كتب الأستاذ وضاح شرارة "الحياة": 9/6/1999 ردا على مقال للساني والناقد السياسي الأميركي نعوم تشومسكي كتبه في الأيام الأولى للحرب الجوية الأطلسية على يوغوسلافيا، وكنتُ قد ترجمته ونشرته الحياة "الحياة": 25/5/1999. وقد عبر الأستاذ شرارة عن النتيجة التي وصل إليها بصيغ مختلفة مثل: إن تشومسكي ينطلق من دافع عميق يتمثل في أنه: "... يخص سياسات بلده بنقده وحسبته الخلقية والقانونية الدولية، ويضرب صفحاً عن تحكيم المعايير الأميركية والأوروبية والقضاء بها في سياسات الدول الأخرى. وهذا تكريم للسياسات المحاكمة، والمدعى عليها، كان يستحق الإكبار لولا الخشية من إضمار عنصرية مقلوبة وخفية. فعلى مذهب صاحبنا لا يُظن إلا في الأقوياء. والقوي الوحيد، الأوحد، هو أميركا. وما خلاها وعداها أمم وشعوب ضعيفة لا تملك من أمرها شيئاً". ويقول: "واقتضاب التناول الذي يخص به تشومسكي قضية كوسوفو، وهي موضوع المقالة والرأي، وتسليمه بالسياسة الصربية في الإقليم الألباني السكان، ينمان بما يدعوه إلى الكتابة، وإلى الإدلاء برأي في أمر لا يثير اهتمامه حقيقة وفعلا. فليس أهل كوسوفو، ولا الضحايا الكولومبيون واللاوسيون والأكراد والكمبوديون، ليسوا مدعاة القول والرأي بل الإصبع الأميركية". ويقول: "... ويترتب هذا النهج الميونيخي على المقاربة والتاريخ التشومسكيين، وعلى منطقهما. فإذا كانت السياسة الأميركية وحدها موضع حساب، وتسأل وحدها عن صنيعها، وتخلو وحدها من المسوغات، ولا يجوز سؤال المجتمعات والدول والبلدان الأخرى عما تفعل وتصنع، إلا إذا كان ذلك بإيعاز أميركي، لم يبق لمعالجة الأمراض كلها إلا دعوة أميركا إلى الاستنكاف والوقوف في المسائل والقضايا وكف أذاها". ويجب القول بداية أن للأستاذ شرارة الحق في أن يصل إلى أية نتيجة يهديه إليها فهمه، وأن يعبر عن تلك النتيجة بأي شكل يراه مناسباً. كما يجب القول إنني لست هنا لأدافع عن تشومسكي، أما داعي الكتابة هنا فهو أن نصل عن طريق الحوار إلى معرفة أدق وأكثر جلاء. والنتيجة التي وصل إليها الأستاذ شرارة غريبة وإن كانت ممكنة، إن كان هناك ما يمكن أن نستدل به عليها. ولذلك فغرابة النتيجة يجب ألا تتخذ دليلا على عدم إمكانها. لكنه لا بد لي أن ألاحظ منذ البدء أن لتشومسكي خصوماً أشداء يتسقطون عليه المآخذ والمزالق ولا يتورعون عن التنقيب عن أية حجة يمكن أن تعينهم في مواجهاتهم معه. وليس هناك أشد من مناوئيه المؤيدين لإسرائيل في أميركا، ومعظمهم يتذرع بالحجج الأخلاقية، مما يشبه هذه النتيجة، حتى في تأييدهم لإسرائيل. ولذلك فإنني لا أشك في أنه لو أمكن لهم القول بهذه النتيجة لما تورعوا عن التعبير عنها بأي شكل يمكن به الإساءة إليه. كما أن لتشومسكي خصوما ينطلقون من أفكار فلسفية مختلفة لها مقتضياتها الاجتماعية والفلسفية والفكرية والعلمية. ولو رأى هؤلاء أن من الممكن الوصول إلى مثل هذه النتيجة من خلال تأويل كتابات تشومسكي ومواقفه لما ترددوا في استثمارها. وحينما ننظر فيما يكتبه أشد خصومه الفكريين والسياسيين لا نجد أحدا يشير إلى "عرقية" تشومسكي، وثنائه المبطّن على أميركا. أما ما نجده في كتابات هؤلاء فهو الثناء عليه بشكل يشيد بشخصيته وأصالة نظرته وعمق انتمائه للقضايا الإنسانية. ويعد الفيلسوفُ هيلاري بونتام، مثلا، من