عندما كنت في فترة النقاهة من ذلك المرض الذي لا اسم له، كنت معزولة في غرفتي بين كتبي الممنوعة وكتاباتي المجهولة. ايام الصيف طويلة جداً، في نهار الصيف هناك ساعات وساعات مطلوب شغلها بأي شكل من الاشكال، خصوصاً بالكتب، لكن لم يكن هناك سوى القليل الذي يمكن ان افعله بالكتب عدا قراءتها، وحتى هذا الشيء البديهي الذي يمكن ان يمارسه اي مريض كان ممنوعاً عني بأمر طبي. كان أبي يحدثني عن جمال مهنة امين المكتبة، وتلك الدراسات التي كان يرى انني اكثر استعداداً لها من اي فتاة اخرى من اللواتي نعرفهن، وعندما كنت افرض على نفسي فترة عزلة كنت أقول له: - ان امناء المكتبات يعشقون الكتب كما اعشق انا مشاهدة الألعاب الرياضية. يكفي مشاهدة تعبيرات وجهي في ملعب رياضي لمعرفة التعبيرات التي يمكن ان تنعكس على وجوه امناء المكتبات وهم غارقون في مكتباتهم الكريهة. مكتبة أبي لم تكن تتفوق على مكتبتي في عدد الكتب فحسب، بل كانت مكتبة ارستوقراطية المظهر، كان أبي يشعر بالفخر بها، خصوصاً انها تضم عدداً كبيراً من الكتب باللغة القطالونية، اما مكتبتي فكانت، في معظمها، اسبانية او من اميركا اللاتينية، وهذا الاختلاف كان كافياً للتفرقة بين مكتبة أبي ومكتبتي. هذه التفصيلات من المفترض انها تعكس الاختلاف بين الأب والابنة، وكان هذا سبباً آخر يضاف الى اسباب العلاقة المتوترة بيننا. اعتنقت اللغة المستحيلة التي ورثتها من خلال كتب امي القليلة، فغرقت في لغة الفراغ، في فراغ بلا لغة، او بمعنى اصح في لغة لا ام لها، لغة كانت! ولم تكن سوى لغة الخادمات اللاتي كن يلعبن دور امي في طفولتي. كان أبي يواصل وفاءه للغة كتبه، وهذا كان يسمح لنا ان نظل متباعدين حتى لا يكتم احدنا انفاس الآخر من خلال المكتبة المشتركة، خصوصاً انه لم تكن هناك الأم التي يمكنها ان تلعب دور الحكم بين ذلك الانقسام اللغوي. لكل واحد منا كتبه التي تبين حدوده، تسمح لنا ايضاً ان نتنافس لنعرف من يستطيع ان يحصل على اكبر عدد من الكتب بالقطالونية او الاسبانية ليضمها الى مكتبته. كان ابي الفائز دائماً خلال هذه المنافسة. الى ان قرر ذات يوم ان يقدم لي فرصة للفوز، ان يكلفني بعمل ويقدم إليّ كتباً أجراً على انجاز العمل. الدخول الى غرفتي مهمة مستحيلة، الكتب في كل مكان، اكوام من الكتب، الشيء نفسه كان يحدث في غرفة الألعاب القديمة التي حولتها الى غرفة اضافية لكتبي، كان أبي يرغب في تنظيم هذا اللانظام، فقرر ان يكلفني بعمل. الفتاة المطيعة وحدها تقبل عملاً مثل هذا، وكنت الفتاة التعيسة لأب تعيس، دفعني الى قبول تلك المهمة التي لا تقبلها فتاة مقابل مال او حتى مقابل كمية كبيرة من الكتب. قبلت العمل العمل هو الحصول على سجل كتب، وتنظيم ارشيف بأسماء المؤلفين والمواد التي يضمها كل كتاب من مكتبة أبي الضخمة. بسرعة تسجيل اثني عشر كتاباً في الساعة ربما استطيع خلال ذلك الصيف الحار الطويل انهاء مهمة تسجيل تسعة آلاف كتاب التي تضمها مكتبة أبي. كان لأبي اهداف عدة عندما قرر