تحار القضية العراقية في اروقة الاممالمتحدة بين اصدار قرارات جديدة تزيد من تضخم الملف العراقي، او التشبث بقرارات سابقة يعجز المجتمع الدولي عن تطبيقها كاملة. هذه الحيرة تنتقل للمعارضة العراقية باطيافها المختلفة، كما تزداد تشويهاً عندما تصل الى رجل الشارع العراقي الفرد الذي يعاني واسرته من مرارة وقسوة الحياة تحت النظام العراقي القائم. والخيار المتاح والمتداول الآن في بعض الاوساط السياسية الدولية هو إعمال التدخل القانوني لتقديم المسؤولين الاساسيين في العراق للمحاكمة الدولية. ولا اظن ان احداً من المتابعين يجهل الملامح العامة للفظائع التي يرتكبها النظام العراقي اليوم او ارتكبها في السابق تجاه شعبه، لذا فان المطلوب بعد هذه السنوات هو التدخل القانوني النشط، والذي اصبح مسوغاً بعد عدد من الاحداث الدولية في السنوات العشر الماضية. فليس من المؤمل ان يحدث تغيير في العراق على الشاكلة التشيكية، اي عن طريق ثورة مخملية، كما ليس من المؤمل ان يحدث تغيير في العراق على الشاكلة الباكستانية، لأن الجيش العراقي ليس بالتماسك الذي يتصف به البناء العسكري الباكستاني مثلاً. المطلوب، اذن، شيء دولي على شاكلة محاكم نورمبرغ او محاكم طوكيو بعد الحرب العالمية الثانية. ولقد ظهر ان بدايات مثل هذا التوجه تجعل اعمدة النظام العراقي تتوارى عن الساحة الدولية، والمثال الحي هو سرعة ترحيل عزت ابراهيم الدوري من النمسا الصيف المنصرم، وعدم حضور طارق عزيز لتجمع دولي في ايطاليا، وخوف القيادات العراقية الاساسية من التوجه للدول الاوروبية. ان البحث عن السلام والامن اللذين يسعى اليهما المجتمع الدولي يتزامن مع البحث عن العدالة، بل ان البحث عن العدالة هو مطلب يسبق البحث عن السلام. والعدالة هي التي تقرر ان ارتكاب القتل والجرائم ضد الانسانية، وخرق قوانين واعراف الحروب، كما فعل النظام العراقي ضد الاكراد في حملة الانفال الشهيرة التي استخدم فيها ابشع انواع الاسلحة وهي الاسلحة الكيماوية، وكذلك ضد الشيعة في الجنوب، وفي التطهير المذهبي والقبلي والقتل والتصفيات الجماعية في الداخل العراقي والحروب الاقليمية… كل هذا يتضمن الكثير مما يبرر تقديم المسؤولين عن كل هذه الفظائع للعدالة الدولية. النظام العراقي لم يرتكب كل ذلك فحسب، بل انه يحتفل بذكرى هذه المجازر كل عام، مردداً في كل مناسبة انه سيعود اليها متى ما ناسبه ذلك، كما ان تصفياته المتكررة لكل المعارضين في الداخل وتوعده من في الخارج بالويل والثبور علامة على سيره في الاتجاه الذي قرره دون توقف. محاكمات نورمبرغ الاشهر، وكذلك محاكمات طوكيو الاقل شهرة، بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية، شهدت عدالة المجتمع العالمي تجاه تجار الحروب ومرتكبيها، ولم يكن هناك اعتراض حتى يومنا هذا على هذه المحاكمات، بل وجدت ترحيباً لأنها اصبحت سابقة لردع المغامرين. في السنوات الاخيرة تذكر العالم تلك المحاكمات عندما اتضحت الفظائع التي ارتكبت في البوسنة والهرسك وكرواتيا ورواندا واخيراً في كوسوفو، وكان ان تجددت العودة الى فكرة محاكمة مجرمي الحرب او من ارتكب فظائع ضد الانسانية. المسؤولون الحكوميون والقانونيون والصحافيون في انحاء كثيرة من العالم بدأوا يناقشون نظريات القانون الدولي وطرق ووسائل جلب المجرمين الذين تسببوا في هذه الفظائع امام العدالة، بالضبط كما ناقش اسلافهم بعد الحرب العالمية الثانية هذه القضية، بل نجحوا في جلب بعض من ارتكبوا المذابح او تسببوا في ارتكابها والقائهم في قفص الاتهام، وكما تم في السابق فإن الولاياتالمتحدة هي التي قادت ونفذت عمليات التحري والتقصي وجمع الحقائق والمعلومات، وهي تقود اليوم عمليات المتابعة بالنسبة للعديد من مجرمي الحرب في اوروبا وافريقيا والشرق الاوسط. المعلومات والحقائق عن الفظائع التي ارتكبت في يوغوسلافيا السابقة كانت اوفر، وامكن الحصول عليها بسهولة نسبية، فقد قام