لفت نظري، بعد أن انتهى صديقنا صالح بن رمضان من كلامه، في مجلس شيخه المهيب حمادي بن صمود، أن أقرانه من الجلساء اكتفوا بالاستماع، ولاذوا بالصمت، فبدوا كما لو كانوا غارقين في شجون ذكرياتهم عن أشباه زنجويه الذين قابلوهم - ولا يزالون يقابلونهم - في الحياة الثقافية. وأحسب أن فطنة الشيخ حمادي قد انتبهت إلى ما انتبهت اليه من قبل أن أنطق به، فبادر رجاء بنت سلامة وشكري بن المبخوت وعبدالله بن صولة بالكلام قائلا: إن لصمتكم دلالة ونوعا من البلاغة، فأخبرونا، أفادكم الله، عن الشجون التي تحيل صمتكم إلى بيان، وسكوتكم إلى نطق، فأنا لا أرضى لكم في هذا المقام التذرع بقول من تحدث من البلغاء عن بلاغة الصمت. ولا أحسب أن في مجلسنا هذا ما يدفعنا إلى التعلل بحسن الاستماع. فأخوة صفائنا قائمة على المشاركة في الحوار العقلي السمح، وكلنا يفيد من غيره بقدر ما يفيده بواسطة السؤال والجواب، ومبادلة الرأي بالرأي، والفكرة بالفكرة، والخاطرة بالخاطرة، فأنطقوا المسكوت عنه من خطابكم، فأنتم في حمى المحبة الخالصة للمعرفة المنزهة عن الأهواء يا خلان الوفاء. واتجه الشيخ الجليل بناظريه إلى تلميذته رجاء بنت سلامة، ونظر إليها بعينين حانيتين تفيضان بحنان الأبوة قائلا: وأرجو يا رجاء أن لا يكون ما انتهيت إليه في كتابك عن "صمت البيان" دافعا لك على الصمت، فأنا أعرف مثلك أن الصمت أسلوب من الأساليب المتبعة عند العارفين، خصوصا حين تتسع الرؤيا وتضيق العبارة، وينشد لسان الحال ما يشبه قول صلاح عبدالصبور المتخفي وراء قناع بشر الحافي، في قصيدته الجميلة "مذكرات الصوفي بشر الحافي" التي يقول فيها: احرصْ ألا تتكلمْ قفْ وتعلّق في حبل الصمت المبرمْ اللفظ حجرْ اللفظ منيّهْ فإذا ركّبت كلاما فوق كلامْ من بينهما استولدت كلامْ لرأيت الدنيا مولودا بشعا وتمنيت الموتْ أرجوك الصمتَ الصمت. وانتظرت رجاء بنت سلامة برهة من الزمن، كي نفرغ من ثنائنا على حافظة الشيخ التي جمعت إبداع الأوائل والأواخر، فأطرت بدورها بديهة الشيخ التي لا تكف عن إثارة إعجاب المستمعين إليه، وغضّتْ من عينيها النجلاوين، وهي تقول: كلا، يا شيخى، ما كنت أفكرّ في المعنى الذي قصد إليه صلاح عبدالصبور على لسان العارف الصوفى، بشر بن الحافي، وإنما كنت أنتظر أن تلقي المزيد من فيض معارفك، وأتطلع بشوق إلى أن نتعلم منك فوق ما تعلمناه، فحالي في حضرتك أشبه بالحال الذي وصفه أدونيس الشاعر في إحدى قصائده، عندما قال: كن أكثر صمتا أكثر صمتا- من أجل لغات أخرى أزمنة أخرى. وأنا يا شيخي، منذ تعودت الإفادة منك، علّمت نفسي الصمت كي أحسن الأخذ عنك، من أجل آفاق واعدة، تفتح أزمنة أخرى من الوعي المسكون بهواجس الإضافة والمجاوزة. ولا أخفي عليك، يا شيخي، أننى منذ أن اقتربت منك، وتعلمت على يديك، لا أكف عن القول لنفسي عندما أرى أو أسمع أمثال زنجويه: دعى ما يريبك إلى ما لا يريبك، ففي علم العلماء مهما تضاءل عددهم ما يشفي الصدر من شحناء الجهلاء