أشرس المناوئين له، ومع ذلك يكتب المقطع التالي عنه: "حين نَقرأ ما يكتبُه تشومسكي نُحِس إحساساً عميقاً بأننا في حضرةِ قوة فكرية عظيمة، إذ نَكتشف أننا أمامَ عقل مُتفوِّق. ويعود ذلك بقدْر مُتساوٍ إلى سِحْر شخصيتِه القوية، وإلى المزايا الفكرية الواضحة التي يتمتع بها، ومنها الأصالةُ والأَنَفَة من السطحي الساذج، والرغبةُ في إحياء مواقف تبدو باليةً مثل فكرة الأفكار الفطرية، والقدرةُ على ذلك، والاهتمامُ بمواضيع لها أهمية عظيمة مثل بنية العقل الإنساني". وكان بإمكان بونتام، لو كانت النتيجة التي وصل إليها الأستاذ شرارة ممكنة، أن يلتقطها ويدعي بها، إذ هي من أقوى المآخذ التي يمكن أن تؤخذ عليه، ولا شك أنها تكفي في سحب غطاء الشرعية عما يقوله تشومسكي. ومرة أخرى أقول إن عدم وصول نقاد تشومسكي وأعداؤه إلى هذه النتيجة ليس دليلا على عدم إمكانها. لكنني أقول إنها ليست عميقة حتى تكون بهذا الخفاء. ولهذا فإن هذه النتيجة غير ممكنة لأنه لا دليل عليها من كل ما اطلعت عليه مما كتبه تشومسكي. بل إنها تتناقض مبدئيا مع نظرته الكونية الشاملة. ويلاحظ المتتبع لما يكتبه تشومسكي في السياسة أنه لم يتردد، بعكس ما يقوله الأستاذ شرارة، عن نقد أي من القوى المهيمنة في العالم. فهو ينتقد الاتحاد السوفييتي سابقا نقدا يماثل نقده للولايات المتحدة، كما أنه ينتقد اليابان وألمانيا الهتلرية وإيطاليا تحت حكم موسيليني ويصف هذه القوى الثلاث بالفاشية. ومن الشواهد الأخيرة على هذا الموقف النقدي للقوى العالمية المتسلطة قوله في ملاحظات رد فيها على بعض نقاد مقاله الذي ترجمته ونشرته الحياة: "ولهذا فإن الأممالمتحدة والمحكمة الدولية، وغيرهما لا تستطيع أن تعمل شيئا حيال حرب واشنطن ضد فيتنام الجنوبية والهندالصينية كلها في تلك الفترة، وضد حروبها الإرهابية في أميركا الوسطى، وحيال الغزو الروسي للمجر وأفغانستان، وغزوات اسرائيل المدعومة أميركياً وإرهابها للبنان، وغير ذلك". لكننا يجب أن نعترف بأن أكثر نقده موجه للولايات المتحدة. وربما يعود ذلك إلى سبب عملي. وهو أنه مواطن أميركي يرى أن من واجبه مراقبة ما تفعله حكومته. وفي ذلك ما يمكن أن يشغله عن مراقبة سياسات الدول الأخرى بتفصيل مماثل، وربما كان يعود جزء كبير منه إلى توفر المعلومات عما تفعله الحكومة الأميركية. ويرى تشومسكي، دائماً، أن هذا الوضع مثال لما يسميه ب"مشكلة أورويل". ويجب أن نشير إلى أن تشومسكي ليس الأميركي الوحيد الذي ينهج هذا النهج في نقد الولاياتالمتحدة نقدا مريرا. فهناك عدد من كبار المثقفين الأميركيين ممن يرون أن الولاياتالمتحدة بما أنها دولة قوية ولها إمكانات هائلة يمكن أن يكون لها من السطوة ما لا يمكن أن يكون لغيرها. وبالتالي فإن ما يمكن أن تفعله، وينتج عنه نتائج سيئة، أكبر مما يمكن أن تفعله أية دولة أصغر وأقل إمكانات. وربما كان الدافع لاختصاص هؤلاء أميركا بنقد يفوق النقد الموجه للقوى الأخرى، أن لأميركا أدواراً لا تنكر في التدخل بأشكال متعددة في أنحاء كثيرة من العالم، وبعض هذه الأشكال سيئ. وذلك أن أميركا دولة قوية عسكرياً وسياسياً واقتصادياً، كما أنه لم يعد لها في الفترة الأخيرة منافس يمكن أن يضع بعض القيود على تحركاتها. ومن الواضح أن تشومسكي في مقاله ذاك لم يركز تركيزاً واسعاً