حين صدر دستور دولة الكويت عام 1962 لم يكن غائباً عن ذهن الشيخ عبدالله السالم الصباح حاكم البلاد آنذاك ان المجتمع الكويتي غير مهيأ بعد لممارسة الديموقراطية. كما كان يعلم يقيناً ان الأسرة الحاكمة ذاتها غير متحمسة الى منهج الحكم الجديد الذي يقلص صلاحياتهم المطلقة ويوفر للشعب مساحة كبيرة من المشاركة في اتخاذ القرار السياسي. فقد كانت صياغة مواد الدستور تتم في اجواء من الشك المتبادل وهو شك مباح في دهاليز العمل السياسي وأجواء التفاوض. وكان، رحمه الله، يتدخل حين يلزم الامر كي يبدد الشكوك ويعيد الحوار الى جادته آملاً زرع قيم الحوار الراقي والروح الديموقراطية. وقد نجح في اصدار الدستور لكن الوقت كان مبكراً للحكم على النجاح في زرع القيم. وحين بدأت أول ممارسة نيابية عام 1963 كان واضحاً ان طرفي اللعبة السياسية - النواب والحكومة - غير ملمين بقواعد اللعبة وأصولها، وان صداماً بينهما واقع لا محالة. ورغم ان مجلس الأمة حين بدأ مهماته عام 1963 لم يكن اول تجربة نيابية في الكويت، فهناك تجربة عام 1938، الا ان حالة التخلف السياسي دفعت نحو تشكيل مجموعة من القواعد تناهض روح الدستور وأحياناً نصوصه وباتت هذه القواعد البديلة تتحكم بمسار العمل السياسي في الكويت. وكانت خلاصتها استفزازاً نيابياً وعناداً حكومياً. وفي اجواء كهذه سادت العداوات الشخصية وأصبحت - حتى اليوم - جوهر العمل السياسي. وحين سنحت الفرصة عام 1976 صدرت الأوامر الاميرية بحل مجلس الأمة وتعليق العمل ببعض مواد الدستور، ومثلما حرصت السلطة على اعلان تمسكها بمنهج الديموقراطية والشورى حرصت ايضاً على طرح مفهومها للديموقراطية والشورى. وهو مفهوم يخالف تماما القواعد الدستورية، وهو المفهوم الذي كان منبعاً للممارسة الحكومية طوال الأربعة عشر عاماً السابقة على حل مجلس الأمة. ورغم ان الفرصة كانت متاحة امام السلطة لفرض مفهومها الخاص بالديموقراطية وتطبيقه، الا انها عجزت عن ذلك ليس بسبب وجود رفض شعبي بل لعدم القدرة على اتخاذ قرار اكثر جرأة من حل مجلس الأمة قد يخدش العلاقة بين السلطة والشعب. وعاد مجلس الأمة عام 1981 بعد تعديل لقانون الدوائر الانتخابية املاً بالسيطرة على نتائج الانتخابات. لكن الصدام الثاني وقع عام 1986 بعدما اضافت فترة حل مجلس الأمة من عام 1976 الى عام 1981 المزيد من العداء الشخصي لدى الجانبين. وصدرت الاوامر الاميرية مرة اخرى تعلن حل مجلس الأمة وتعطيل العمل ببعض مواد الدستور، وعزمت السلطة هذه المرة على فرض مفهومها للديموقراطية، الا ان ارتباكها وظهور بوادر رفض شعبي ثم وقوع العدوان العراقي تسبب كل هذا في عدول السلطة عن فرض المنهج الجديد الذي اختارته منفردة. وبفعل الالتفاف الشعبي حول السلطة في مرحلة الاحتلال العراقي، وبتأثير الموقف الدولي، اصبح من الصعب على السلطة السياسية التفكير في الانقلاب على المنهج الديموقراطي فأصبح وجود مجلس الأمة والصحافة الحرة شراً لا بد منه بالنسبة اليها. وعاد مجلس الأمة مرة اخرى عام 1992، وسعت السلطة الى التعايش مع الواقع المرفوض من جانبها ومدت يدها نحو مجلس الأمة للعمل المشترك، وعين ستة نواب في الحكومة للمرة الأولى كعلامة حسن نية ورغبة ايضاً في امتصاص الغضب الشعبي الناتج من تداعيات الغزو العراقي. غير