مهما كثر عددهم، وفي صفاء العقول الحكيمة ما يقضي على عكارة الأذهان السقيمة. وحينما تتكاثر أصوات أشباه زنجويه من حولي في موقف من المواقف، إلى الدرجة التي تتحول بها أصواتهم إلى لجب نازف من تخييلات فاسدة تتخطفها تخييلات جوفاء، أنشد بيني وبين نفسي قول القائل: الزم الصمت فما أكرمه موقفا حين تسود الثرثره لن يضل الركب في داجي السرى وعلى الأفق نجوم نيره وما كادت رجاء بنت سلامة تفرغ من إنشاد البيتين بصوتها الرقيق الذي لايخلو من نبرة شجن تستبينها الأذن المرهفة، وقبل أن نأخذ بأطراف التداعيات حول البيتين، اندفع صوت عبدالله بن صولة الذي يبدو أنه ضاق بسكوته الطويل، فقطع الصمت الذي ما كاد يرين بقوله: ولكن، يا أخت رجاء، هذه سلبية، فإن السكوت على الجهل يزيده تمكنا، والصمت في مواجهة أشباه زنجويه، وما أكثرهم في هذا الزمان، يدفع بهم إلى المضي في تلبيسهم على الناس، فسكوتنا عنهم نوع من المشاركة غير المباشرة في إشاعة ضلالهم، وصمتنا في مواجهة تخييلاتهم أو تحييلاتهم عجز عن حماية العلم الذي لايهبنا بعضه إلا إذا وهبناه كل ما فينا، ودافعنا عنه بكل ما لدينا. واسمحي لى بالقول: إنه لولا مواجهة العلماء للجهلاء، وصبر العارفين على سخافات الفارغين، وكشف ذوي الخبرة لتدليسات المدلسين، ما تقدم العلم، أو تطورت المعرفة، أو ارتقت الأمم. وتاريخ الفكر يعلمنا أنه لولا المصادمة بين العقل ونقائضه، وحماسة العقل في توسيع آفاقه الواعدة، واستماتته في منازلة خصومه، ما أضاف العقل إلى مكاسبه مكسبا، ولا إلى إنجازاته القديمة إنجازات جديدة. وارتفعت نبرة صوت عبدالله بن صولة الذي اكتسب حماسة مضافة، واتجه بناظريه إلى الشيخ حمادي بن صمود، كأنه يلتمس تأييده في ما أوضحه بقوله: أنت تعلم، يا شيخنا، أكثر من أي واحد في مجلسنا، بحكم التجارب العديدة التي مررت بها في حياتك العلمية الحافلة، متعك الله بالصحة والعافية، وأطال لنا في عمرك، أن أمثال زنجويه وأشباهه يفوقون الحصر في كل زمان ومكان. ولكن هل منع هؤلاء أهل العلم من المضي في عملهم والتقدم في علمهم؟ وهل أفلح هؤلاء في إخراس ألسنه أهل الحق عن إنطاق المسكوت عنه من خطاب الحق؟ إنهم حاولوا، ويحاولون في كل زمان ومكان، إطفاء أنوار العقل، وإشاعة إظلام النقل والتقليد. ولم يتوقفوا عن الخلط والتخليط، ولا عن التدليس والتخييل، ومع ذلك لم ينقطع العلم عن تقدمه، ولا المعرفة عن تطورها، ولم يتوقف العقل عن حدوسه والعلم عن كشوفه، وذلك بفضل الذين لم يكتفوا بالشكوى من أشباه زنجويه، ولم يقبلوا السكوت عن فعال أمثاله، وإنما استبدلوا بالشكوى منه الهجوم على خصاله، وبالسكوت عنه التنبيه على شنيع فعاله، فأناروا أذهان الناس، وكشفوا لهم سوءة تدليس زنجويه وتحييلات أشباهه في كل زمان ومكان. ويبدو أن حماسة عبدالله بن صولة أصابت بعدواها صديقه شكري بن المبخوت الذي التقط حبل الكلام قائلا: إن ما يقوله زميلي عبدالله يذكرني بمسألة عالجها فرح أنطون في