على حالة كوسوفو. لكن سبب عدم التركيز هناك لم يكن، كما يصوره الأستاذ شرارة، ناتجاً عن الاهتمام بأميركا بدل الاهتمام بضحاياها. فقد كان هدف تشومسكي في تلك المقالة أن يبين أن هناك تجاذبا ربما يصل حد التعارض بين عدم التدخل في الشؤون الداخلية للدول من جهة وحقوق الإنسان من جهة أخرى. وأن "التدخل الإنساني" هو نتيجة لهذا التعارض. وهو لا يرى إمكانا للتدخل الإنساني، وذلك أن هذا النوع من التدخل يفترض "النية الحسنة" لدى المتدخلين. لكنه يوضح أن كل من أراد أن يتدخل في الشؤون الداخلية لغيره يحتج بهذا المبدأ. وإذا ما أطلق العنان فإن أية دولة يمكن أن تلجأ إليه وأن تستثمره، وعندها يصبح العالم غابة لا يوجد فيها إلا الصراع. ويستشهد تشومسكي على التذرع ب"التدخل الإنساني" بحالات تاريخية كثيرة. ويقول في ذلك: "وقد استعملت الدول التي تميل إلى العنف "الغطاء الإنساني" عبر التاريخ: فربما لجأ إليه جنكيزخان، لو كان لدينا بعض الأدلة. وهو صحيح بالنسبة للصليبيين الذين خلفوا وراءهم سلسلة شنيعة من القتل والخراب. والاستثناء الوحيد الذي أعرفه لعدم الاحتجاج ب"التدخل الإنساني" هو ما نجده في قصص الإنجيل ويعرف ب"الحل القرطاجني" - وهو الذي يتضمن الدعوة الصريحة للإفناء الجماعي من غير أن يكون هناك أي دافع معقول". والهدف الثاني لمقال تشومسكي هو أنه ما دام أن الاحتجاج ب"التدخل الإنساني" لا يمكن الاطمئنان إليه، فإن البديل هو تقوية البدائل المحايدة الأخرى التي تحمي القانون الدولي والسلم العالمي. وذلك مثل المنظمات الدولية، كالأممالمتحدة ومحكمة العدل الدولية وغيرهما. ويشير تشومسكي إلى أن الدول القوية والغنية لا تريد تقوية هذه المنظمات، إذ إنها سوف تقيد حرية الأغنياء والأقوياء. أما الدول الصغيرة والضعيفة فإن هذه المنظمات توفر لها بعض الحماية من تلك الدول، بل توفر لها الملجأ الوحيد. فإذا أريد للسلام العالمي أن يسود فإن الوسيلة الوحيدة لتأمين ذلك إنما هي في تقوية هذه المنظمات، لا الانفلات المصحوب بالحجج الواهية مثل التدخل الإنساني. وعلى عكس ما يقوله الأستاذ شرارة فإن تشومسكي لم يسلم "بالسياسة الصربية في الإقليم الألباني السكان". والدليل على ذلك قوله في المقالة نفسها: "لقد حدثت كارثة إنسانية في كوسوفو في السنة الماضية، ويمكن القول بأنها كانت، بصورة تكاد تكون كلية، من فعل القوات المسلحة اليوغسلافية. أما الضحايا الرئيسيون فهم أبناء الطائفة الألبانية الكوسوفيون الذين يمثلون ما يقرب من تسعين في المئة من السكان في هذه المنطقة اليوغوسلافية. ويقدر عدد من ماتوا بألفي قتيل أما عدد اللاجئين فيقدر بمئات الألوف". كما أنه وصف سلوبودان ميلوشيفيتش، في رده على أحد ناقديه نشر الرد في مجلة Z، 15/4/1999 بأنه "بلطجي وحشي" monstrous thug. كما أشار في رد آخرمجلةZ ، 25/4/1999 إلى أن سبب المشكلة في كوسوفو يعود إلى ميلوشوفيتش نفسه، وذلك أنه ألغى الحكم الذاتي الذي كانت تعيشه كوسوفو، وأشار كذلك، مؤيدا، إلى الحركة الوطنية الديموقراطية الألبانية بقيادة روجوفا، وهي الحركة التي لم يؤيدها الغرب في السنين العشر الماضية. كما أشار كذلك إلى المقاومة التي بدأها جيش تحرير كوسوفو، وأشار إلى وصف الولاياتالمتحدة لتلك المقاومة بأنها من أعمال "الإرهاب". فهو لم