التميمي يُشارك في فعالية "الفضاء لتحقيق أهداف التنمية المستدامة"    مقتل 51 شخصا في انفجار منجم للفحم في شرق إيران    إشادة عالمية بفوز الهلال على الاتحاد في الكلاسيكو السعودي    الأمم المتحدة تحذر من "كارثة وشيكة" في الشرق الأوسط    شيخ شمل قبيلة السادة والخلاوية: نستلهم في اليوم الوطني ال94 النجاحات المُحققة للمملكة على مرّ الأجيال    القيادة تهنئ رئيس الفترة الانتقالية رئيس الدولة في جمهورية مالي بذكرى استقلال بلاده    "فلكية جدة": اليوم "الاعتدال الخريفي 2024" .. فلكياً    الربيعة يتحدث عن التحديات والأزمات غير المسبوقة التي تعترض العمل الإنساني    "الأرصاد" استمرار هطول الأمطار على جازان وعسير والباحة ومكة    نائب أمير الرياض يؤدي صلاة الميت على هذال بن سعيدان    الموت يغيب مطوف الملوك والزعماء جميل جلال    البليهي: مشكلة الاتحاد انه واجه الهلال وكل المدافعين في اتم الجاهزية    رايكوفيتش: كنا في غفوة في الشوط الاول وسنعود سريعاً للإنتصارات    أخضر تحت 20 عام يبدأ التصفيات الآسيوية بالفوز على فلسطين    مئوية السعودية تقترب.. قيادة أوفت بما وعدت.. وشعب قَبِل تحديات التحديث    السيوفي: اليوم الوطني مناسبة وطنية عظيمة    صناديق التحوط تتوقع أكثر السيناريوهات انخفاضاً للديزل والبنزين    وزير الخارجية يبحث مع نظيره الجزائري الأوضاع في غزة    في كأس الملك.. الوحدة والأخدود يواجهان الفيصلي والعربي    ولي العهد يواسي ملك البحرين في وفاة خالد آل خليفة    "متحالفون من أجل إنقاذ الأرواح والسلام في السودان" يؤكد على مواصلة العمل الجماعي لإنهاء الأزمة في السودان    «الأمم المتحدة»: السعودية تتصدر دول «G20» في نمو أعداد السياح والإيرادات الدولية    أمانة القصيم توقع عقداً لنظافة بريدة    وداعاً فصل الصيف.. أهلا بالخريف    «التعليم»: منع بيع 30 صنفاً غذائياً في المقاصف المدرسية    "سمات".. نافذة على إبداع الطلاب الموهوبين وإنجازاتهم العالمية على شاشة السعودية    دام عزك يا وطن    بأكبر جدارية لتقدير المعلمين.. جدة تستعد لدخول موسوعة غينيس    279,000 وظيفة مباشرة يخلقها «الطيران» في 2030    "قلبي" تشارك في المؤتمر العالمي للقلب    فريق طبي بمستشفى الملك فهد بجازان ينجح في إعادة السمع لطفل    اكتشاف فصيلة دم جديدة بعد 50 عاماً من الغموض    لا تتهاون.. الإمساك مؤشر خطير للأزمات القلبية    لعبة الاستعمار الجديد.. !    فأر يجبر طائرة على الهبوط    حل لغز الصوت القادم من أعمق خندق بالمحيطات    مسيرة أمجاد التاريخ    مركز الملك سلمان: 300 وحدة سكنية لمتضرري الزلزال في سوريا    ضبط 22716 مخالفا لأنظمة الإقامة والعمل وأمن الحدود خلال أسبوع    فلكياً.. اليوم آخر أيام فصل الصيف    إقامة فعالية "عز الوطن 3"    الابتكار يدعم الاقتصاد    تعزيز أداء القادة الماليين في القطاع الحكومي    صور مبتكرة ترسم لوحات تفرد هوية الوطن    الملك سلمان.. سادن السعودية العظيم..!    خمسة أيام تفصل عشاق الثقافة والقراء عنه بالرياض.. معرض الكتاب.. نسخة متجددة تواكب مستجدات صناعة النشر    تشجيع المواهب الواعدة على الابتكار.. إعلان الفائزين في تحدي صناعة الأفلام    مجمع الملك سلمان العالمي ينظم مؤتمر"حوسبة العربية"    "الداخلية" توضح محظورات استخدام العلم    مصادر الأخبار    تحت رعاية خادم الحرمين الشريفين.. تنظيم المسابقة المحلية على جائزة الملك سلمان    "الداخلية" تحتفي باليوم الوطني 94 بفعالية "عز وطن3"    يوم مجيد لوطن جميل    أحلامنا مشروع وطن    «الخواجات» والاندماج في المجتمع    مستشفى الدكتور سليمان الحبيب بالفيحاء في جدة يستأصل بنجاح ورماً ضاغطاً على النخاع الشوكي    أبناؤنا يربونا    خطيب المسجد النبوي: مستخدمو «التواصل الاجتماعي» يخدعون الناس ويأكلون أموالهم    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الولايات المتحدة تخالف مبادئ النظام الدولي
نشر في الحياة يوم 25 - 05 - 1999

يتميز اللساني الأميركي الشهير نعوم تشومسكي بنقده الجذري للسياسة الأميركية منذ أربعين سنة، وأشار إقبال أحمد رحمه الله جريدة الحياة، 11 نيسان/ إبريل 1999 "لماذا فشل حلف الأطلسي: كوسوفو ضحية نظام يفتقر الى التوازن" الى مقال كتبه تشومسكي ونشرته مجلة z في 28 آذار 1999، وهي إحدى المجلات التي يكتب فيها بصورة تكاد تكون مستمرة. قرأت ذلك المقال وترجمته الى العربية في حينه. والغرض من نشر ترجمة هذا المقال إطلاع القراء على وجهة نظر تشومسكي في هذه القضية الساخنة. ولا بد أن وجهة نظره ستكون مختلفة عن آراء كثير من القراء. لكن الاطلاع على وجهات نظر مخالفة كثيراً ما ينتج عنه، في رأيي، توسيع دائرة الرؤية، حتى يستطيع القارئ تكوين وجهة نظر خاصة به أكثر شمولاً.