تكليفي بأن أكون امينة مكتبته الخاصة. افترض، أولاً، انني بهذه الطريقة سأتعلم، وبعد ذلك أقرر تنظيم مكتبتي الخاصة، لكن التجربة لم تأت بما كان مأمولاً منها، الكتب تتحدث وتسافر، وأنا احب ان تتحرك الكتب من حولي، ولكي يمكن تحقيق ذلك لا بد من الهروب من الصرامة العبثية التي لا تطبق الا في زنازين السجون، الكتب تماماً كالأفكار، لا يمكن ان تظل ساكنة في مقابرها، ولا يجب ان نعتقد انها ميتة. أعتقد أبي أيضاً ان عملي أمينة مكتبة موقتة يمكنه ان يشفيني من الفوضى التي تصيب جهازي العصبي. لدى أبي افكار جميلة اكثر من اللازم عن مهام ونظام الجهاز العصبي لأمناء المكتبات. كنت اجهل ان عليّ الاحتماء منهم، خصوصاً من بعض التوجهات الشاذة التي تصيب بعضهم، وتدفعهم الى ارتكاب اعمال عنف. هناك امناء مكتبات مجرمون، لكن هؤلاء يظهرون في الروايات فقط، الأسوأ منهم أولئك الذين يبدون كممارسي عمليات التعذيب النفسي. لا تزال لدى أبي فكرة رومانطيقية عن امناء المكتبات. وخلال ذلك الصيف الغامض اعتنقت انا تلك الفكرة ايضاً. كانت مهمة تسجيل الكتب مملة جداً، وكنت اعشق الملل، الملل افضل طريقة لممارسة القراءة، كنت استغل ذلك العذر، على رغم انني كنت ممنوعة من القراءة، كنت استغل تسجيل الكتب لإلقاء نظرة على محتويات صفحاتها، القراءة عبر الزوايا وبسرعة البرق كانت احدى مواهبي السرية. موهبة خبيئة، او ممارسة شيطانية. الوجه الآخر من حياتي كقارئة غريبة. في بعض الاحيان اكون قادرة على قراءة كتاب خلال دقائق قليلة. وأحياناً لا اكون في حاجة الى قراءة تلك الكتب، يكفيني ان ألمس الكتب او الاقتراب منها لأفهمها وأستمتع بها، هناك علاقة سرية تخترق عقلي، وربما تكون مهمة الصوت حينها تأكيد محتواها، بهذه الطريقة راجعت كتب مكتبة أبي، مكتبته تغص بكتب المذكرات الخاصة، وأشهر ترجمات "ساغارا"، والطبعات الأولى لأعمال معظم الشعراء القطالونيين خلال هذا القرن، اهمها اول كتاب للشاعر كارلس ريبا، وقصيدة "زهرة المطر" للشاعر سالفات - باباسيت. وكانت لديّ في ذلك الوقت فكرة رومانطيقية عن الكاتب والأدب. نحن القراء العنيدين نعاني من عقدة امناء المكتبات، او نعاني من الاحباط الناتج عن عدم قدرتنا على ان نكون امناء للمكتبة المتكاملة، الكاتب المتوسط القيمة ليس الا نتيجة لمزيج مكون من امين المكتبة السعيد ومبدع الكلمة. اعتاد ابي على التجسس عليّ اثناء قيامي بعمل امينة المكتبة، كان يشعر بالارتياح لمستقبلي، وكان يتصور انه بعد هذا العمل الصيفي يكفي القليل من الجهد من جانبه لإقناعي بالبدء في دراسة علم المكتبات. كنت اجلس على الطاولة الكبيرة في الشرفة المطلة على الحديقة، في مواجهة حمام السباحة، اضع ركاماً من الكتب على يساري، وأوراق التسجيل وسجل الكتب الضخم امامي، فيما تنطلق الموسيقى من جهاز فأشعر كأنني أسبح فيها، تلك الموسيقى التي اكتشفتها في تلك الفترة العابرة. لم أكن احن الى كتاباتي المجهولة، هذه الكتب التي كنت اطلع على محتوياتها اثناء تسجيلها