الحلفاء بحملة انسانية واسعة شاركت فيها وسائل الاعلام الضخمة لتكثيف الحقائق امام الجمهور، مما ساعد في كشف المستور من تلك الجرائم، وقد توافر الكثير من لحقائق التي ادلى بها اللاجئون الى اوروبا، ولم تتوافر الحقائق كاملة او هي توافرت ولم يعتن بها اعلامياً وقانونياً تجاه الحملات المتعاقبة للتطهير والقتل والتشريد في العراق، وهي جزء من مؤامرة الصمت التي تحاول المعارضة العراقية باطيافها المختلفة كسرها والتحرر منها. عدالة الضحية هي المطلوب ممارستها تجاه النظام العراقي، وهي فكرة تنتصر في المجتمع الدولي، ويزداد مؤيدوها. إذ اصبحت الدول تقتنع اكثر واكثر بالتدخل المباشر في الحالات الصارخة في ما يتعلق بحقوق الانسان في بعض الدول، بل اصبحت لحقوق الانسان اليوم لجان رسمية تنشئها الدولة ووزارات خاصة تتفرغ لرعايتها، وليس للانسان العراقي او العربي مواصفات خاصة تفصله عن الانسان في اي بقعة من العالم، وتجعله بعيداً عن الدفاع عن حقوقه الطبيعية في الحرية والعدالة والامن. بعض الدول ساهمت بابتكارات محلية لمحاكمة مرتكبي الجرائم ضد الانسانية، ففي الهندوراس تمت محاكمة مرتكبي الجرائم ضد الانسانية امام محاكم مدنية قامت بمحاكمة عسكريين اضطلعوا بعمليات قتل جماعي وانتهاك حقوق الانسان في الثمانينات في تلك البلاد. وبينوشيه الرئيس التشيلي السابق يلاحق قضائياً اليوم في بريطانيا بسبب ما ارتكبه نظامه من فظائع. وفي اثيوبيا تمت ملاحقة مسؤولين كبار في نظام منغستو هيلا مريام الذي قام بحملات ارهاب ضد معارضيه على الطريقة الستالينية. اما في جنوب افريقيا فاستعانت الدول بمحامين كبار وقضاة دوليين للتحرك ضد من ارتكبوا جرائم ضد الانسانية في نظام جنوب افريقيا العنصري السابق. اما سوابق التدخل الدولي فتظهر في الحالتين اللتين انشأ مجلس الامن لهما محكمتين في هذا العقد: الاولى في بداية عام 1993 وهي المحكمة الخاصة لمحاكمة مجرمي الحرب في يوغوسلافيا السابقة، والثانية في اواخر سنة 1994 لمحاسبة مجرمي الحرب في رواندا. وكانت الولاياتالمتحدة في الحالتين المحرك الاساسي في انشاء هاتين المحكمتين من حيث هي مصدر القيادة والتمويل والتوظيف، كذلك هي مصدر المعلومات التي على اساسها بنيت لائحة الاتهام. المحكمتان انشئتا تحت مظلة الفصل السابع من ميثاق الاممالمتحدة، واصبح من المحتم على كل الدول ذات العلاقة ان تتعاون مع هاتين المحكمتين تحت تهديد فرض العقوبات الدولية ان لم يتم التعاون. والاسباب الرئيسية التي حتمت مثل هذا الامر ان مجلس الامن نظر الى الصراع في البوسنة وفي وراندا على انه صراع يهدد الامن والسلام العالميين. انه عصر جديد من التدخل القضائي الدولي النشط، ليس فقط في جرائم الحروب، بل ايضاً في الجرائم التي ترتكبها الدول ضد شعوبها او جزء منها، وهو تطور مهم في العلاقات الدولية بدأ القانونيون والسياسيون يقدمون التبرير النظري له، وعنوانه الكبير انه ليس من حق الحكومات الديكتاتورية ان تتصرف في شعوبها كما تشتهي كقطعان الاغنام. لقد اصبح الطغاة ومجرمو الحرب وجهين لعملة واحدة. لقد اخذت الاممالمتحدة عقدين كاملين للوصول الى تحديد شبه متفق عليه لمفهوم جرائم الحرب، والجهود مبذولة اليوم لتحديد مفهوم للطاغية، الذي يقوم بجرائم ضد شعبه. ولعل افضل رد لتحركات نظام بغداد، في محاولته لكسر طوق العزلة الدولية بالكثير من المناورات، ان يقدم قادته الى محاكمة دولية لمجرمي الحرب، وليس هناك نقص في المعلومات، بل فقط تحتاج الى تنظيم وقنوات سياسية وقضائية دولية. ولعل اطياف المعارضة العراقية تبذل جهداً في هذا السياق، وهو المؤدي لأمن وسلامة الشعب العراقي، وان يسود السلام في المنطقة، حيث لا شيء متماسك في العراق اليوم غير القمع الذي تقوم به فئة قليلة من الملتصقين بالنظام القائم، وبخلخلة هذا التماسك الهش تتحقق العدالة التي يتوق اليها ابناء العراق وكل المخلصين في هذه الامة. * كاتب كويتي.