كتابه عن "ابن رشد وفلسفته" الذي نشره في مدينة الإسكندرية بمصر العامرة في سنة 1903، خصوصا حين تحدث عن إنكار العدالة في العالم أو إثباتها،و ردّ ابن رشد على من قالوا بأن القوة هي الشرط الوحيد في العالم، وإن الشر ينتصر على الخير بواسطة القوة، والباطل ينتصر على الحق بالتدليس، ودليل ذلك ما لقيه الفلاسفة من سقراط إلى ابن رشد. ويؤكد فرح أنطون، مقابل هذا القول، انتصار الخير بواسطة دعاته، وارتفاع راية الحق بواسطة حماته، ودليل ذلك عنده ابن رشد فيلسوف الإسلام العظيم، فإن معاصريه كفروه ومنعوا كتبه وأهانوه ونفوه، ولكن ذلك كله لم يمنع من انتصاره النهائي على أعدائه وانتزاعه المكانة التى اقتنع معها العالم الأوروبي كله بأنه الفيلسوف الحقيقي الوحيد الذي نبغ في الإسلام. ويعني ذلك أنه مكتوب لكل أصحاب العقول الذين يمتازون عن البله والبلداء والمدعين والجاهلين، ومن ثم أشباه زنجويه وأمثاله في هذا العالم، أن يتكاثر حسادهم بسبب وغير سبب، وأن يزاحمهم الطامعون فى مكانتهم دون وجه حق. ولذلك حسد ابن رشد، وطمع في مكانته، جماعة من الذين قصروا عن شق غباره وبلوغ منزلته، فوشوا به كذبا لدى الخليفة يعقوب بن المنصور بأنه يجحد القرآن ويعرض بالخلافة وينشط في الفلسفة وعلوم المتقدمين بدلا من الدين الإسلامي. ولا غرابة في هذه التهمة، بعد أن انصرف ابن رشد إلى الفلسفة وطلب الحقيقة من طريق العقل في زمن كذلك الزمن، وإنما الغرابة أن لا تحدث يومئذ تهمة كهذه التهمة، فكل فيلسوف أهل لأن يلقب بهذا اللقب يحتمل العدوان من معاصريه احتماله أمرا طبيعيا لا مفرّ منه ولا مهرب. وابن رشد مثال على غيره من المفكرين العظماء الذين عذبوا، في بدء نشأة العلم في كل أمة، لاعتقادهم اعتقادات تناقض اعتقاد العامة، فكانوا بمثابة الشهداء الذين يحق لهم علينا، اليوم، كل إكرام واحترام، لأنهم طليعة جيش العلم الذي لم ينتصر إلا بجهادهم وبدمائهم، حتى كأنهم ما خلقوا إلا لتلقى على ظهورهم أحمال العلم والإنسانية كلها. لم أستطع أن أمنع نفسي من التعاطف مع ما قاله شكري المبخوت، ولم يؤرقني انتقاله من الموضوع الأصلي إلى لازمة من لوازمه، فاللازمة تقود إلى الملزوم وتضيئه بما هو دليل على وجه من وجوهه. وازداد تأكدي من ذلك عندما لمحت على وجه الشيخ حمادي بن صمود علامات الاستحسان التى أضاءت وجهه السمح. ويبدو أن كلمات شكري بن المبخوت التى عادت بنا إلى التاريخ دفعت الشيخ حمادي إلى صمت التأمل الذي بدا معه كما لو كان يستلهم من أزمنة الماضي عبرتها. ولم يطل الصمت بالشيخ الذي طوفت عيناه بأوجهنا جميعا، كما لو كانت تستقرئ ملامحنا، وتحدس بدواخلنا، وصوته الهادئ العميق يخاطبنا جميعا، قائلا: اعلموا، أيها الأحباب، أنكم أهجتم شجوني، وأثرتم مخزوني، ودفعتموني إلى تذكر ما مضي من تجاربي. والحق أنني مقبل ومدبر في هذا الأمر، وأميل إلى ما قالته رجاء بنت سلامة بالقدر الذي أميل به إلى رأي عبدالله بن صولة وشكري بن المبخوت، وليس