في الحلقة الثانية والأخيرة من هذا المقال، يعرض وزير المياه والري السابق في الأردن منذر حدادين، تطور علاقات المياه بين الأردن وسورية، ويتطرق إلى أزمة المياه الملوثة القادمة من بحيرة طبريا في إسرائيل، ويطلق عليها فقط اسم "أزمة المياه"، نافياً عنها صفة التلوث، ويعتبرها أزمة أردنية وليس أزمة أردنية - إسرائيلية، ويعلن الرأي نفسه تجاه أزمة شح المياه والتي هددت إسرائيل فيها بتخفيض ضخ المياه إلى الأردن، ثم تراجعت عن ذلك، ويقول إنها أزمة أردنية الطابع والدافع. يعود تاريخ التعاون الأردني مع الشقيقة سورية ،إلى عهد أول حكومة بعد تولي المغفور له الملك الحسين سلطته الدستورية، إذ تم التوقيع على اتفاق بين البلدين لبناء سد عالٍ في موقع المقارن كان اكتشفه مهندس يعمل مع النقطة الرابعة الأميركية في الأردن هو المهندس سيلز بنغر، وتم إدراج ذلك السد سد المقارن ضمن الخطة الموحدة لتطوير حوض الأردن مشروع جونستون بغية تخزين 300 مليون متر مكعب لصالح الأردن فيه، وإذا اضيف إلى ذلك 30 مليوناً أخرى من تصريف النهر بعد السد، يكون الأردن استوفى حقوقه في نهر اليرموك ويحتل السد التحويلي عند العدسية المشار إليها آنفاً ركناً أساسياً في اقتصاديات سد المقارن، ولا بد من بنائه كي يكون مشروع سد المقارن مجدياً للأردن، وإلا ستذهب كمية لا بأس بها من مياه ذلك السد باتجاه نهر الأردن ويكون عرضة للضخ الإسرائيلي. عاود الأردن اتصالاته مع الشقيقة سورية بعد حرب 1973 لبناء سد المقارن ولم تفلح مساعيه لسببين: الأول، احجام الشقيقة سورية حتى عام 1981 عن إعطاء الموافقة الخطية لبناء السد بموجب الاتفاق المبرم بينهما عام 1953. الثاني، اخفاق الأردن في الحصول على ترتيبات تسمح ببناء السد التحويلي عند العدسية، إذ أصبحت الضفة المقابلة للأردن تحت الاحتلال الإسرائيلي نتيجة حرب 1967 بعد أن كانت منطقة منزوعة السلاح بين الجيشين السوري والإسرائيلي منذ عام 1948، وهي شريط من الأرض يقع ضمن أراضي فلسطين بموجب صك الانتداب على سورية وعلى فلسطين. وهناك سبب يتعلق بالتمويل الذي أوكله الأردن للبنك الدولي، إذ يتعذر الحصول على قروض لبناء سد على نهر دولي كنهر اليرموك من دون الموافقة الخطية من الدول صاحبة الحقوق وهي سورية والأردن وإسرائيل. وتعذر الحصول على موافقة الطرفين الآخرين الخطية. ودخلت العلاقة الأردنية - السورية مرحلة جافة منذ بدء الحرب العراقية - الإيرانية وحتى عام 1985 حين بادر الأردن الاتصال بسورية مرة ثانية من أجل بناء السد العربي مدار البحث. واتفق الجانبان على تغيير اسم السد واطلاق اسم سد الوحدة" عليه بدل "سد المقارن" وتم تجاوز الاحجام السوري عن الموافقة على بنائه بإلغاء الاتفاق المبرم عام 1953 وإحلال اتفاق آخر محله عام 1987 تنازل فيه الأردن لسورية عن حق تخزين مياه الفيضان كاملة في "سد الوحدة"، وتم إدراج السدود السورية في حوض اليرموك ضمن الحقوق السورية. وجدد الأردن جهوده لبناء السد التحويلي عند العدسية عن طريق الوساطة الولاياتالمتحدة، ولم توفق تلك الوساطة قبل اجتياح الكويت وبدء عملية السلام، وما أن بدأت عملية السلام حتى تم الاستغناء عن جهود الطرف الثالث الولاياتالمتحدة، وانتهت المفاوضات بالمعاهدة وملحقها الخاص بالمياه الذي نص في ما نص عليه على بناء السد التحويلي، وتم الانتهاء من الترتيبات الخاصة لبنائه يوم الأحد 9/8/1998 قبل استقالتي من الحكومة