انه سرعان ما بدأ الصراع محكوماً بالعوامل التي تسببت في حل مجلس الأمة عامي 1976 و1986. الا ان هذا الصراع اخذ اشكالاً جديدة بعد استبعاد فكرة تعطيل الدستور، اذ اعتادت الحكومة على خلق اجواء توحي بقرب حل مجلس الأمة كلما انحرف النقاش او تمادى النواب في ممارساتهم، كما اعتادت السلطة على التغيير الوزاري الجزئي. وقد يبدو هذا الاعتياد الحكومي مقبولاً الا ان الازمات السياسية التي واجهتها الكويت منذ عام 1992 حتى الآن تسببت فعلاً في تعطيل مشاريع التنمية وأفقدت البلاد مزية الاستقرار السياسي الذي تحتاج اليه، ولم تعد الحكومة قادرة على تبني او تنفيذ اي برنامج على مستوى الدولة. ورغم اختلاف عناوين الازمات التي مرت بها الكويت الا انها في الواقع تعبر عن ازمة واحدة: الديموقراطية في دولة نامية. ان الكويت بحاجة ماسة الى البحث عن حلول جذرية لواقعها السياسي، ورغم وضوح الرؤية الا ان حالة الخصام السياسي تبعثر الجهد وتعمق الخلاف. ومن اجل الوصول الى حلول جذرية يجب التصارح في وضع اطراف العمل السياسي، مؤسسة الحكم والبرلمان والقوى السياسية وجماعات الضغط. ان اداء مؤسسة الحكم يعاني من تأثير الموروث السياسي تجاه فكرة الديموقراطية، وهو الموروث الذي تشكل منذ عام 1938 حيث ان الصورة السائدة في ذهن مؤسسة الحكم عن الديموقراطية انها وسيلة الآخرين للمنافسة على السلطة وليست وسيلة للمشاركة في القرار. لذلك فان اساءة التفسير لها الغلبة دائماً. ولهذا ايضاً يسهل استفزاز مؤسسة الحكم فتعجز عن المناورة السياسية ويتأزم الموقف سريعاً. فضلاً عن ذلك فان خبرة مؤسسة الحكم في العمل السياسي الميداني محدودة وتتحكم بذهنيتها مجموعة من القواعد التقليدية التي لم تعد تتناسب مع العمل السياسي المتجدد. ففي البرلمان اليوم نواب لم يبلغوا الأربعين من العمر وهؤلاء بالطبع تحكمهم افكار لا تلتقي ابداً مع الافكار التقليدية التي لا تزال سائدة في صفوف مؤسسة الحكم والتي تم توارثها. بل ان عدم الالتقاء بين الافكار موجود داخل مؤسسة الحكم ذاتها حيث يعاني الفكر الشاب - ايا كان اتجاهه - من تجاهل وتهميش. والأمر الذي يزيد من معاناة اصحاب هذا الفكر الشاب انهم يلمسون التأثير السلبي لاستمرار العمل بالافكار التقليدية في وضع مؤسسة الحكم نفسها وليس في البلاد فقط. وترتبط بهذه النقطة الخلافات الحادة في صفوف مؤسسة الحكم على الاشخاص القائمين بالادارة. فهناك تيار يطالب بالتجديد الشخصي وليس الفكري فقط. وأيا كانت غاية هذا التيار فان الحديث عن التغيير خرج من دائرة مؤسسة الحكم ليصبح حديث المنتديات السياسية كلها. ورغم ان فكرة التجديد والتغيير مطروحة علناً الا ان مخاطر التجديد والتغيير امر مسكوت عنه. أمر آخر مرتبط بأداء مؤسسة الحكم، فالمعروف في الكويت ان مجلس الوزراء لا يمارس الدور المرسوم له حسب الدستور، فهناك قرارات سيادية تتشاور بشأنها مؤسسة الحكم وتمرر على مجلس الوزراء، وهذا الامر جعل الوزراء بمثابة موظفين بدرجة عالية، وجعل المنصب الوزاري طموحاً شخصياً لمن يسعى الى الوجاهة والأضواء. في السنوات الاخيرة تضاءلت المكانة الاجتماعية لمنصب الوزير وتراجع مستوى معايير الاختيار وأصبح ظهر السلطة مكشوفاً فبدلاً من الاستعانة بأشخاص يمكنهم الدفاع عن الحكومة وعن