أثيرت أسئلة عن الحرب الجوية التي تقوم بها قوات الاطلسي وهو ما يعني قوات الولايات المتحدة في المقام الأول في كوسوفو. وكتب الكثير عن هذه القضية، ومنها المقالات التحليلية التي نشرت في شبكة z. وأود أن أدلي ببعض الملاحظات العامة مكتفياً بالاشارة الى بعض الحقائق التي يكاد الجميع يتفقون على صحتها.
وهنا موضوعان أساسيان: 1 ما "قواعد النظام العالمي" المقبولة والممكن تطبيقها؟ 2 كيف تنطبق هذه القواعد والاعتبارات الأخرى على حال كوسوفو؟
ما "قواعد النظام العالمي" المقبولة والممكن تطبيقها؟
هناك منظومة من الأنظمة التي يتألف منها القانون الدولي والنظام العالمي، وهي ملزمة لجميع لدول، وتقوم على ميثاق الأمم المتحدة والقرارات التي اتخذت وعلى أحكام المحكمة الدولية. باختصار تمنع هذه الأنظمة التهديد باستعمال القوة أو استعمالها إلا إذا سمح بذلك مجلس الأمن بطريقة لا لبس فيها بعد التأكد من فشل الوسائل السلمية، أو عند الدفاع عن النفس ضد "الهجوم المسلح" وهو مفهوم ضيق جداً الى أن يقوم مجلس الأمن بوظيفته.
ويمكن لنا بالطبع أن نقول المزيد في هذا الصدد. فهناك تجاذب في الأقل، ان لم نقل تعارضاً صارخاً، بين قواعد النظام العالمي التي أرساها ميثاق الأمم المتحدة وبين الحقوق التي حددها الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، وهو ركيزة ثانية من ركائز النظام العالمي، وكان صدر بمبادرة من الولايات المتحدة بعد الحرب العالمية الثانية. فميثاق الأمم المتحدة يمنع استعمال القوة التي تنتهك سيادة الدول، بينما يضمن الإعلان العالمي لحقوق الإنسان حقوق الأفراد ضد الدول المستبدة. وتنشأ قضية "التدخل الإنساني" من هذا التجاذب بين هذين الحقين. والحق في "التدخل الإنساني" هو ما ادعته الولايات المتحدة والناتو في مسألة التدخل في كوسوفو، وهو الذي أيدته عموماً افتتاحيات الصحف والتقارير الإخبارية بل كان هذا التأييد فورياً، في التقارير الإخبارية، ويتضح ذلك بصورة جلية من اختيار المصطلح نفسه.
نوقشت هذه القضية في تقرير اخباري نشرته "نيويورك تايمز" 27 آذار تحت عنوان "علماء القانون يؤيدون الرأي القائل باستعمال القوة" في كوسوفو. ولم يعط التقرير الا مثالاً واحداً لهؤلاء العلماء المؤيدين للتدخل: وهو المستشار السابق لبعثة الولايات المتحدة الى الأمم المتحدة الن جير سون. كما استشهد بعالمين آخرين، الأول تيد جالين كاربنتر الذي "سخر من حجة الإدارة الأميركية" وسفه الادعاء بحق التدخل. أما الثالث فهو جاك غولد سميث المتخصص في القانون الدولي في كلية شيكاغو للحقوق. ويتلخص رأيه في القول بأن لدى نقاد حرب قوات الاطلسي الجوية "حجة قانونية قوية جداً" ضد التدخل، لكن "كثيراً من الناس يظنون أن الاستثناء من أجل التدخل الإنساني موجود بوصفه أمراً من أمور العرف والممارسة". ويلخص هذا الأدلة كلها التي قدمت لتسويغ الخلاصة المرغوبة في عنوان المقال.
وملاحظة غولد سميث معقولة، إذا ما اتفقنا في الأقل على أن الحقائق لها صلة بتحديد مفهوم "العرف والممارسة". ومن الممكن لنا أيضا أن نستحضر إحدى البديهيات، وهي: أن حق التدخل الإنساني، إن وجد، مشروط ب "النية الحسنة" لدى المتدخلين، ولا يقوم هذا الافتراض على الادعاءات الجوفاء التي يصدرونها وإنما على سجلهم، لا سيما سجلهم في الالتزام بمبادئ القانون الدولي، وقرارات المحكمة الدولية، وغير ذلك. وبداهة هذا الأمر جلية جداً، وذلك على حد تعلقه بالآخرين في الأقل. انظر مثلاً إلى مبادرات ايران التي أعلنتها للتدخل في البوسنة من أجل الحد من المذابح في وقت لم يكن الغرب راغباً في التدخل. وسخر الغرب من تلك المبادرات وشكك فيها بل إنها تجوهلت، وإذا كان هناك من سبب آخر لرفض الغرب لتلك المبادرات غير الانسياق وراء القوة فإن رفض التدخل الإيراني كان مبيناً على أنه لا يمكن افتراض "النية الحسنة" لدى الإيرانيين. وفي هذه الحال يمكن لأي إنسان عاقل أن يسأل بعض الأسئلة الواضحة مثل: هل سجل الإيرانيين في التدخل والإرهاب أسوأ من سجل الولايات المتحدة؟ ويضاف إلى ذلك بعض الأسئلة الأخرى، مثل: كيف يمكننا أن نقيس "النية الحسنة" للدولة الوحيدة التي استخدمت حق النقض ضد قرار مجلس الأمن الذي دعا الدول كلها إلى الانصياع للقانون الدولي؟ وماذا عن سجلها التاريخي؟ وإذا لم تحتل هذه الأسئلة مكان الصدارة في برنامج النقاش فإن أي مخلص سوف يعد ادعاء "النية الحسنة" مجرد احتجاج مكرور لا قيمة له. ومن الممارسة المفيدة أن نحاول اختبار ما ينشر - في أجهزة الإعلام أو في غيرها - لنرى كم منها يمكن أن يتماشى مع مثل هذه الشروط البسيطة.
2 كيف يمكن تطبيق هذه الاعتبارات وغيرها على حال كوسوفو؟
حدثت كارثة إنسانية في كوسوفو في السنة الماضية، ويمكن القول أنها كانت، بصورة تكاد تكون كلية، من فعل القوات المسلحة اليوغسلافية. أما الضحايا الرئيسيون فهم أبناء الطائفة الألبانية الكوسوفيون الذين يمثلون ما يقرب من 90 في المئة من السكان في هذه المنطقة اليوغوسلافية. ويقدر عدد من ماتوا بألفي قتيل أما عدد اللاجئين فيقدر بمئات الألوف.
ويمكن للملاحظين الذين لا ينتمون إلى الأطراف المشاركة في هذا النزاع أن يتخذوا، في مثل هذه الحالات، واحدا من الخيارات الآتية:
أ أن يحاولوا تصعيد الكارثة
ب ألا يفعلوا أي شيء
ج أن يحاولوا التخفيف من الكارثة
وتتضح هذه الخيارات الثلاثة من الحالات المعاصرة الأخرى. ويمكن أن نكتفي بالنظر في بعض الحالات التي تقارب مستوى الكارثة في كوسوفو، ثم نسأل أين تقع هذه الكارثة في هذا النمط.
1 كولومبيا. يصل المستوى السنوي للقتل لأسباب سياسية الذي تنفذه الحكومة والفرق العسكرية المرتبطة بها في كولومبيا، كما تقدر ذلك وزارة الخارجية الأميركية، إلى مستوى القتل في كوسوفو، أما عدد اللاجئين الفارين من هذه الفظائع التي تنفذها الحكومة والفرق العسكرية في المقام الأول فيتجاوز المليون.
ومع هذا احتلت كولومبيا المرتبة الأولى من بين دول أميركا اللاتينية التي تتلقى المساعدات العسكرية الأميركية والتدريب في الوقت الذي أخذ فيه العنف يتزايد في التسعينيات، كما أخذت تلك المساعدات في الزيادة الآن، وذلك بحجة "الحرب ضد المخدرات" وهي الحجة التي ينفيها كل الملاحظين الموثوقين تقريباً. وكانت إدارة الرئيس كلينتون متحمسة بشكل خاص في ثنائها على الرئيس جافيريا الذي كانت فترة حكمه مسؤولة عن "المستويات المفزعة التي وصل إليها العنف"، كما تقول منظمات حقوق الإنسان، بل فاق الحكام الذين سبقوه في ذلك. وتفاصيل هذه الفظائع متوافرة.
وكان رد فعل الولايات المتحدة في هذه الحالة هو الخيار الأول، أي: تصعيد الكارثة.