يسلم بالسياسة الصربية، في كوسوفو، إذن. كما أن هدفه لم يكن التحيز المبطن لأميركا. ولقد كدت أضع لهذه المداخلة عنوانا آخر هو "النتيجة الجاهزة". وذلك أن هذه النتيجة التي عبر عنها الأستاذ شرارة في هذا المقال، ليست إلا تكرارا للنتيجة التي وصل إليها هو نفسه في مقال نشره في الحياة قبل خمس سنوات تقريباً "نعوم تشومسكي... ميونيخيا ومزورا في "عام الذكرى""، الحياة: 15/9/1995. فيقول الأستاذ شرارة في ذلك المقال: "يخلص نعوم تشومسكي الألسني الأميركي الكبير وأحد مشاهير نقاد السياسة الأميركية الخارجية في آسيا والشرق الأوسط... من نظرة خاطفة إلى "عام الذكرى"، 1995 إلى أن الولاياتالمتحدة الأميركية تتحمل التبعة عن ضحايا حروب الهندالصينية في فيتنام جنوبا وشمالا، وكمبوديافي أثناء المرحلة الأميركية 1969 - 1978 ولاوس، على النحو نفسه الذي تتحمل عليه اليابان التبعة عن ضحايا الحرب الثانية في الصين، وروسيا عن ضحايا أفغانستان". وقد أشار الأستاذ شرارة إلى نقله ذلك عن جريدة "لوموند" الفرنسية، 12/8/1995. ويقول كذلك: "على حين يُقبِل اليابانيون على الإقرار بتبعتهم هذه جماعات وزرافات... على حين يجري مثل هذا في الدولة الآسيوية يُصم الأميركيون "الأمة" آذانهم عن الإقرار بتبعتهم الصارخة عن قتلى هيروشيما وناغازاكي وريسدن وطوكيو، في الحرب الثانية، وعن قتلى الفيتناميين وكمبوديا ولاوس والصومال... ثم يصف الأستاذ شرارة موقف تشومسكي من اعتذار اليابانيين وعدم اعتذار الأميركيين بأنه "كيل بمكيالين". فعلى الرغم من عدم جدية اليابانيين في اعتذارهم بحسب رواية الأستاذ شرارة عن الكاتب الياباني كونزابوروأوويه، الحائز على جائزة نوبل للآداب، 1994 إلا أن تشومسكي، على ما يروي الأستاذ شرارة، "انتهى من غير عسر إلى البرهان على وضاعة الأميركيين الخلقية وعلى سمو اليابانيين وفضيلتهم. ولما كان الرجل تشومسكي أميركيا، قويت الإدانة من فم واحد منهم". ويخلص الأستاذ شرارة إلى أن "ما يفرح تشومسكي ويثلج صدره هو، بحذافيره، ما يقلق كونزابورو أوويه... وقد يكون معنى الفرق بين الرأيين أن تشومسكي يتهاون في ما يطلبه من اليابان ومن اليابانيين ويتراخى فيه، بينما يتشدد في ما يطلبه من الأميركيين. وإذا كان تشدده في ما يطلبه من مواطنيه شأنه، ما لم يجاف حقائق معروفة، فتراخيه في ما يطلبه من اليابانيين شأن عام. وهو، أي التراخي، يجوز حمله، من غير عنت ولا عسف، على عنصرية غير خفية. فمعناه المضمر أن ما يتكلفه اليابانيون من مراجعة أنفسهم وبعض حوادث تاريخهم، ولم تتعد المراجعة اللسان أو طرفه على ما يزعم أوويه في قومه، يفي بالغرض ويزيد. لماذا؟ لأنهم يابانيون، "شرقيون"، و"غير أميركيين"". أليست هذه هي النتيجة نفسها؟ لكن ما قاله تشومسكي في كتابه المشار إليه لا يمكن أن يفهم هذا الفهم Year 501: The Conquest Continues, Vergo, 1995، وقد تُرجم الكتاب إلى العربية، وأنا هنا أشير إلى النسخة الانكليزية. ويتبين موقف تشومسكي من مسألة وجوب اعتذار الولاياتالمتحدة لضحايا حروبها والنزاعات التي كانت طرفا مؤيدا فيها من القراءة المتأنية للكتاب. فقد أشار إلى النتائج المروعة للتدخل الأميركي في أنحاء العالم، ثم يستغرب عدم تفكيرها في الاعتذار عن كل ذلك، فيقول: "وليس شيء من هذا، وهو غير