مؤسسة الحكم وعن السياسات العامة، اضطر رموز مؤسسة الحكم الى استنزاف جهودهم واستخدام مكانتهم الشخصية للدفاع عن الوزراء الذين اصبح بعضهم عبئاً على الحكومة، فلم يعد هناك خط دفاعي اول تستخدمه مؤسسة الحكم في الصراعات السياسية مع النواب مما اثر سلباً في عنصر الهيبة. هذا هو حال مؤسسة الحكم. اما عن البرلمان فلست بحاجة الى الشرح المفصل، فالممارسة النيابية وان كان في بعضها نقاء وطني الا انها تتراوح بين الصبيانية الطائشة والحقد الدفين والنوازع الشخصية. وتعاني هذه الممارسة من الجمود، فالنواب يبحثون دائماً عن الشعبية والنجومية. وبحسب مقاييس الرأي العام فان ضمان الشعبية والنجومية يكمن في استخدام القسوة اللفظية تجاه الحكومة والاندفاع في المعارضة. وبات واضحاً في السنوات الاخيرة ان البرلمان اصبح ساحة لتصفية الحسابات الشخصية. وحين واجهت الصحافة البرلمان لم يتردد النواب في اصدار مجلة اسبوعية تضمن عرض صورهم وأقوالهم. حتى وصل الامر الى انه في احد اعداد تلك المجلة نشرت صورة رئيس مجلس الامة في اكثر من 30 موقعاً. كما سعى النواب الى تعديل اللائحة الداخلية للمجلس لتلتزم الحكومة بث تسجيل لجلسات المجلس بعد ان يحذف منها ما يقرر رئيس المجلس حذفه. وإذا كان هذا الوضع في السابق مقصوراً على نواب المعارضة فان الجديد الآن هو لجوء النواب المحسوبين على مؤسسة الحكم الى استخدام الاسلوب نفسه، وخير مثال على ذلك الاستجواب الذي قدمه النائب عباس الخضاري ضد وزير الاوقاف، على خلفية اخطاء فنية في طباعة القرآن الكريم، وكذلك الحال بالنسبة الى النائب مبارك الخرينج الذي اعلن اكثر من مرة عزمه على استجواب وزير الصحة واعتبر حل مجلس الأمة "شرفاً لنا". ان اسلوب الممارسة النيابية يقف حجر عثرة في طريق توفير جو سياسي اكثر ملاءمة، فالأسلوب فضلاً عن بدائيته لا يتلاءم مع "ديموقراطية الشيوخ" ولا يتفق مع مواد الدستور في كثير من الاحيان، ومن شأنه توتير الاجواء بصورة تهدم اركان اي نشاط تنموي. ان النواب في امس الحاجة الى اعادة النظر ليس في اسلوب الممارسة فحسب، بل في مفهوم الديموقراطية والعمل البرلماني، كما انهم بحاجة الى فهم مقاصد الدستور وتوجهاته التوفيقية التي ابتدعت نظاماً ديموقراطياً في ظل حكم عائلي. اما عن القوى السياسية وجماعات الضغط فان اهتزاز القرار السياسي وتردده خلقا الفرصة المناسبة للقوى المصلحية لمحاولة توجيه القرار وفقاً لما يخدم مصالحها. ونظراً الى عدم قراءة مؤسسة الحكم الاوراق السياسية جيداً فانها تعتقد بأن هناك حاجة الى التحالف مع هذه القوى او تلك رغم انها ليست بحاجة الى التحالف مع احد اذ انها ليست في معركة بقاء سياسي كما ان لديها آليات اخرى يمكن استخدامها لتمرير قراراتها في مجلس الامة. بيد ان ادراك القوى السياسية واقع تفكير مؤسسة الحكم يدفعها دائماً الى الاعتقاد بالحاجة الى التحالف. ومن بين القوى السياسية الفاعلة الجماعات الاسلامية وهي الاقوى نفوذاً والاكثر انتشاراً في الشارع السياسي وقد تحالفت مع الحكومة اكثر من مرة الا انها بدأت تدرك اخيراً ان الارتباط بالحكومة تسبب في انحسار شعبيتها فضلاً عن عدم قدرتها على تحقيق بعض شعاراتها السياسية مثل تعديل المادة الثانية من الدستور لتصبح الشريعة الاسلامة المصدر