2 تركيا: وصل الاضطهاد التركي للأكراد في التسعينيات، كما تقول التقديرات المحافظة جداً، إلى مستوى الاضطهاد في كوسوفو. ووصل حداً عالياً في مطلع التسعينيات، ومن الأدلة على ذلك أن أكثر من مليون من الأكراد فروا، فيما بين سنتي 1990 و1994، من الأرياف إلى مدينة ديار بكر التي تعد العاصمة الكردية غير الرسمية، بينما كان الجيش التركي مستمراً في تدميره للأرياف. وكانت سنة 1994 "السنة التي شهدت أسوأ سجل للاضطهاد في الأقاليم الكردية" من تركيا، كما يروي جوناثان راندل في تقريره بصفته شاهد عيان، كما كانت هي السنة التي أصبحت فيها تركيا "أكبر المستوردين للسلاح الأميركي وهو ما جعلها أكبر مستورد للسلاح". ولما كشفت جماعات حقوق الإنسان استعمال الجيش التركي الطائرات الأميركية في مهاجمة القرى الكردية وجدت إدارة الرئيس كلينتون بعض الطرق للتهرب من القوانين التي توجب إيقاف تصدير السلاح في مثل هذا الوضع وهي طرق تشبه الطرق التي انتهجتها في حال اندونيسيا وغيرها.
وتحتج حكومتا كولومبيا وتركيا في تفسير الفظائع التي تقومان بها بتأييد من الولايات المتحدة بأنهما تقومان بذلك للدفاع عن بلديهما ضد تهديد الجماعات الإرهابية. وهو ما تدعيه حكومة يوغوسلافيا الآن أيضاً.
ويدلل هذا المثال مرة أخرى على الاختيار الأول: أي أن تحاول تصعيد الكوارث.
3 لاوس. يقتل في لاوس كل سنة آلاف من البشر، وغالبيتهم من الأطفال والمزارعين الفقراء في سهول منطقة الجار في شمال لاوس، وهي السهول التي شهدت أكثر حالات القصف للأهداف المدنية كثافة في التاريخ كما يبدو، بل يمكن القول أنها كانت أكثرها قسوة: ولم يكن هناك إلا صلة واهية لهجوم واشنطن الكاسح على ذلك المجتمع الزراعي الفقير بحروبها في تلك المنطقة. وكانت أسوأ فترة هي الفترة التي بدأت في سنة 1968، حين اضطرت الولايات المتحدة إلى البدء بمحادثات السلام تحت ضغوط الحركات الشعبية ورجال الأعمال، وهو ما أدى إلى إنهاء الحرب الجوية على فيتنام الشمالية. وقرر الرئيس نيكسون ووزير خارجيته كيسنجر حينها سحب الطائرات من فيتنام لكي تستعمل في الهجوم على لاوس وكمبوديا.
وتنشأ حالات القتل هذه عن استعمال "القنابل الصغيرة" وهي تلك الأسلحة الصغيرة المضادة للأفراد التي تعد أسوأ بكثير من الألغام الأرضية: إذ كانت مصنوعة بشكل دقيق للقتل والتشويه، وليس لها أي تأثير على الشاحنات والمباني، وغيرها. وتشبع ذلك السهل بمئات الملايين من هذه الأسلحة الإجرامية التي تتسم بنسبة فشل في الانفجار من 20 - 30 في المئة بحسب ما تقوله شركة "هونيويل" التي التي تصنعها. وتوحي هذه الأعداد الهائلة منها إما بنوعية سيئة من التحكم وإما بالسياسة المتعمدة لقتل المدنيين من طريق الانفجار المتأخر. ولم تكن هذه الوسائل إلا طرفاً ضئيلاً من التقنية التي استُعملت، إذ شملت تلك التقنية الصواريخ المتطورة لاختراق الكهوف التي كانت تتخذها الأسر الفقيرة ملاجئ. ويقدر عدد ضحايا هذه "القنابل الصغيرة" في الوقت الحاضر من بضع مئات في السنة إلى "نسبة سنوية للضحايا تصل عشرين ألفاً" ويموت منهم أكثر من النصف، كما كتب باري وين مراسل ال"وول ستريت جورنال" السابق في آسيا - في طبعتها الآسيوية. لذلك فإن التقدير المتحفظ هو أن أزمة هذه السنة في لاوس تبلغ حداً مقاربا لما يحدث في كوسوفو، مع أن عدد القتلى يبلغ حدا أعلى في لاوس وأن أكثر القتلى هم من الأطفال - إذ يصل عددهم إلى أكثر من النصف، تبعاً للتحليلات التي تقوم بها جمعية مينونايت المركزية، التي ظلت تعمل هناك منذ سنة 1977 من أجل التخفيف من تلك الفظائع المستمرة.
وكان هناك بعض الجهود لإيصال صورة هذه الفظائع الإنسانية إلى العالم ومعالجتها. إذ تعمل المجموعة الاستشارية للألغام MAG، مقرها بريطانيا، على إزالة هذه الأسلحة القاتلة، لكن الولايات المتحدة "غائبة بشكل لافت للنظر عن مشاركة المنظمات الغربية القليلة التي تتعاون مع MAG "كما تقول التقارير الصحافية البريطانية، لكنها وافقت أخيراً على تدريب بعض المدنيين اللاوسيين على إزالة هذه الأسلحة. كما تورد التقارير الصحافية البريطانية أيضا، وبغضب أحياناً، اتهامات المتخصصين من منظمة MAG بأن الولايات المتحدة ترفض إمدادهم "ببعض الإجراءات الآمنة" التي يمكن أن تجعل عملهم "أسرع وأكثر أمناً". وذلك أن هذه الإجراءات ظلت سراً من أسرار الدولة، كما هو الشأن في الأمور كلها في الولايات المتحدة. وتتحدث التقارير الصحافية في بانكوك عن وضع يكاد يكون شبيهاً بهذا الوضع في كمبوديا، لا سيما في المنطقة الشرقية حين بلغت الهجمات الجوية الأميركية في مطلع سنة 1969 حدا أقصى من الشراسة.
