المسافة مما سمح لهم ولنا بتأمل الاحداث على هذا المستوى الفلسفي الذي يندر أن يحتمله فيلم سينمائي عن الحرب، سمح لنا ماليك ان ننظر الى هؤلاء المجندين كأفراد، كآدميين، وليس ككتلة من المجندين، وان ننظر الى الحرب، اي حرب، على أنها الجحيم وليست المجد. إن الخط الاحمر الرفيع هو كلمة اخيرة مختلفة عن الحرب، تحتاج الى مشاهد على استعداد ان يتخلص من تراث طويل من المفاهيم والصور الذهنية الراسخة لديه وان يسلم عقله وروحه طوال ما يقرب من الثلاث ساعات، هي مدة الفيلم، ليتيح لنفسه مساحة للتأمل في عصر سادت فيه سينما الحركة والتقنيات واللعب على الغرائز ومخاطبة الحواس. "الخط الاحمر الرفيع" قصيدة شعرية بصرية عن الحياة والموت عن الحرب والسلام.