هذا من قبيل التوسط بين الأضداد، أو السعي إلى المصالحة بين اختلافاتكم، وإنما هو ما انتهيت إليه من التجارب التى عركتها وعركتني طوال أعوامي الثمانين، وبلغتموها، فما أكثر ما شعرت أن السكوت عن أمثال زنجويه هو الأصوب، ضنا بالعقل من أن ينحدر إلى السفاسف، وخوفا من أن تصرفنا تفاهة أشباه زنجويه عن الغوص إلى قرارة المعارف التى لا نهاية لها أو حَدّ، وكنت أقول لنفسي في مثل هذه المواقف: إن السكوت عن الجهل الفاضح علم، وترك اللغو فطنة، وهجر السفهاء حكمة، خصوصا حين تغدو الحقائق بينة، ويبدو الجهل فاقعا، والناس على دراية به، في الأوقات التى تشيع فيها الاستنارة ويسود فيها مبدأ وضع الأفكار موضع المساءلة. ولكنى مع ذلك واجهت أحوالا مخالفة. وما أكثر ما أدركت، من ناحية مقابلة، أن السكوت عن أمثال زنجويه عون على زيادة الباطل وارتفاع راية الشر، خصوصا في الأزمنة التي تختلط فيها الأشياء، وتتداعى فيها القيم، ويرتدي الجاهل قناع العالم، ويشيع النقل والاتباع، وتعم الغفلة، أو تنعدم النخوة إلى نصرة الحق، ويحق القول بأن الساكت عن الحق شيطان أخرس. ولم يفارقني يقيني أنه لابد من المنازلة في مثل هذه الأحوال، وتعرية جهل أمثال زنجويه الذين أرى فيهم أعوان إبليس وجنده. وتوقف الشيخ حمادي قليلا ليلتقط أنفاسه، ثم مضى قائلا: ولا زلت أوقن أن ترك أشباه زنجويه يمرحون في غواية تدليسهم يزيد من مدى الجهالة، ويضيف إلى التخليط العارض تخليطا دائما. ولذلك لم أتردد في الاندفاع إلى المنازلة والمبارزة، في ما واجهته من مواقف تدعو إلى المواجهة. وكان سلاحي المعرفة التي هى قوة العارف، وأداتي العقل الذي لابد أن يقهر نقائضه، ووسيلتى المساءلة التي أضع بها عقلي قبل عقول الآخرين موضع السؤال الفاحص الناقد. وهدفي في النهاية كشف الأقنعة الزائفة عن أشباه زنجويه، وتعرية حضورهم الخادع من كل ما يلتبس به، لا لشيء إلا لكى تبدو صورهم الحقيقية لعيان القراء بلا زخرف أو تدليس. ولم يكن يعنيني النجاح فى مهمتي أو عدم النجاح، فأحيانا كنت أنجح حين يكون المناخ مواتيا، وأحيانا كنت أفشل حين يتكاثر أفراد قبيلة زنجويه فى كل مكان، ويهيمنون على عقول السذج الغافلين. كل ما كان يعنيني، ولا يزال، هو أن أؤدي واجبي في الكشف عن تدليس زنجويه الذي لا تكف تجلياته المعاصرة عن التزايد. وبالقدر نفسه، ما كان يثبط من عزمي ما اعتاد أن يقوله زملائي الذين يؤثرون السلامة، أو الذين أصابتهم الملالة من الدفاع عن كلمة العلم، فقد كنت، ولازلت، لا أحتمل أن أرى جاهلا يرتدي ثوب عالم، وصاحب تدليس يخايل بامتلاك المعرفة، وأصولىاً يدعي أنه يملك الحق وحده، ودجّالا لا يكتفي ببيع الحشف بل يسىء كيله، فهؤلاء وأشباههم من أبناء وأحفاد زنجويه لا ينبغي السكوت عليهم، خصوصا في زماننا الذي نعيشه، ويحتّم علينا بكل ما فيه كشف أقنعتهم وتعريتهم من أرديتهم الزائفة مهما كانت التضحية. ولنا في من سبقنا من العلماء أسوة تُتَّبع ومثال يحتذى.