وكان رد فعل الولايات المتحدة، في هذه الحال، هو الخيار الثاني: أي لا تعمل أي شيء. أما رد فعل وسائل الإعلام والمحللين فهو الصمت المطبق، اتباعا للمعايير المألوفة التي وصفت بموجبها الحرب في لاوس ب"الحرب السرية" - وهو ما يعني أنها معروفة جداً، لكن أخبارها لا تنشر، وهو ما حدث أيضاً في حال كمبوديا منذ آذار سنة 1969. فقد تجاوز مستوى الرقابة الذاتية، إذن، الحدود المألوفة، وهو ما يماثل المستوى الذي وصلت إليه وسائل الإعلام فيما يخص الأحداث الجارية الآن. أما مناسبة هذا المثال المفزع للحال في كوسوفو فينبغي أن تكون واضحة للملاحظ من دون حاجة إلى شرح إضافي.
وسوف أتجاوز الأمثلة الأخرى من انتهاج الخيارين الأول والثاني، وهي كثيرة، كما سأتجاوز الحديث عن بعض الفظائع المعاصرة الأكثر مأسوية، مثل القتل الذريع للمدنيين العراقيين عن طريق استعمال بعض الأشكال المرعبة جداً من الحرب البيولوجية - وهي التي وصفتها وزيرة الخارجية الأميركية مادلين أولبرايت، في مقابلة مع إحدى القنوات التلفزيونية في سنة 1996، بأنها "خيار صعب جداً"، وذلك حين سئلت عن رد فعلها تجاه قتل ما يقرب من نصف مليون طفل عراقي في خمس سنوات، ثم تتابع قائلة اننا "نظن أن الثمن ملائم". وتقول التقديرات الحالية ان ما يقرب من خمسة آلاف طفل عراقي يموتون كل شهر، وما يزال "الثمن ملائماً". ويمكن أن نستحضر هذه الأمثلة وغيرها حينما نقرأ الادعاءات الفجة عن كيف أن "البوصلة الأخلاقية" لإدارة كلنتون تعمل الآن في الأقل بصورة ممتازة، كما يشهد بذلك مثال كوسوفو.
لكن السؤال هو ما الذي تكشف عنه حال كوسوفو على وجه الدقة؟ أدى التهديد بالحرب الجوية، بصورة واضحة، إلى زيادة الفظائع التي يقوم بها الجيش الصربي والقوات الصربية الأخرى زيادة كبيرة، كما أدى إلى مغادرة المراقبين الدوليين من كوسوفو، وهو ما أنتج الأثر نفسه، بالطبع. وأعلن قائد قوات الحلف الجنرال وزلي كلارك أن "من المتوقع تماماً" أن العنف والإرهاب الصربيين سوف تزيد حدتهما بعد الهجوم الجوي، وذلك ما حدث تماماً. فقد وصل هذا العنف للمرة الأولى إلى العاصمة بريشتينا، وهناك بعض التقارير الموثوقة التي تتحدث عن تدمير هائل للقرى، وعن وقوع كثير من الاغتيالات، وعن إحداث طوفان كاسح من اللاجئين، وربما كان القصد من ذلك طرد جزء كبير من المواطنين الألبان - وكل ذلك نتائج "متوقعة تماماً" للتهديد حينذاك ولاستخدام القوة بعد ذلك، كما لاحظ الجنرال كلارك بصورة صحيحة.
لذلك فإن كوسوفو مثال آخر للخيار الأول، أي: أن تحاول تصعيد العنف وذلك مصحوب بتلك التوقعات على وجه الدقة.
أما الأمثلة التي تشهد على انتهاج الخيار الثالث فإن من أسهل الأمور العثور عليها، وذلك إذا ما اقتصرنا على الادعاءات الرسمية، في الأقل. فتقصى الدراسة الأكاديمية الرئيسة ل"التدخل الإنساني" التي أنجزها سين مورفي حديثاً، سجل هذا التدخل منذ صدور قانون كيلوق - برايند في 1928 الذي حرم الحرب، ومنذ صدور ميثاق الأمم المتحدة بعد ذلك، وهو الذي دعم قواعد منع الحرب وبينها. ويقول مورفي في مراجعته لذلك السجل ان أكثر الأمثلة بروزاً ل"لتدخل الإنساني"، في الفترة المبكرة، هو هجوم اليابان على منشوريا، وغزو موسيليني لاثيوبيا، واحتلال هتلر لأجزاء من تشيكو سلوفاكيا، واصطحب تلك الأعمال كلها فيض من الادعاءات الإنسانية، وكثير من التسويغات المدعومة بالحقائق. هاجمت اليابان منشوريا من أجل إنشاء "جنة دنيوية" وذلك في دفاعها عن منشوريا ضد "العصابات الصينية"، وتم ذلك بمساعدة أحد الزعماء الوطنيين الصينيين، وهو زعيم يتحلى بشخصية يمكن الركون إليها، وهو ما لم تستطع الولايات المتحدة أن تظفر بمثله أثناء حربها في جنوب فيتنام. أما موسيليني فكان يعمل على تحرير آلاف العبيد في أثناء تنفيذه ل"الرسالة الحضارية" الغربية. كما أعلن هتلر أن غرض ألمانيا هو إنها النزاعات الإثنية والعنف، و"المحافظة على هوية الشعبين الألماني والتشيكي"، وذلك في العملية "التي كانت مدفوعة بالرغبة الحقيقية في خدمة مصالح شعوب تلك المنطقة"، وذلك بما يتماشى مع الرغبة الحقيقية لهذه الشعوب، ومن الأدلة على ذلك طلب رئيس سلوفاكيا من هتلر أن يعلن سلوفاكيا محمية ألمانية.