كانت تعطيني احساساً بأن كل شيء على وشك الانتهاء، وانني لم اخطئ طريقي في فهم الفارق بين الكتابة او اللاكتابة، وإذا لم اتمكن من انجاز الرواية الميتة فإن كاتبة اخرى ربما تملك الموهبة التي لا املكها تستطيع الوصول الى كتابة تلك الرواية. اضافة الى تجسس أبي الذي كان محبباً الى نفسي، كان هناك تجسس آخر دخل حياتي خلال فترات عملي أمينة مكتبة موقتة. كان في عائلتي بعض ابناء العمومة المثاليين، كان يكفي ان تقول احدى العمات: "من الآن فصاعداً، سيكون هؤلاء ابنائي المثاليين"، حتى تسلم الأسرة بأن ابناء تلك العمة مثاليون، ويجب ان يكونوا المثال لباقي ابناء العمومة في الأسرة، ومنصب ملكة المثالية تم التنازل عنه للشقيقة الكبرى لأمي، العمة ايزابيل، وابنتها ايزابليتا، كانت انهت دراستها في علم المكتبات، اما ابنها ريكاردو فكان الطالب المتفوق في الهندسة الالكترونية. ابنة عمتي ايزابليتا ذات الشعر الاحمر، والنمش، المبتسمة الخجولة، لم تكن تحب القراءة، ومع ذلك كانوا يقدمونها على انها الفتاة الفائقة الذكاء لأنها اختارت دراسة علم المكتبات، وفي رأي العمة ايزابيل، فان تلك الدراسة لا يصلح لها الا من يتمتعون بذكاء خارق. كان أبي ينظم لي مواعيد مفاجئة مع ابنة عمتي ايزابليتا، التي كانت تكبرني كثيراً، وتختلف عني في كل شيء، بل وتختلف ايضاً عن ابنة عمتي كريستينا، تماماً كاختلاف الرواية عن كتاب قواعد اللغة. كانت ايزابليتا تجلس على طرف الطاولة الى جوار ابنة عمتي الانتحارية، وتكتفي بإبداء الملاحظات على عملي عن بعد، كانت ايزابليتا تعمل في الصباح اما بعد الظهيرة فكانت تتفرغ لعمل الاشياء التي تحبها، اضافة الى جلوسها الى جواري كالتمثال، او ارشادي بشكل مهني دقيق. كنت احسدها على شيء واحد، انها كانت سعيدة الحظ لأنها تعرفت الى أمي، بل كانت ضيفة الشرف في حفل زواج ابي وأمي، كانت تسير خلف امي حاملة ذيل الفستان وباقة زهور، تدل على ذلك الصور بالأبيض والأسود التي ظهرت فيها، لكن الطفلة التي تظهر في تلك الصور لا تكاد تشبه في شيء امينة المكتبة تلك التي تقتلني بإرشاداتها خلال ساعات وساعات كنت احاول خلالها ان أرضي ابي، من خلال رعاية كتبه، ورعاية نفسي من امراضي التي اصابتني بسبب هذه الكتب. كانت ايزابليتا تقول في شيء من التعالي: - العمل أمينة مكتبة امر مهم، لأن كتاباً واحداً يمكنه ان يشغلك ساعات، ولو كان الكتاب مخطوطاً فإنه يشغلك يوماً بكامله. كانت تقول ايضاً ان أمي كانت تتحدث بطريقة غريبة، متميزة، كانت تتكلم بسرعة، وكلماتها غامضة، لا استطيع ان أنسى انها كانت تؤكد على ذلك. كنت أكرهها لأنها كانت تذكرني بأمي دائماً، وأيضاً اكرهها بسبب انتقادها طريقة أمي الغريبة في الكلام. سرعتي في تسجيل الكتب كانت تصيبها بالاحباط، كانت ايزابليتا تحاول السيطرة على معارفها في علم المكتبات في مواجهة ابنة عمتها المسكينة، العصبية بعض الشيء، كأمها التي كانت تتذكرها في حديثها السريع، لم تكن تخجل من أن تقول لي ان عملي سيئ التنفيذ وانني لا اتبع القواعد العلمية في تسجيل الكتب: - لو كنت تعملين في مكتبتي لألقوا بك في الشارع. كانت تقول هذا من دون ان ترفع رأسها عن الطاولة، كانت ايزابليتا موسوسة بالتراب، والدقة العلمية، لأنها كانت تعتبرهما من اساسيات عمل أمين المكتبة، كانت تعاني من حالة عصبية تدفعها الى استخدام ظاهر يدها لمسح اي غبار يمكن تخيله، سواء كان ذلك على الكتب او على الطاولة، او على اوراق التسجيل، وعندما تتحدث تبدو كما لو كانت تستعد لضرب الشخص الذي أمامها. لم استطع فهم سبب ذلك الغضب الذي يصيبها، ربما كان بسبب عملها أمينة مكتبة، كانت تجلس شاردة، لم يكن لها اصدقاء ولا حتى يظهر ان لها عريساً في الأفق، على رغم انها لم تكن قبيحة الا ان ملامحها كانت تدل على انها تنتمي الى انصاف الموهوبين، من فئة امناء المكتبات الذين اتخذوا من الكتب عدواً لدوداً. كانت ابنة عمتي ايزابليتا تجد صعوبة في التحدث بلغتي الاسبانية. كانت تقول: - كل امناء المكتبات يتحدثون اللغة القطالونية. لم تكن لديّ أي مشكلة في مبادلتها الحديث بلغتها، تلك التي كانت تعتبر لغتي بشكل جزئي. ربما كان هذا هو السبب الذي دفعني الى دراسة علم المكتبات. - عن اي شيء تتحدث امينات المكتبة في مكتبتك؟ أجابت: - قبل كل شيء عملنا في المكتبة وليس في اي مكان آخر، ولكي تكوني أمينة مكتبة جيدة، لا بد من تحديد المهام، وعلينا جميعاً تأدية مهامنا بشكل مثالي. انها مهمة جادة. شعرت ان صوتها متكلف، وان عملها في المكتبة مسخ جزءاً من عقلها الارشيفي. لكن ايزابليتا كانت تشعر بالفخر بدراستها علم المكتبات، قد أصيبت بشيء من جهل القراء الذين يحيطون بها في عملها بالمكتبة، العجيب انها ظلت تعتبر عملها الافضل والأكثر ثقافة، والأصعب من بين كل المهن. صوتها كان يمنعني من الرد عليها بكلمات لطيفة او سيئة كانت تستحقها، لم اكن قادرة على اقناعها بالعدول عن مواصلة الحديث عن عملها في المكتبة الجامعية، التي تشبه صندوقاً للأشياء الضائعة، لكن ايزابليتا كانت تشعر بأنها متماسكة ومتعلقة بشكل غريب بقواعد العمل المكتبي العقيم، كانت تواصل تنظيف الطاولة التي كنت اعمل عليها اثناء تسجيل الكتب. كان الصوت يقول لي: - ايزابليتا خطرة. ابتعدي عنها وإلا فانها ستحولك الى شخصية عقيمة مثل الذين يتمسكون بحرفية القواعد المكتبية. حينها ابتعدت عن الكتب وقلت لايزابليتا: - العاطلون عن العمل يمكنهم فهم اشياء كثيرة لا يفهمها المشغولون بكل شيء. ردت عليّ بقولها: - انها كذبة كبرى. عند تلك اللحظة انتهى حديثنا، لأن ابنة عمتي كانت مقتنعة بأنني مريضة عصبياً، وهذا، هو السبب الذي يجعلني اقول هذا عن عملها. كنت واثقة من انها كانت تحفظ الجمل الغريبة التي اقولها لتقصها بعد ذلك على أبي. لكنني في هذه المرة شعرت بالزهو من كلامي، يا ترى من اي كتاب تعلمت هذا الكلام؟ لم اكن مقتنعة أبداً أنني يمكن ان أقول كلاماً مثل هذا من تلقاء نفسي، اي قارئ لا يمكنه ان يصبح مفكراً اصيلاً، لأن افكار الكتب التي يقرأها او لا يقرأها تمنعه من ذلك. ابنة عمتي ايزابليتا كانت تثق في امينات المكتبة، ولكنها لم تكن تثق في او في العاطلين عن العمل مثلي، لهذا قلت لها: - هذه الجملة التي ترين انها مجرد ترهات كتبها فيلسوف مهم جداً. اجابت بوثوق الخبير: - هذه الجمل يجب ان تكون دائماً مرفقة باسم المؤلف وتفاصيل الكتاب التي وجدت فيه. وإذا لم يكن كذلك فانك ترتكبين غشاً. نصحني الصوت: - تخلصي من تلك الكتب ومكتبة ابيك الى الأبد، اذا لم تهربي الآن فانهم سيدفعونك بعيداً عنها، يعطونك الكتب الآن لتشفي من مرضك، ثم يبعدونك عنها لتنتكسي من جديد، فتصبحين مريضة رغماً عنك طوال حياتك. مكتبة أبي واللغة تشكل جزءاً من حياتي ومن مرضي الخفي، وربما اتكلم الآن من خلال لغة أبي الفارغة. اشعر انني اتحمل مسؤولية كل الساعات التي اضعتها في تنظيم كتبه المحبطة. وهكذا حدث في صباح احد الأيام، في نهايات الصيف، خرجت من غرفتي لأقول انني ايزابليتا، وانني في حاجة الى تناول افطار سريع لأن الوقت متأخر، ولا اريد ان اصل متأخرة عن موعدي مع اول عمل لي، كنت استيقظت وأنا اتحدث كما كانت تفعل خارقة الذكاء ايزابليتا، مستخدمة اللغة نفسها التي تستخدمها كتب أبي، مع هذا فان التفصيل لم يكن سوى نتيجة عملية التحول التي طرأت على عقلي، شقيقاتي اللاتي لم يسعدهن الحظ للحديث مع امي، عندما بلغن سن المراهقة قررن الحديث بلغة خاصة بنا مع انها لم تكن لنا، ولم يكن هناك افضل من الأسر للبدء في اجراء تجارب اللغة. المدهش حقاً لم يكن استخدام لغة امي او لغة ابي مثلما كان تصميمي على الذهاب الى المكتبة التي لم اذهب اليها من قبل، وان اخضع لساعات عمل لم يجبرني احد على ادائه، وكان خضوعي مطلقاً من دون ادنى شكوى من مطالبهم التي يفرضونها على موظفة تعمل امينة مكتبة. سمح لي ابي ان اخرج من البيت وأن اذهب الى تلك المكتبة، وربما فعل ذلك عندما تأكد انني خرجت الى الشارع، ربما اتصل بايزابليتا تليفونياً ليتأكد من مدى صحة هذه الفكرة التي طرأت على تفكيري. كنت افعل الاشياء التي يريدها ابي، لكن ليس بالطريقة التي يريدها، وهنا يكمن الخلاف الخطير بين اي بنت وأبيها. كان الصوت يدفعني الى عمل اشياء تلفت النظر، وأكون فخورة كما كانت ايزابليتا فخورة بمكتبتها الجامعية، كنت افضل ان أبقى في البيت، ومواصلة عملي الخاص على مائدة الحديقة المواجهة لحمّام السباحة، والنوافذ الزجاجية مفتوحة لأن الوقت كان صيفاً، لكن الصوت فاجأني بأنه يؤيد ايزابليتا، وكان يتحدث بطريقتها المتعجرفة، وبطريقة الحديث المعروفة عن العاملين في الكتب، وفجأة ايضاً ايد الصوت ابي الذي كان يرغب في ان ادرس علم المكتبات لأرعى كتبه، وبذلك ابتعد عن الفوضى المتواصلة التي تغرق فيها كتبي. كان الصوت يملي عليّ القواعد الاساسية لعلم المكتبات، قاعدة بعد الاخرى: - عليك بكراهية القارئ، ان تكرهي الكتاب، وأن تحبي عملك الدؤوب قبل كل شيء، اي صديق للكتاب يكون عدواً شخصياً لك، اذا عاملت القارئ بشدة وصلت الى قمة سعادتك