عكس صدور كتابين عن الملك منصف باي وتخصيص مجلة "روافد" التي يصدرها المعهد العالي لتاريخ الحركة الوطنية في تونس عددها الأخير لهذه الشخصية الإهتمام الواسع لدى التونسيين بإلقاء أضواء جديدة على حقبة مهمة من تاريخهم المعاصر اتسمت بالصدام بين سلطات الانتداب والملك الذي دافع عن مطالب الحركة الوطنية وكان قريباً جداً من قيادتها ما حمل فرنسا على خلعه في العام 1943. وعزا مؤرخون قلة الإهتمام بدراسة الظروف التي أحاطت باعتلاء منصف باي العرش الحسيني وأسباب عزله، الى أن الرئيس التونسي السابق الحبيب بورقيبه كان لا يطيق الكلام عن منصف باي كونه ملأ الساحة السياسية وشغل الناس في الأربعينات حتى كاد يغطي على زعامته. وفيما تركت الأسرة الحسينية التي حكمت تونس من 1705 الى 1957 انطباعاً سلبياً لدى الناس بسبب تعايشها مع سلطات الاحتلال برز منصف باي بوصفه رجلاً وطنياً وحظي بشعبية واسعة مثلما كشف ذلك كتاب الدكتور سعيد المستيري عنه الصادر في "دار أقواس للنشر" أخيراً والذي يعتبر مصدراً شاملاً عن الرجل. وفي أكبر تظاهرة "ملكية" في تونس منذ اعلان النظام الجمهوري في العام 1957، جلس رئيس مجلس النواب فؤاد المبزع والوزير الأول السابق الهادي البكوش وحشد من كبار المسؤولين السابقين في مقدم الحضور في الاحتفال الذي أقامته أخيراً "جمعية خريجي المدرسة الصادقية" لمناسبة مرور نصف قرن على رحيل الملك منصف باي. وتخرج من "مدرسة الصادقية" التي أسسها المصلح خير الدين التونسي في القرن الماضي أبرز رجال السياسة والفكر في تونس في القرن العشرين أمثال الحبيب بورقيبة وصالح بن يوسف والباهي الأدغم محمود المسعدي. وعلى رغم المناكفة التي حصلت بينه وبين زعيم الحركة الوطنية بورقيبة الذي أظهر ضيقاً واضحاً من صعود نجم الملك المخلوع والتفاف الشارع حوله الى درجة كرست تقسيم الصف الوطني الى "منصفيين" و"دستوريين" نسبة للحزب الحر الدستوري بزعامة بورقيبة احتفظ التونسيون بعطف خاص على "الملك الشعبي" لم تمحه الإدانة الشاملة للأسرة الحسينية الحاكمة لدى إعلان الاستقلال في الخامس والعشرين من تموز يوليو العام 1957. وظهرت في السنوات الأخيرة موجة قوية ترمي لرد الاعتبار له بدأها أكاديميون ومؤرخون من كلية الآداب كتبوا مقالات وأبحاثاً كشفت حقائق كثيرة عن شبكة العلاقات العلنية والخفية التي كان يحتفظ بها مع الحركة النقابية وأوساط العلماء في جامعة الزيتونة والحزب الدستوري بجناحيه التقليدي والتجديدي ورجال الأعمال الوطنيين وفي مقدمهم محمد شنيق الذي كلفه تشكيل أول حكومة وطنية. وفي سياق رد الاعتبار "للملكية الوطنية" أصدر الدكتور سعيد المستيري كتابه الشامل في طبعتين فرنسية وعربية عن منصف باي الذي أثار اهتماماً واسعاً في الأوساط السياسية والأكاديمية كونه اعتمد على وثائق لم تنشر من قبل تركها صهره محمد شنيق. واللافت أن شنيق والذي باشر لاحقاً أول مفاوضات للحصول على الاستقلال رأس حكومة شكلها مطلع الخمسينات في ظل الملك أمين باي الذي ورث العرش الحسيني من منصف باي وكان آخر ملوك تونس. أما الرجل الثاني في حكومة شنيق ووزير العدل فلم يكن سوى أمين عام "الحزب الحر الدستوري" المحامي صالح بن يوسف. وما أن دخلت القوات الفرنسية الى تونس بعد هزيمة القوات الألمانية والإيطالية أثناء الحرب العالمية الثانية حتى اتجه قائدها الجنرال جوان الى القصر الملكي في ضاحية حمام الأنف وسلم الباي الملك منصف قرار عزله واستبداله بالباي أمين ولي عهده. تتشابه مأساة محمد الخامس ومنصف باي كثيراً فكلاهما أزيح من العرش بالقوة الغاشمة ليعين محله ملك طيع لا يؤذي سلطات الإحتلال. وفي كلتا الحالين ظهرت حركة شعبية واسعة لتأييد الملك المخلوع ونبذ خلفه حتى أن التونسيين كانوا ينعتون "أمين باي" بكونه "باي الفرنسيين". والطريف أن كبار المسؤولين العسكريين والمدنيين الفرنسيين الذين تسلمو السلطة في تونس بعد "تحريرها" من الألمان والطليان وخلع منصف باي كانوا يلقبون "بالمغاربة" كونهم سبق أن حكموا المغرب بقبضة حديد قبل المجيء الى تونس. إلا أنه حظي باهتمام وعطف واسعين من شخصيات عربية ودولية كثيرة بينها أمين عام الجامعة العربية عبدالرحمن عزام والأمير عبدالكريم الخطابي وعلال الفاسي ورؤساء حكومات عربية وغربية. وما زالت الكتب تصدر في تونسوفرنسا واحداً بعد آخر لنفض الغبار عن سيرته ورد الاعتبار لدوره التاريخي على نحو أنهى الصمت الذي أحاط بمأساته طيلة نصف قرن وأخرج أوراقها المخفية الى الضوء.