والممارسة الفكرية المفيدة الأخرى أن نقارن هذه التسويغات الفاضحة بتلك التسويغات التي قدمت لتسويغ التدخلات، ومن ضمنها "التدخل الإنساني"، في الفترة التي أعقبت إقرار ميثاق الأمم المتحدة.
وربما كان غزو فيتنام لكمبوديا في كانون الاول ديسمبر 1978 أهم الأمثلة للخيار الثالث، في تلك الفترة، وهو الغزو الذي أدى إلى القضاء على فظائع بول بوت، التي وصلت أوجها آنذاك. تذرعت فيتنام بحق الدفاع عن النفس ضد الغزو المسلح، وهو ما يمثل أحد الأمثلة القليلة في الفترة التي أعقبت إقرار ميثاق الأمم المتحدة مما كان فيه هذا التذرع معقولاً: وذلك أن نظام الخمير الحمر كمبوديا الديموقراطية كان يقوم بهجمات تخلف وراءها كثيراً من المذابح ضد الفيتناميين في مناطق الحدود. أما رد فعل الولايات المتحدة فكان لافتاً للنظر. أدانت وسائل الإعلام الأميركية "بروسي" آسيا لمخالفاتهم الشرسة للقانون الدولي. وعوقبوا عقاباً قاسياً لارتكابهم جريمة القضاء على المذابح التي كان يرتكبها نظام بول بوت، وتم ذلك على يد الغزو الصيني الذي كانت تدعمه الولايات المتحدة أولاً، ثم بالحصار القاسي جداً الذي فرضته الولايات المتحدة. واعترفت الولايات المتحدة بنظام كمبوديا الديمرقواطية المنفي باعتباره الحكومة الرسمية لكمبوديا، لكونه "استمرارا" لنظام بول بوت، كما تقول وزارة الخارجية الأميركية، كما ساعدت الولايات المتحدة بصورة غير مواربة الخمير الحمر في هجومهم المستمر على كمبوديا.
ويكشف لنا هذا المثال أموراً كثيرة عن "العرف والممارسة" اللذين تقوم عليهما "الأعراف القانونية الناشئة للتدخل الإنساني".
وعلى رغم الجهود المكثفة التي تقوم بها الأبواق الأيديولوجية للبرهنة على أن الدوائر مربَّعة، فإنه لا يكاد يشك أحد بأن حرب الاطلسي الجوية إنما تعمل على إضعاف ما تبقى من البنية الضعيفة للقانون الدولي. وأوضحت الولايات المتحدة ذلك بصورة جلية في النقاش الذي سبق قرار الاطلسي. وإذا ما استثنينا بريطانيا وهي التي لا يكاد استقلالها في الفعل يتجاوز استقلال أوكرانيا أثناء الفترة السابقة على غورباتشوف فإن الدول الأعضاء في الاطلسي كانت تداخلها بعض الشكوك من سياسة الولايات المتحدة، وكانت هذه الدول منزعجة خصوصاً من "التلويح بالقوة" الذي تتسم به تصريحات وزيرة الخارجية الأميركية مادلين أولبرايت كيفن كولين، بوسطن غلوب، 22 شباط/ فبراير. أما اليوم فإن معارضة إصرار واشنطن على استعمال القوة تتزايد كلما اقتربنا من منطقة النزاع، بل إن هذه المعارضة موجودة حتى في داخل الاطلسي كاليونان وإيطاليا. كما دعت فرنسا لإصدار قرار من مجلس الأمن يفوض الناتو بإرسال قوات لحفظ السلام. ورفضت الولايات المتحدة ذلك رفضاً باتاً، مصرة على "موقفها القاضي بأن الناتو يجب أن يكون قادرا على العمل باستقلال عن الأمم المتحدة"، كما يشرح ذلك موظفو وزارة الخارجية الأميركية، كما رفضت السماح بظهور كلمة "يفوض"، "المريضة أعصابيا"، في الصياغة النهائية لقرار الناتو، وأبدت عدم رغبتها في الاعتراف بأية سلطة لميثاق الأمم المتحدة والقانون الدولي، ولم تسمح في ذلك القرار إلا بكلمة "يوافق" جين بيرليز، نيويورك تايمز، 11 شباط. وبشكل مماثل كانت الحرب الجوية على العراق تعبيراً وقحاً عن ازدراء الولايات المتحدة للأمم المتحدة، كما يصح ذلك في مسألة التوقيت المحدد لذلك الهجوم أيضاً، وفهم على هذا النحو. ويصح ذلك أيضاً بالطبع في قضية تدمير نصف إنتاج الأدوية في دولة إفريقية صغيرة قبل ذلك بأشهر مصنع الشفاء في السودان، وهو حدث لم يشر كذلك بأن "البوصلة الأخلاقية" كانت تحيد عن تزكية النفس - هذا إن لم نتحدث عن ذلك السجل الذي كان يجب علينا مراجعته هنا بصورة أكثر توسعاً لو أننا تفحصنا الحقائق التي لها صلة بتحديد "العرف والممارسة".