في العمل، عاملي الكتاب بقسوة فتحصلين على أعلى درجات المهنة، عليك باستخدام الكتاب في الوصول الى رئاسة هيئة المتاجرين في الكتاب، كل شيء مسموح ما دام الهدف هو الوصول الى الرئاسة او حتى ادارة مجموعة من امناء المكتبات. عليك باستخدام النميمة والتآمر والنفاق للوصول الى اهدافك التي يجب ان يكون هدفها شيئاً واحداً: ان تصبحي الموظفة العاجزة السجينة في مساحة مغلقة تتمثل في مكتبة عامة. هذه القواعد المهنية، وغيرها مشابهة لها، تعني وجودي في الجانب الصحيح والمطلوب، وإلا فانني لن اكون بالكفاءة المطلوبة مع زميلات العمل الجديد في مكتبة ايزابليتا الجامعية. من الممكن ان يفعل الانسان اشياء كثيرة في الحياة، ومنها ان اكون امينة مكتبة لفترة محددة، دخلت عملي في المكتبة باستعداد تام لأن اكون ظلا لابنة عمتي، التي كانت تنتظر وصولي بعد ان اخبرها ابي بقراري، قدمتني الى زميلاتها، جلست بعد ذلك الى جوارها على استعداد لتقليد كل اشارة من اشاراتها، وكل كلمة من كلماتها، وكل حركاتها في المكتبة، اتذكر ان النوافذ المطلة على شارع "بالميس" كانت مفتوحة، وكان المناخ حارا ورطباً ولزجاً، كان هناك عدد قليل من الطلاب في صالة القراءة، ربما لأن محاضرات العام الدراسي الجديد لم تكن بدأت بعد، لم تعترض اي موظفة على وجودي في صالة القراءة، اما انا فكنت على اتم استعداد لاطاعة الاوامر وتنفيذ اي عمل يُطلب مني، لا اعرف كيف استطاعت ابنة عمتي ان تقنع الزميلات انني قررت ان اكون امينة مكتبة مثلها. اعتقد انها اخبرتهن بأن حياتي المرضية تمر بفترة انتكاسة جديدة، وهذا هو الجانب الوحيد الذي يتفهمه العاملون في المكتبات، ولكن بشكل عابر، وكنت اعي ذلك، لكن حتى ذلك الوقت لم اكن اعرف انني بالنسبة اليهم جاسوسة، اظهر بشكل عفوي لمراقبتهم، لأكون في يوم من الأيام قادرة على افشاء اسرار ممارساتهن الرديئة، خصوصاً العاملات منهن على الاجهزة الالكترونية، لكن حتى تلك اللحظة لم اكن اعي ذلك، كل ما اعرفه انه عليّ ان اكون هناك، الى جوار المشتبه في علاقتهم بعلم المعرفة، لأتمكن في يوم ما من كتابة هذا وإفشاء تلك الأسرار. حافظت على عينيّ مفتوحتين، وكنت اسجل كل ما تريانه، وعندما كنت اتعب من المتابعة كنت اوجه عيني الى جانب آخر، الى حيث توجد الكتب والحقائق المكتبية المليئة بحب المعرفة، والقراءة وإقامة الصداقات، الى حيث يوجد قارئ الكتاب الحقيقي. شيئاً فشيئاً بدأت اكتشف هذا العالم المليء بالأسرار التي تكتمها كل المكتبات العامة، في هذه الحالة كانت تلك الأسرار التي تختفي تحت رداء عبادة الحقيقة العلمية، التي تطبقها مجموعة قليلة من المتطرفين الذين يحاولون اخفاء فشلهم الشخصي تحت عباءة التزام القواعد العلمية. انه قانون اخلاقي، مثل الثعبان، يتحرك في صمت ونعومة في داخل المكتبة الجامعية، ولكن بالسم على طرف اللسان لمهاجمة اي شخص يحاول اقامة علاقة حقيقية مع الكتاب. ترجمة طلعت شاهين * نوريا أمات Nuria Amat كاتبة اسبانية مقيمة في برشلونة.