سري، يمكن أن يقف في طريق يمنع الولاياتالمتحدة أن "تنخرط فيما انخرط فيه العالم"، أو يدعو إلى bansei وهي كلمة تدل على "الندم" في اللغة اليابانية بغض النظر عن إن كانت تعني "الندم"، أو "فحص الذات" - هذا إذا لم نذكر التعويض عن الجرائم المروعة" ص 257. كما أشار تشومسكي إلى أن سوء الظن بنقاد السياسة الأميركية يمكن أن ينتهي إلى شبيه بالنتيجة التي انتهى إليها الأستاذ شرارة. فيقول تشومسكي: "من الطريف أن نلاحظ رد الفعل حين تخالَف حدود اللياقة في بعض الأحيان نتيجة للمقارنة بين السياسات اليابانية والأعمال التي قامت بها الولاياتالمتحدة في فيتنام. وفي معظم الأحيان فإن هذه المقارنة مما لا يمكن التفكير فيه حتى إنه ليصعب أن تُلاحَظ، أو يتخلص منها بوصفها ساذجة. أو يمكن أن تتهم بأنها اعتذار عن جرائم اليابان، وهو تأويل يبدو طبيعيا جدا. وبما أن كمالنا يعد من البديهيات، فإنه يلزم من ذلك أن أية مقارنة نقوم بها سوف تضفي على الآخرين شيئا من النبل الذي نتصف به، ولذلك فسوف يعد ذلك اعتذارا عن جرائمهم. ويتبع من هذا المنطق الذي لا يمكن دحضه أن افتخارنا بالجرائم التي نفذناها نحن لن يعد اعتذاراً، وإنما سيعد مجرد ثناء مستحَق على عظمتنا، وسينظر إلى سكوتنا على أنه يستحق ثناء لا يقل إلا قليلا عن كونه رضا مفرِطا. أما أولئك الذين يفشلون في فهم هذه الحقائق فإنهم يمكن أن يدانوا ب"العداء غير المسوغ لأميركا". ص243، ويجب أن نلاحظ أسلوب تشومسكي الذي ينحو نحو السخرية. ولم يزعم تشومسكي "أن ما يتكلفه اليابانيون من مراجعة أنفسهم وبعض حوادث تاريخهم... يفي بالغرض ويزيد". ولم يكن يزعم أن هذا الاعتذار كاف "لأنهم "يابانيون"، "شرقيون"، و"غير أميركيين""، كما يقول الأستاذ شرارة. أما ما كان يتحدث عنه تشومسكي فهو أن الاعتذار الياباني، بغض النظر عن إن كان حقيقيا أم زائفا، لم يقابله المعلقون الأميركيون إلا بالكثير من الاستخفاف والاستهزاء، وذلك في الوقت الذي لم يتكلف هؤلاء المعلقون مجرد الإشارة إلى ضرورة أن تقدم أميركا اعتذارا مماثلا لضحايا حروبها. ومن الشواهد على ذلك ما يقوله عن تعليقات أحد الصحفيين الأميركيين على اعتذار اليابان عن حروبها: "وجرم اليابان الأسوأ هو انتحاؤها نحو الأسى على النفس"، ورفضها أن تدفع تعويضات لضحاياها، و"محاولاتها المتعثرة لتطهير ماضيها" وبصورة عامة، فشلها في "أن تأتي بإقرار واضح بمسؤوليتها عن حروبها". ويقف وايزمن أحد الصحفيين، في جريدة نيويورك تايمز، الذين استخفوا بالاعتذار الياباني هنا على أرض صلبة - أو يمكن أن تكون أرضاً صلبة، لو أنه، أو محررو الصحيفة التي يعمل بها، أو رفاقهم المنتمون إلى النظام المهيمن فكروا بتطبيق هذه المبادئ التي ينادون بها على الآخرين. لكنهم لا ينادون بذلك، ولو للحظة، كما توضح ذلك الشواهد". ص 250-251. ومحصلة القول إن تشومسكي، بعكس ما يرى الأستاذ شرارة، ليس متحيزاً، بطريقة خفية مبطنة للولايات المتحدة. إن مما يثير الإعجاب في كتابات تشومسكي السياسية هو قيامها على جمع المعلومات واستقصائها الذي لا يكاد يُغفل شيئاً وهو ما يجعل الأستاذ شرارة يصف هذا الاستقصاء بالممل. وما يثير الإعجاب أكثر من ذلك هو قدرة تشومسكي على تأطير هذه المعلومات الهائلة واستخلاص ما تعنيه. * جامعة الملك سعود - الرياض.