ومن الممكن الاحتجاج، بصورة معقولة جداً، بأن الاستمرار في زعزعة قوانين النظام العالمي ليس مهماً، وذلك أن القانون الدولي فقد معناه بدءاً من نهاية الثلاثينيات. وأصبح ازدراء القوة الأولى في العالم أي الولايات المتحدة لبنية النظام العالمي متطرفا جداً حتى إنه لم يبق منه شيء لكي يناقش. وتوضح مراجعة السجل الوثائقي الداخلي أن هذا الموقف بدأ في زمن مبكر جداً، بل إنه يعود إلى أول مذكرة أصدرها مجلس الأمن القومي حين تأسس في 1947. وبدأ هذا التعبير العلني عن هذا الموقف في أثناء رئاسة جون كنيدي. أما الاختراع الرئيسي للفترة الممتدة من ريغان إلى كلينتون فهو أن تحدي القانون الدولي وميثاق الأمم المتحدة صار صريحاً إلى أبعد مدى. كما صار يدافع عن هذا التحدي بتفسيرات لافتة للنظر، وهي التفسيرات التي كان من الممكن أن تحتل الصفحات الأولى في الصحف اليومية، وأن تحتل مكانا بارزاً في مفردات التدريس الجامعي، لو كان ينظر إلى الحقيقة والأمانة بوصفهما قيمتين مهمتين.
أوضحت أعلى السلطات بطريقة فجة لا لبس فيها أنه ليس للمحكمة الدولية والأمم المتحدة والمنظمات الأخرى علاقة وذلك أن هذه الهيئات لم تعد تخضع لأوامر الولايات المتحدة، وهو ما كانت تفعله في السنوات المبكرة لفترة ما بعد الحرب العالمية الثانية.
لذلك فإن من الممكن للمرء أن يتبنى الموقف الرسمي. ويمكن أن يكون ذلك موقفاً أميناً، وذلك في الأقل إن كان هذا الموقف مصحوباً برفض انتهاج اللعبة الملتوية المتمثلة في التظاهر بتزكية النفس والتلويح بمبادئ القانون الدولي المحتقرة واتخاذها سلاحاً انتقائيا بارزا ضد الأعداد المتغيرين.
ومع أن الريغانيين ابتدعوا طريقاً جديداً في العداء للنظام العالمي، إلا أن هذا العداء بلغ في ظل رئاسة كلينتون حداً بعيداً من التطرف أصبح عنده غير ذي موضوع حتى عند محللي السياسة المتطرفين. وحذر صامويل هنتنغتون في العدد الجديد من مجلة الشؤون الخارجية، وهي الدورية الأولى من الدوريات التي تمولها الحكومة وتمثل وجهة نظرها، من أن واشنطن تسير في طريق خطرة. ويوحي هنتنغتون أن الولايات المتحدة "أصبحت القوة العظمي المنفلتة" في نظر كثير من دول العالم، بل ربما في نظر أكثر دول العالم، إذ ينظر إليها بأنها "أعظم خطر وحيد يتهدد مجتمعاتها". ويحاج هنتنغتون بأن "نظرية العلاقات الدولية" الواقعية تتنبأ بأنه يمكن أن ينشأ نتيجة لذلك اتحاد مضاد لوزن القوة العظمى المنفلتة. فيجب إذن، ولأسباب عملية "براغماتية"، أن يعاد النظر في هذا الموقف. أما الأميركيون الذين يفضلون أن تكون صورة مجتمعهم عند الآخرين مختلفة عما هي عليه الآن فإنهم ربما يدعون إلى إعادة النظر في هذا الموقف انطلاقا من أسباب غير عملية "براغماتية".
فأين يترك هذا كله مسألة ماذا يمكن فعله في كوسوفو؟ والواقع أنه يترك السؤال من غير إجابة. انتهجت الولايات المتحدة طريقاً في العمل، كما تعترف هي صراحة، يؤدي إلى تصعيد المذابح والعنف - فهو "متوقع تماماً"، وهو طريق يوجه كذلك ضربة أخرى لمنظومة النظام العالمي، وهو النظام الذي يوفر للضعيف بعض الحماية المحدودة ضد الدول المفترسة. أما على المدى الطويل فإنه يصعب التنبؤ بالعواقب. ومن الملاحظات المعقولة ان "أي قنبلة تقع على صربيا وأي ضحية للتطهير العرقي في كوسوفو يوحيان بأنه سوف يكون من الصعب على الصرب والألبانيين أن يعيشوا جنبا الى جنب في نوع من السلام" فاينانشال تايمز 27 آذار. أما بعض النتائج على المدى الطويل فالمحتمل أن تكون قبيحة جداً، وهو ما لم يفت على بعض الملاحظين الإشارة إليه.
