قبل أن تضع الثورات العربية أوزارها، بدأت الآثار الأدبية التي تستوحي هذه الثورات بالظهور، ولعل رواية «جملكية آرابيا» للروائي الجزائري واسيني الأعرج (منشورات الجمل) هي من الآثار الأخيرة التي استوحت هذا الحدث المستمر في غير منطقة عربية، وإن كان صاحبها كتبها بين عامي 1988 و2011، فذكر المقدّمات التي أدّت إلى انبثاق الحدث الكبير، ورصد الحدث ذاته وما آل إليه من نتائج مباشرة، في نصٍّ روائي طويل، هو أقرب إلى ملحمة روائية منه إلى رواية عادية. وبالدخول إلى الرواية من عتباتها، نشير إلى أن كلمة «جملكية» هي كلمة منحوتة من كلمتي «جمهورية» و«ملكية»، في إشارة إلى أن الحكم العربي يبدأ جمهوريّاً وينتهي بتوريث الرئيس ابنه الحكم، وكلمة «آرابيا» تحيل إلى البلاد العربية. بينما يحيل العنوان الفرعي «حكايات ليلة الليالي» إلى «ألف ليلة وليلة»، وهي إحالة نجد ترجمتها الفعلية في النص سواءٌ على مستوى الشكل أو المضمون. أمّا لوحة الغلاف التي تمثّل إعدام الحلاّج في بغداد فهي مدخل مناسب إلى ضيق صدر السلطة العربية بمعارضيها والمصير الذي يمكن أن ينتظرهم. في «جملكية آرابيا» يقوم واسيني الأعرج بمحاكمة روائية للحاكم العربي طيلة أربعة عشر قرناً، ويقوم بتعرية آليات الحكم، ويضيء حركات المعارضة والعلاقة بين الحاكم والمحكوم ودور البطانة في التأثير على قرارات الحاكم، يفعل ذلك من خلال الأحداث الروائية المترجحة بين وقائع وذكريات، تمتد زمنيّاً على أربعة قرون، ومكانيّاً على البلاد العربية والأندلس. لذلك، يطيح بالزمن الكرونولوجي، وبوحدة المكان، وبواقعية الشخصيات، فندخل معه إلى فضاءات الواقعية السحرية، ويحملنا على أجنحة المتخيّل. ولعله بهذا الشكل يريد الإحالة إلى لاواقعية الواقع العربي، وسحريّته، وسيطرة العقل الغيبي على كثير من مجريات الأمور. في الرواية ثمة راوٍ عليم يحضر لماماً في النص، وثمة حوار بين الحاكم ودنيازاد التي تستأثر بفعل الروي ويشكّل هذا الحوار الطويل إطاراً خارجيّاً للحكايات الأخرى، وثمة رواة فرعيون كبشير المورّو القوّال المعارض وسواه. وكلٌّ من هؤلاء يحكي قسطه من الحكاية، فتتشكّل من هذه الأقساط حكايات ليلة الليالي التي تعادل الحياة أهمية. والعلاقة بين الرواة هي علاقة احتواء؛ فالراوي العليم يحتوي دنيازاد، وهذه تحتوي بشير، وإن كانت الأكثر استئثاراً بفعل الروي انسجاماً مع شخصيتها التي تحيل إلى شخصية شهرزاد في «ألف ليلة وليلة»، مع وجود فارق أساسي في الوظيفة والدور بين الشخصيتين. فكأننا في «جملكية آرابيا» إزاء نسخة معاصرة من «الليالي» تعتمد على شهريار معاصر هو الحاكم، وشهرزاد معاصرة هي دنيازاد، ومعارض معاصر هو بشير. وتعزّز هذه المعاصرة مصطلحات حديثة كالفايسبوك والتويتر والإنترنت واليوتيوب. وهكذا، يخرق الأعرج في روايته وحدات المكان والزمان والشخصيات، ويخلط بين الأزمنة المتباعدة والأمكنة المتفرقة والشخصيات الواقعية وغير الواقعية. وبعيداً من الغوص في تقنيات السرد وآلياته، وبغضِّ النظر عن اتكاء الرواية على المنجز العربي القديم والحديث، والمنجز الإنساني، الروائي والثقافي، نشير إلى أن حركيّة الأحداث في الرواية تقوم على مجموعة من الثنائيات المتضادة، منها: الحاكم وبشير، السلطة والمعارضة، السلطة والشعب، القلعة والقصر، الناس وبنو كلبون، العلماء والشرطة، الحاكم ودنيازاد، القوالون والمؤرخون. ولكلِّ طرف من طرفي الثنائية الواحدة امتدادات وتفرّعات. وتسهيلاً للقراءة سنكثّف هذه الثنائيات في واحدة، هي: ثنائية السلطة والمعارضة. على ضفّة السلطة، تقدّم الرواية صورة كاريكاتورية للحاكم العربي، تفضح استبداده، وخوفه، وضعفه، وساديّته، وانقطاعه عن الواقع، وغرقه في الأوهام، وضيق أفقه، ونفاد صبره، وبطشه، وظلمه. وتضفي عليه من الألقاب ما يثير السخرية. وهو الممتد زمنيّاً حتى الخليفة الثالث، ومن