بعشر ساعات. وببناء السد التحويلي والاتفاق على حصص المياه مع إسرائيل في نهر اليرموك على النحو الذي وافق عليه العرب ورفضته إسرائيل ينفتح الباب على مصراعيه لبناء سد الوحدة، خصوصاً وأن الشقيقة سورية متحمسة لذلك، ولا أرى عقبة أمام بناء السد سوى التمويل السهل، وهو ما يستدعي تحديث الجدوى الفنية والاقتصادية للمشروع في ضوء المستجدات في الأراضي السورية من الحوض، إذ بينت آخر دراسة أجريت عام 1988 ان سداً بارتفاع 95 متراً يمكن أن يعطي تصريفاً عند موقع المقارن مقداره 120 مليون متر مكعب لسورية منها حوالى 8 ملايين بالاضافة إلى 75 في المئة من الطاقة الكهربائية المتواضعة، ويتحمل الأردن كلفة بناء السد كاملة، ونأمل ألا تأتي الدراسة التي سيطلبها الممولون بمفاجآت تجعل بناء السد عصيا على الجدوى. مشاريع المياه والاتحاد الأوروبي إثر زيارة سمو الأمير الحسن إلى بروكسيل في تشرين الثاني نوفمبر 1994، وافق الاتحاد الأوروبي وكانت المانيا رئيسة الترويكا على تخصيص مبلغ 11 مليون ايكو وليس 500 مليون كما أورد كاتب المقال، وذلك لدراسة إقامة سدين على نهر الأردن وليس السد التحويلي على نهر اليرموك كما ادعى المقال، ولدراسة مشاريع نقل المياه من أغوار الأردن إلى مدنه لاغراض الشرب، وكذلك لدراسة بناء محطات لمعالجة المياه العادمة في الجانب الأردني من حوض نهر الأردن لحمايته من التلوث. ولم يكن هناك أي مخصصات لمشروع تحلية المياه، كما أورد الكاتب. وتوقفت الدراسات هذه لأسباب لا يتسع المجال لذكرها. الأزمة الثالثة والأزمة الرابعة كنت الوزير المسؤول في الصيف الماضي عندما فجرت الصحافة قضية المياه، والموضوع حري بمقال منفصل، إلا أن الأزمة كانت بسبب نقص في تزويد المياه إلى غرب عمّان من قناة الملك عبدالله، وأسباب النقص هذه تعود إلى إصرار وزارة الصحة على التخلص من "نيما تود حر" غير ذي أذى على الصحة، كان متجمعاً في أحواض الترسيب والمرشحات في محطة تنقية المياه على مدى عشر سنين، ولكنه يقضي عليه بالكلورة والتعقيم، وهو بحد ذاته غير مضر بالصحة حتى لو كان حياً، واستدعى إصرار وزارة الصحة إلى تنفيذ برنامج غسيل عكسي للمرشحات وتنظيف لأحواض الترسيب، وهي عملية تمت في غير موعدها بسبب ذلك الإصرار. واستدعى ذلك تشغيل المحطة بنصف طاقتها وأحياناً أقل من ذلك، وهو ما سبب أزمة التزويد في غرب عمّان، وانتهز ذلك العديد من الاتجاهات السياسية ذات المشارب المختلفة والمآرب المتضاربة، وألقوا باللائمة على المياه المجرورة من بحيرة طبريا، وهي المياه نفسها التي يطالبون بها اليوم! ويأخذ الأردن هذه المياه من نهاية انبوب إسرائيلي يزود القرى الإسرائيلية بمياه الشرب، هذا الأنبوب يصل إلى نقطة تبعد حوالى 150 متراً عن الحدود الأردنية ومنها يبدأ الأنبوب الأردني لمسافة 2.3كم قبل أن يصب المياه في قناة الملك عبدالله عند قرية العدسية الأردنية، وهناك تختلط بالمياه الجارية من نهر اليرموك وتلك القادمة إلى القناة من ابار المحنية، ويجري خليط المياه هذه لمسافة 63كم في القناة المكشوفة قبل أن تضخ عبر أنبوب بقطر 1200ملم إلى محطة التنقية في زي ومنها إلى عمّان. ونمو الطحالب في المياه السطحية أمر طبيعي، إلا أن الذي لم يكن طبيعياً في الصيف الماضي هو ارتفاع درجات الحرارة إلى مستويات غير مألوفة، وقدوم مغذيات فوسفاتية في مياه اليرموك مع بعض أنواع الطحالب، وقدوم طحالب أخرى من طبريا، واختلطت