الوحيد للتشريع. لذلك فهي - اي الجماعات الاسلامية - تمر حالياً بمرحلة انتقالية من صف الحكومة الى صف المعارضة خصوصاً مع اقتراب الانتخابات القادمة. الا ان هذا الانتقال لم يمنع الجماعات الاسلامية من اتباع منهج "التحالف الفردي" مع الوزراء كما فعلت مع وزير الاعلام الحالي ان خطورة الجماعات الاسلامية انها تحتفظ بأجندة خاصة بها ونظرتها الى المسائل العامة نظرة حزبية ضيقة. اما جماعة اليسار فبسبب ادراكها انحسار شعبيتها وفقدانها القدرة على التأثير في القرار او في اتجاهات الرأي العام، فقد رهنت نفسها لطرفين احدهما ضمن مؤسسة الحكم وقبلت بأن تقوم نيابة عن هذا الطرف بدور تغذية الخلاف الداخلي وتعزيزه في اتجاه احداث تغيير غير محسوب املاً بالحصول على مكاسب مستقبلية من دون ادراك انها مجرد اداة آنية سيتم التخلص منها في وقت ما. كما ان جماعة اليسار ارتمت في احضان خصمها التقليدي وهو ما يطلق عليه تجاوزاً "جماعة التجار" فوحدت حملات الطرفين الاعلامية. ولأن "التجار" ليسوا ممثلين في مجلس الامة فان جماعة اليسار التي يمثلها نائبان تقوم بمهمة تمثيلهم حالياً. ويسعى "التجار" منذ سنوات الى احياء تحالف قديم جمعهم مع مؤسسة الحكم تحت راية انهم شركاء تاريخيون. وكي تتضح الصورة يجدر التعريف بمصطلح "التجار" فالمعنى هو عدد محدود جداً من الاسر ذات الثراء التي استفادت مادياً بصورة فاحشة من التجارة البحرية قبل النفط. ثم استفادت بالصورة نفسها بعد اكتشاف النفط وكان لها دور وطني في التاريخ القديم الا انها تحولت الى فئة انتهازية تضع مصالحها المالية قبل اي شيء. وحصل ان دعمت مؤسسة الحكم حين حُلّ مجلس الامة عام 1976. وتسعى حالياً الى الوجود في مجلس الوزراء لادراكها انها لا تملك القدرة على الحصول على مقعد واحد في البرلمان. ويمكن اعتبار "التجار" مصدر ازعاج لمؤسسة الحكم. ان القوى السياسية - سواء الممثلة في البرلمان او غيرها - تدرك مدى اضطراب الرؤية لدى مؤسسة الحكم، لذلك فان التنافس بينها قائم. ووسط هذا التنافس تصبح الاولوية لمصلحة التيار، وتبقى القوى القبلية وهي قوى غير منظمة وغير فاعلة وتعاني من عقدة الاضطهاد الاجتماعي وهي عاجزة عن تقديم نفسها الى المجتمع او الى مؤسسة الحكم كأحد اطراف المعادلة السياسية. الا انه من المتوقع - ازاء ما تتعرض له من حملة تهميش على ايدي التجار واليسار لمواجهة حملة الاستغلال التي تتعرض لها من قبل الجماعات الاسلامية - من المتوقع ان يلتم شمل بعضها وتحاول دخول المعترك السياسي. ان الوضع السياسي في الكويت مرتبك جداً والعمل فيه محكوم كما اوضحنا بمجموعة من الموروثات السياسية ذات التأثير السلبي، سواء موروثات مؤسسة الحكم او النواب. كما ان الخلافات داخل مؤسسة الحكم وجمود التفكير وبطء حركة التغيير وانتهازية القوى السياسية وصبيانية الممارسات النيابية… كل هذا اسقط اي مجال للاتفاق على حد ادنى من الاولويات. وبلغت حالة التشتت السياسي اقصاها فتعطلت التنمية. ان وفاقاً وطنياً مطلوب الآن لكنه يجب ان يُبنى على عقلانية، ويجب ان يتم الاتفاق بين جميع اطراف العمل السياسي على الحدود القصوى للخلاف السياسي. اننا بحاجة الى رسم خط وهمي لا تجاوزه صراعاتنا الشخصية وخلافاتنا الفكرية. * رئيس تحرير "الوطن" الكويتية.