تلقت "الحياة" من السيد بدرالدين يوسف هباني برلماني سوداني سابق، وعضو مؤسس في حزب الأمة رسالة ردّ فيها على كتاب مفتوح وجهته السيدة فاطمة ابراهيم رئيسة الاتحاد النسائي والقيادية في الحزب الشيوعي السوداني. وهنا نص الرسالة. استرعى انتباهي خطاب مفتوح من السيدة فاطمة احمد ابراهيم الى السيد الصادق المهدي في العدد 13208 من جريدة "الحياة" الغراء الصادرة في 7/5/1999 ادعت فيه ان رئيس الوزراء السابق زعيم حزب الامة مسؤول عن كل ما جرى في السودان. وهذا اتهام لا يمت الى حقائق تاريخ السودان السياسي بصلة، مع تقديري للاستاذة فاطمة التي أكنّ لها مقداراً كبيراً من المعزة وأظنه شعوراً متبادلاً. وبما انني عاصرت تلك الحقبة من تاريخ السودان 1953 - 1999 لا بد لي ان اقرر ان الصادق المهدي بدأ نشاطه ومسيرته السياسية إبان حكم عبود الديكتاتوري 1958 - 1964 تحت رعاية جده الإمام عبدالرحمن ووالده الإمام الصديق وقادة حزب الامة وكيان الانصار وتوجيههم، ونسأل الله الرحمة لمن اختاره الله سبحانه وتعالى الى جواره منهم. وساهم مساهمة ملحوظة في معارضة ذلك النظام الذي لجأ الى مساءلته وتوقيفه وتحديد اقامته في الخرطوم في الوقت الذي رأى حزبها ان يتعاون. وفعلاً تعاون حزب الاستاذة فاطمة مع ذلك النظام وخاض انتخابات مجالسه المحلية ومجلسه المركزي برلمان موجه يبصم عملاً بالمقولة: الناس على دين ملوكهم ولقد كان لحزب الصادق والصادق نفسه دور رائد في تعبئة الشارع الى ان هبّ بانتفاضته التي اقتلعت النظام وكانت مفخرة للشعب السوداني أشاد بها كل العالم. وخلال الديموقراطية الثانية التي عمرت خمس سنوات، كان الصادق رئيساً منتخباً لحزب الامة. ولو افترضنا جدلاً انه كان مسؤولاً عن كل ما اتخذه رئيس مجلس السيادة آنذاك الزعيم اسماعيل الازهري ورئيس مجلس الوزراء السيد محمد احمد محجوب من قرارات وما طبق من سياسات، تكون لا تزيد سنين تلك الفترة التي يُسأل عنها الصادق عن اربع سنوات علماً بأنه لم يكن مسؤولاً مباشراً عن سياسات حكومة جبهة الهيئات 1964 - 1965 وادائها، ولكن في الواقع كانت مسؤولية الصادق المهدي عما تم في تلك الفترة محدودة في مدة توليه رئاسة الوزراء التي لم تتعد العام، وحتى المسؤولية في تلك الفترة كانت تضامنية بين حزبه والحزب الحليف الاتحادي اعقب ذلك الحكم العسكري الثاني 1969 - 1985 الذي تبوأ فيه بعض قيادات حزب السيدة فاطمة مناصب قيادية، اذ كان بعضهم ضمن اعضاء مجلس قيادة الثورة الذي كونه الانقلابيون، وكان بعضهم الآخر اعضاء في مجلس وزرائه. ولا يستقيم عقلاً ان يحمل مسؤولية ما جرى خلال سنوات ذلك الحكم الست عشرة اذ ان ذلك الحكم بدأ مسيرته السوداء بقتل جماعي وابادة لأهل الصادق، حيث اغتيل بعضهم وهم داخل مسجد الإمام عبدالرحمن في ودنوباوي، وبعضهم الآخر في ربك والجزيرة. ثم خاض الصادق المهدي وحزبه والاتحادي والاخوان وهذا تاريخ حرباً ضد ذلك النظام في العام 1976 ولم يكن بينهم حزب السيدة فاطمة. ولما رأى الصادق وحزبه مصالحة النظام الذي وعد بأن يعيد الديموقراطية ويجتث الفساد، صالحه فعلاً في العام نفسه ولم يدم ذلك الصلح الا عاماً واحداً، لأن النظام تنكر لما اتفق عليه مع الصادق فخاصمه وعارضه علانية بتحدٍ سافر. ومرة اخرى ثار الشارع السياسي في المدن الثلاث في نيسان ابريل 1985 وكان للصادق وحزبه دور فاعل في تعبئة الجماهير واستنفارها لتثور وتطيح النظام، وكانت هتافاتهم: "مليون شهيد لعهد جديد"، علماً بأن مؤيدي الحزب الشيوعي كانوا يحثون رجال نميري بهتافات مدوية ليبيدوا رجالات الانصار البسطاء المسالمين ابان مجزرة جامع ودنوباوي. فكيف يستقيم عقلاً ان يكون الصادق المهدي مسؤولاً عما جرى في سنوات حكم نميري الست عشرة المظلمة؟ ثم جاءت انتفاضة نيسان ابريل التي عينت فعالياتها سوار الذهب رئيساً لمجلسها العسكري العالي، بحكم انه كان اعلى رتبة في القوات المسلحة خوفاً من شقاق وسطها اذا لم يعمل بنظام اسناد المسؤولية الى الرجل الاول. واجهضت تلك الحكومة مطالب اهل البلاد برفضها الغاء قوانين ايلول سبتمبر غير الاسلامية واشياء اخرى ولكن لهذا مجال آخر. المهم لا يمكن ان يعتبر الصادق مسؤولاً عن سياسات تلك الحكومة وادائها، وكان معظم وزرائها ديوانيين لا ينتمون الى حزب الصادق ولا يتعاطفون مع نهجه. اعقب ذلك الانتخابات البرلمانية التي رفض الناخب السوداني ان يمنح حزباً واحداً فيها تفويضاً ليحكم بمفرده، فكان ان قامت حكومة ائتلاف بين الحزبين الكبيرين برئاسة الصادق مع اختيار السيد احمد الميرغني رئيساً لمجلس السيادة. وفي خضم اللهث وراء الكسب الحزبي دبّت الخلافات حتى رفض بعض الوزراء علانية تنفيذ قرارات تخص وزاراتهم صادرة باجماع اعضاء المجلس. وعلى رغم ان الصادق ألّف ثلاث حكومات خلال تلك الفترة 1985 - 1989 كانت اثنتان منها قومية اشرك فيها الجبهة الاسلامية مع الحزب الاتحادي والحزب الشيوعي الذي كان يحتل ثلاثة مقاعد فقط في البرلمان وحزب البعث الذي لم يكن ممثلاً فيه وبعض الشخصيات الوطنية المرموقة، الا ان كل تلك المعادلات لم تؤت اي ثمار لتطيل من عمر الديموقراطية. فبعض تلك الاحزاب حرض وشجع النقابات لتتقدم بمطالب غير مبررة وتعجيزية لا يمكن تحقيقها. ولذلك لم يوافق عليها الوزراء المعنيون ووزاراتهم، فكان ان قامت الاضطرابات وتعددت وتكررت وشملت غالبية الاضرابات نقابات العاملين واتحاداتهم من موظفين وعمال ومزارعين. وعلى سبيل المثال اضربت نقابات عمالية كثيرة في القطاع الصناعي الحكومي لأنها طالبت بحوافز لم تمنح لها على رغم ان المصانع التي تعمل بها سجلت خسائر فادحة في حينه. كما طالب القضاة واصروا على ان يحددوا لوحدهم بمعزل عن السلطة الحاكمة مرتباتهم ومخصصاتهم. وتبعهم رجال النائب العام ووزارة العدل الذين رأوا انهم ليسوا اقل منهم اهمية، ثم المهندسون الذين قرروا انهم لا بد من ان يأتوا قبل القضاة لانهم عصب التنمية اذ يشقون الترع والقنوات ويعبّدون الطرق وينشئون الشبكات الكهربائية. وجاء الاطباء ليعلنوا انهم يأتون في اول قائمة الاهمية لأنهم بيدهم بإذن الله شفاء الجميع. وفي مناخ كهذا كان لا بد ان تتهاوى الديموقراطية في وجود ضباط مغامرين طموحين يريدون ان ينهلوا من فرات الحكم. ويزيد الطين بلة ان بعضهم، هذه المرة، كان عقائدياً منظماً، فكان ان تهاوت الديموقراطية الثالثة، فكيف يكون الصادق مسؤولاً على الرغم من كل ما جرى في الديموقراطية الثالثة؟ وجاء الحكم العسكري الديكتاتوري الثالث 1989 - 1999 فعارضه الصادق المهدي، ضمن فعاليات اخرى من اهل السودان لسبع سنوات امضاها داخل البلاد، تعرض خلالها للاعتقال والسجن والمساءلة والمضايقة والاهانة لكنه تحمل ذلك. ولما ادرك بمعلومات من مصادر موثوق بها ان حياته في خطر ترك البلاد. ولو كان خروجه مدبراً وباتفاق مع الترابي لخرج بطريقة سرية مأمونة مريحة، ولما احتاج الى ان يسافر على ظهر عربة نقل صغيرة محروساً بحفنة من شباب الانصار وحزب الامة الواعد وبطرق وعرة ولساعات عدة كان يمكن ان يكتشف امره خلالها فيفعلوا به ما يريدون فيفقد السودان واحداً من اعظم بنيه عطاء في كل مجالات حياة اهل البلاد ودروبها.