أسلافه أبو عبدالله محمد الصغير الذي باع غرناطة بزغب القشتاليات. وهو الممتد مكانيّاً فنجد له نظائر وأشباهاً في معمر القذافي وصدام حسين وسواهما. وهو المهووس بالسلطة لا يتورّع عن القتل لأجلها: «على آرابيا أدمر العروش والبشر وآكل رأس ابني الوحيد. على آرابيا لن أرحم لا أمي ولا أبي ولا حتى ابني إذا ركب رأسه ورأى أهليته منها.» (ص57). هو العقيم جسديّاً وسياسيّاً. يتآمر مع الأجنبي (الشماليين)، ويستعين بالغرباء (بني كلبون) ليبقى في الحكم. هو القوي على المرأة والضعيف أمامها؛ فيعمد إلى قتل النساء كلّما أراد التنفيس عن حقد أو غضب كما فعل سلفه شهريار لأسباب مختلفة، ويصبح دمية بين يدي دنيازاد زوجته الصُّوَرية التي تمارس عليه سلطتي الحكي والغواية، فيضطر إلى قمع غضبه مما يسمع بالعض على قماشة حمراء، هو ألعوبة بين يديها، فهي التي تحكي الحكاية وتتحكم بمسارها، حتى إذا ما انتهت الحكاية وعزم على الانتقام منها بتدبير قتلها مع ولدها قمر الزمان، يكتشف أنه كان زوجاً مخدوعاً، وأن الورّاق/المؤرخ الذي كان يدوّن حكايته المزوّرة للوقائع هو زوج دنيازاد وأبو قمر الزمان الحقيقي، وتكون نهايته على أيديهم. هذا الحاكم يعتمد في حكمه على الأجنبي خارجيّاً، وعلى الورّاقين الذين يدوّنون روايته المزوّرة للتاريخ، وعلى رجال دين داخليّاً، يسبغون غطاءً دينيّاً على ظلمه فيغدو الخروج عليه خروجاً على الدين، وهذه الفئة الأخيرة تمثّلها في الرواية شخصية الخضر. هي الأساليب نفسها يمارسها المستبدون في التعامل مع الخارج والعمالة له، وفي تسخير الدين والمؤرّخين لمآربهم الخاصة. على ضفّة المعارضة، تبرز شخصية بشير المورّو، القوّال الأندلسي الطالع من أعماق التاريخ، المسكون بهزيمة الأندلس وجراحات الحب ووجع المنفى، وهي شخصية تعادل المعارض السياسي المعاصر، هي شخصية متخيّلة غرائبية عمرها أربعة قرون أمضت معظمها في الكهف، تحيط بها الحكايات، ويكتنفها الغموض، وتُنسَب إليها الكرامات فيرى إليها الشعب كمهديٍّ منتظر، ويكون على يديها خلاص «آرابيا» من حاكمها المستبد. في غمرة الصراع بين الحاكم وبشير، بين السلطة والمعارضة، ثمة واقعة شكّلت نقطة تحوّل في مسار الصراع، وكانت لها تداعياتها على نتائجه، هي المناظرة التلفزيونية بين الحاكم وبشير السجين، ففي حين أرادها الحاكم فرصة لتعرية معارضه وإظهاره بمظهر المخبول الذي لا يملك شيئاً، جاءت المناظرة لتعرية الحاكم. وهذه الواقعة الروائية لا أساس واقعيًّا لها في عالم المستبدين والطغاة، فليس ثمة حاكم يقبل بأن يناظر سجيناً معارضاً له. ومع ذلك، تأتي المضاعفات التي ترتّبت عليها من اعتقال بشير وحقنه بالإبر المخدّرة وإعطائه الأقراص لتعطيل ذاكرته التي هي أكثر ما يخشاه الحاكم، وتفاقم الثورة، وقتل الحاكم من قبل بطانته، واستلام الشعب الحكم، لتشكّل النهاية الطبيعية للأحداث. على أن غير الطبيعي في تلك النهاية أن ملهم الثورة ومحرّكها بشير يرفض استلام الحكم، ويؤثر العودة إلى الكهف/ التاريخ، في إيحاء روائي إلى أن المحرّك الثوري لم يطلع من الواقع المعيش بل هو مستورد من التاريخ، حتى إذا ما أنجز مهمته عاد من حيث أتى. في «جملكية أرابيا» الممتدة على ستمائة وستين صفحة ثمة وقائع وأحداث تتكرّر، ويتعدّد ذكرها بتعدّد الرواة، ولعل ذلك يعود إلى طول الرواية وتعدّد رواتها. وفي الرواية حيِّز كبير للذكريات يقارب حيّز الوقائع، ولعل ذلك يعود إلى أن الشعوب العربية تعيش في ماضيها بقدر ما تعيش في حاضرها، على أن الإيجابي في هذه النقطة هو أن هذا الماضي شكّل مهمازاً للحاضر للانطلاق نحو المستقبل. على أية حال، استطاع واسيني الأعرج، قبل أن تضع الثورات أوزارها أن يقدم نصًّا يرصدها، يقرأها، يستشرف مسارها، ينحاز إليها. هو أقرب إلى الملحمة الروائية منه إلى الرواية. لا يمكن لتعب قراءته أن يحجب لذة القراءة.