وهناك حجة نموذجية مفادها أنه يجب علينا أن نعمل شيئاً ما: وذلك أنه لا يمكننا الوقوف مكتوفي الأيدي في الوقت الذي تستمر فيه هذه الفظائع. لكن هذا ليس صحيحاً أبداً. إذ إن خياراً آخر متوفر دائماً، وهو ان نتبع مبدأ أبقراط القائل: "يجب عليك أولاً ألا تقوم بعمل ضار". فإذا لم تستطع أن تفكر في طريق آخر للالتزام بهذا المبدأ الأولي، فأنه يمكنك ألا تعمل شيئاً. لكن هناك دائماً طرقاً يمكن للمرء أن يحاول انتهاجها. ومنها أن الديبلوماسية والمفاوضات لا يمكن أبدا أن تصلا إلى طريق مسدود.
ومن المحتمل أنه سيُلجأ إلى التوسل بحق "التدخل الإنساني" أكثر فأكثر في السنوات المقبلة - وربما كان ذلك مسوغاً، أولا يكون - وذلك بعد أن فقدت ذريعة الحرب الباردة فعاليتها. وفي مثل هذه الحقبه فإنه ربما كان من المفيد أن نصغي إلى بعض وجهات النظر التي تصدر عن بعض المحللين المحترمين - هذا إذا لم نذكر المحكمة الدولية التي أصدرت حكماً صريحاً بهذا الشأن في قرار رفضته الولايات المتحدة، بل إن عناصره الأساسية لم ترد في أي تقرير إخباري.
وفي مجال التخصصات العلمية في الشؤون الدولية والقانون الدولي يصعب أن نجد أصواتاً تتمتع باحترام يماثل ما يتمتع به هيدلي بول أو ليون هينكن. وحذر بول قبل 15 سنة من أن "بعض الدول المعينة أو المجموعات من الدول التي تنصب من أنفسها قضاة مطلقين يعيَّنون للعالم ما يكون صالحاً له، بشكل لا يأبه بوجهات نظر الآخرين، إنما تمثل في الواقع خطراً يتهدد النظام العالمي، وانطلاقاً من ذلك فإنها تمثل خطراً على العمل الفعال في هذا المجال". أما هينكن فيقول، في كتاب يعد مرجعاً في مسألة النظام الدولي، إن "الضغوط التي تؤدي إلى إضعاف مبدأ منع استعمال القوة أمر يستحق الاستنكار، وإن الحجج التي تساق لتسويغ استعمال القوة في هذه الظروف ليست مقنعة بل إنها خطرة. وإن انتهاكات حقوق الإنسان أمر شائع وعام، فإذا ما سمح بمعالجة هذه الانتهاكات باستعمال القوة الخارجية فإنه ربما لن يبقى هناك أي قانون لكي يمنع استعمال أية دولة القوة ضد أية دولة أخرى. تقريبا. أما حقوق الإنسان فأنه يجب، كما أظن، أن يدافع عنها، وأن تعالج المظالم الأخرى بوسائل أخرى سلمية، لا أن يفتح الباب للاعتداءات وتحطيم التقدم الرئيس في القانون الدولي، أي تحريم الحرب ومنع استعمال القوة".
ولا يمكن لمبادئ القانون الدولي والنظام العالمي المعترف بها، ولا للالتزامات الصارمة التي يفرضها ميثاق الأمم المتحدة، ولا لأحكام المحكمة الدولية، ولا لآراء أكثر المحللين احتراماً، أن تحل بصورة آلية بعض المشاكل المعينة. إذ يجب أن ينظر في كل قضية بشكل منفرد. أما أولئك الذين لا يلجأون إلى المنطلقات التي ينتهجها صدام حسين فإن هناك متطلبا قوياً يوجب عليهم أن يبرهنوا على حاجتهم للتهديد باستعمال القوة أو استعمالها، وهو ما يمثل مخالفة لمبادئ النظام العالمي. وربما كان الوفاء بوجوب البرهنة ممكناً، لكن البرهنة يجب أن تكون واضحة، وألا يكتفى بالإعلان عنها وحسب مصحوبة بالادعاءات الانفعالية. ولا بد من تقييم عواقب هذه المخالفات بعناية فائقة - وخصوصاً ما نفهم أنه "متوقع". أما في ما يخص الملاحظين غير الجادين فإن أسباب الأعمال العدوانية لا بد من تقييمها أيضاً - ولا يكون ذلك، مرة أخرى، من طريق التملق لقادتنا و"بوصلاتهم الأخلاقية".
ترجمة: حمزة بن قبلان المزيني، جامعة الملك سعود - الرياض.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.