الطحالب مع مغذياتها في درجات حرارة عالية ونشط نمو الطحالب في قناة الملك عبدالله نشاطاً كثيفاً. وتواجه هذه الحالات عادة بتخفيض التدفق إلى محطة التنقية وتتطلب دقة في التشغيل والإدارة. وأفرزت بعض أنواع الطحالب غازاً يذوب في الماء غير مضر بالصحة، لكنه يترك في الماء آثاراً لطعم خفيف ورائحة لا يشعر بها المدخن، واستمرت هذه الظاهرة مدة 60 ساعة فقط وتم السيطرة عليها من دون أية آثار صحية. إلا أن نقص التزويد استمر طيلة الصيف بغية التخلص من النيماتود الحر المعقم من دون جدوى، ومشكلة آثار الطعم والرائحة لا تستحق ضجة كتلك وهي مألوفة في منطقة البحيرات العظمى في كنداوالولاياتالمتحدة كلما ارتفعت درجات الحرارة. وعلى رغم الضجة الصحافية التي شارك فيها حتى الإعلام الرسمي إلا أن الحقائق تبرهن خلاف ما نشرت الصحف وخلاف ما تناقلته الوكالات من تلوث في المياه. ولم تكن المياه ملوثة أبداً، إلا أن نقص التزويد مهد الطريق لكل الادعاءات غير المستندة إلى الحقائق. حتى أن صحفاً يومية وكتاباً محترمين ادعوا ان ما تضخه إسرائيل للأردن هي مياه مجاري هكذا فقد كان نقص المياه مناسبة للهجوم على معاهدة السلام بكيفية عرفناها عن ذوي الدوافع السياسية. وهدأت العاصفة الصحافية بإستقالة الحكومة ولم تكن استقالتي كافية. إذ كان المطلوب هو رأس الحكومة وتطلب ذلك تشويه الحقائق، وهكذا كان. وعليه فإن الأزمة الثالثة هي أزمة أردنية المنشأ أهدافها سياسية بعضها كان قريب المدى وباقيها كان بعيد المدى، ولا أرى سبباً للزج بإسرائيل فيها إلا من باب حشد الصفوف لمقاومة التطبيع. وأثارت "الأزمة الرابعة" من الزوابع الأردنية والعربية والعالمية ما كنا في غنى عنها إلا إذا كانت أهدافنا تصعيد الموقف مع إسرائيل. ورد على لسان مفوض المياه الإسرائيلي ان شح المياه سيفرض عليهم تخفيض مياه الزراعة بواقع 40 في المئة عن معدلها الاعتيادي بسبب موسم الجفاف. وقال المفوض إنهم لن يستطيعوا تزويد الأردن بالكمية الاعتيادية المنصوص عليها في معاهدة السلام ولم نسمع ما يدعم ذلك من الوزير الإسرائيلي المختص أو من رئيس الوزراء. وتنص المعاهدة في المادة السادسة منها على تعهد الطرفين أن يتعاونا لمواجهة شح المياه، وهو نص لصالح الأردن، خصوصاً في غياب وسائل التخزين على نهر اليرموك. وتخفيض مياه الري عندهم ليس بالأمر الهين، وهو مكلف سياسياً في سنة انتخابية. وأظن ان مفوض المياه الإسرائيلي شمل الأردن في موضوع انقاص التزويد كي يكون لديه مبرر أقوى يدعم انقاص مياه الري عندهم بأقل الخسائر السياسية، وأثمرت المحادثات الثنائية الهادئة عن التزام إسرائيل بتزويد الأردن بنصيبه المتفق عليه، ويمكن القول إن "الأزمة الرابعة" أردنية الطابع والدافع. ولا بد من التأكيد ان تطلعات الأردنيين إلى ثمرات التعاون مع الشقيقة سورية، خصوصاً ودول الخليج أيضاً، هي تطلعات حقيقية مشروعة، وان آمالهم معقودة على هذا الانفراج في علاقات البلدين، وعلى جهود دعمها وتقويتها، ولديّ مبررات لاستباق التنفيذ والتعبير عن الفرحة للقرار السوري بدعم الأردن وقرار القيادة إسالة مياه معلومة إلى الأردن في نهر اليرموك من سد سحم الجولان على وادي العلان اعتباراً من أول حزيران يونيو، فلكل موعد أخوي فرحته الخاصة وفرحتنا بالمياه المجرورة من الجولان تفوق فرحتنا لدى ارساله مياهنا من بحيرة طبريا يوم 15/5/1999. * وزير المياه الأردني السابق.