لن تمضي أشهر قليلة حتى يندلع الصراع مرة أخرى بين جناح من الجيش الجزائري ورئيس الدولة الجديد عبدالعزيز بوتفليقة. لا بد من فهم سوسيولوجي تاريخي لطبيعة هذا الصراع الذي يتميز بكونه صراع مؤسسات أكثر منه صراع ايديولوجيات أو حتى أفراد. فهو صراع موضوعي وليس صراعاً ذاتياً، مستقلاً عن ارادة الأفراد ومتكرراً عبر التاريخ. فما الذي يمكن استخلاصه كقانون سوسيولوجي؟ يمكننا القول ان مرشح الجيش هو الرئيس الذي يحترم قرارات الجيش لا يحاول أن يمس بالتوازنات، أن لا يتخذ القرارات الكبرى دون موافقته، أن يكون تابعاً للمؤسسة العسكرية لا قائداً لها. غير أن المشكلة مع عبدالعزيز بوتفليقة تكمن في كونه رجلاً لا يقبل أن يكون مجرد ديكور في المشهد الجزائري. فشخصيته قوية وتجربته السياسية طويلة وخبرته متميزة وطموحه جارف... وصدامه مع قيادة الأركان مسألة وقت. لا بد من التعرف على هذه الشخصية عن كثب لمعرفة ما يمكن أن تفعله في المستقبل وهل يمكنها إحداث المعجزة فتنتصر مؤسسة الرئاسة لأول مرة على المؤسسة العسكرية. الخصال التي تميز "سي عبدالقادر" يمكن حصرها في امتلاكه الشرعية التاريخية التي ما زالت تعد أكبر رأسمال رمزي يمكن من خلاله قيادة الجزائر. يساعده في ذلك كونه مقاتلاً وهب الثورة شبابه منذ بدايتها. كما ارتبط اسمه بالعصر الذهبي الذي عاشته الجزائر أثناء فترة حكم بومدين في النصف الثاني من الستينات والسبعينات، ويثير هذا العهد لدى الجزائريين حنيناً كبيراً واحتراماً خاصاً. لا بد من ملاحظة كونه من الغرب الجزائري، أي أنه ثاني رئيس بعد بن بله يأتي من هذه الجهة ويحكم الجزائر. هذا المعطى سيخلص النظام الجزائري من تهمة الإقصاء الدائم لهذه الجهة من رئاسة الحكم منذ عزل بن بله، وسيهبه في الوقت نفسه صدقية افتقدها طويلاً وتنهي احتكار الشرق التاريخي لمؤسسة الرئاسة. وأخيراً يعد بوتفليقة سياسياً محنكاً، يمكنه أن يعيد الى الجزائر إشعاعها الديبلوماسي الدولي، اضافة الى تميزه بنجاحه في نسج شبكة علاقات صداقة قوية مع دول الخليج العربي. تميز بوتفليقة في حملته الانتخابية، فاعتمد أكثر من غيره على الخبراء حيث خطط لسير التجمعات الجماهيرية قبل حدوثها. مركزاً على استحضار صورة بومدين في كل تجمع سواء برفع صورته ملصقة مع صورة الرئيس الراحل أو بالاستشهاد به في كل فقرة من خطابه. ولعب على المشاعر العاطفية من نوع كرامة الجزائري وإشعاع الجزائر لما كان وزيراً للخارجية، وما يعانيه اليوم مواطنه من ذل التأشيرات عندما يريد أن يسافر خارج حدود بلده. ووصل به الأمر في احدى خطبه الحماسية الى القول ان أهم قضية الآن هي كرامة الجزائري، وان المشاكل الاقتصادية والسياسية والاجتماعية هي مشاكل ثانوية أمام الكرامة والأنفة والعزة. عبدالعزيز بوتفليقة، القادم من الغرب، معقل أنصاره التقليدي بدأ حملته في الشرق مركزاً على منطقة القبائل البربرية التي تعد قلعة آيت أحمد وسعيد سعدي السياسية. لبس "برنصا" بالطريقة البربرية التقليدية. واستهل خطابه بكلمات وتحية بالأمازيغية. ما الذي نستخلصه من هذا التكنيك؟ نستنتج ان خطاب بوتفليقة يتنوع حسب الجهة، إذ يبدو أن له خبراء من كل ولاية يلخصون له قضايا المنطقة الحساسة فإذا تطرق اليها يجد تجاوباً كبيراً مع خطابه أما الصعوبات والعراقيل التي يمكن أن تواجهه في اتخاذ القرار فهي: أولا: برزت أخبار تؤكد ان الجيش غير مجمع على تأييد الرئيس عبدالعزيز بوتفليقة، فرئيس هيئة الأركان الجنرال محمد العماري، بحسب صحيفة "لوموند" الفرنسية، لا يساند بوتفليقة. وذكرت الصحيفة، التي لها علاقات وطيدة مع السياسيين الفرنسيين النافذين، ان المتحمسين الوحيدين لبوتفليقة هما قائد الأمن العسكري الجنرال محمد مدين ومساعده الجنرال اسماعيل العماري. وخلصت الى أن الرئيس الجديد هو في الواقع "مرشح جناح وليس كل المؤسسة العسكرية، وبالتالي سيتم اضعافه ولن يستطيع الصمود". كما سبق للاستخبارات الفرنسية أثناء الحملة الانتخابية أن سربت نص مكالمة هاتفية لصحيفة "لوكنار أنشينيه" يبين أن الاستخبارات العسكرية الجزائرية تدعم مباشرة "سي عبدالقادر". يمكننا من خلال هذه "المقالات غير البريئة" الاستنتاج أن بوتفليقة ليس برجل فرنسا، وأن أنصارها داخل الجيش محمد العماري لا يحبذونه. أكد ذلك لاحقاً الهجوم العنيف الذي شنه الرئيس المنتخب على فرنسا منذ اليوم التالي لاعلان نتيجة الانتخابات قائلا "أنتم أيها الفرنسيون اهتموا بشؤون بلادكم أفضل لكم، فنحن لا نسمح لكم بالتدخل في شؤوننا". إذا كان ما سمي ب"ضباط الجيش الفرنسي" معادين له، فمن يسانده؟ الجيل الجديد من الضباط؟ التقنوقراط؟ بعض الضباط المعادين للنفوذ الفرنسي والمتعاطفين مع ضرورة تكثيف التعاون مع الأميركيين؟ هذا الاتجاه الجديد يدلل الى صراع آخر داخل المؤسسة العسكرية بين جناح عربي يحبذ التعاون مع أميركا والعرب وآخر يرتبط بفرنسا، يجب تذكير القارئ المشرقي أن "شيطان" المغرب العربي، باستثناء ليبيا، يتمثل بفرنسا لا بأميركا، لأسباب ثقافية وتاريخية متشابكة. ثانيا: يجد بوتفليقة نفسه الآن من دون أي سند من منطقة القبائل في تيزي وزو أو بجاية. فمشاركتهم في الانتخابات لم تتجاوز 6 في المئة باعتراف النتائج الرسمية نفسها. فمن الواضح أن سكان هاتين الولايتين التزموا بتعاليم زعيميهما التقليديين: حسين آيت أحمد وسعيد سعدي بمقاطعة الانتخابات. ومن الممكن أن يواجه انتفاضات أو على الأقل احتجاجات كبيرة من هذه الفئة النشطة من سكان الجزائر. ومن الممكن أن يطفو خطر الصراع بين التحالف العربي الشاوي من جهة والقبائل من جهة أخرى على السطح، اضافة الى تمسك القبائل بالفرنسية ومعاداتهم المتفاوتة لعمليات التعريب وللاتجاه العربي الذي سيميز الرئيس بوتفليقة. ثالثا: لا يمكن الحديث عن دعم حقيقي ومباشر من جبهة التحرير الوطني ولا من التجمع الوطني الديموقراطي، على رغم ان بوتفليقة تلقى من كليهما دعماً واضحاً حتى قبل ترشحه رسمياً للانتخابات الرئاسية. فدعمهما له في حقيقة الأمر هو انعكاس لدعم جناح في القيادة العسكرية. فجبهة التحرير، بعد ازاحة أمينها العام السابق عبدالحميد مهري، أصبحت شديدة القرب من الاستخبارات العسكرية. اعترف زعيمها بوعلام بن حمودة مرة فقال انه "ساند بوتفليقة تنفيذاً لتعليمات جاءت من فوق" أما التجمع الوطني الديموقراطي الذي شكل لدعم الرئيس زروال، فمن المعروف عنه أنه حزب الادارة الذي يتبع موازين القوى. كما ساندت بوتفليقة حركة النهضة التي تخلصت من تيار عبدالله جاب الله بتشجيع من الأمن العسكري. وقدمت "حمس" حركة مجتمع السلم ولاءها المطلق لبوتفليقة في آخر لحظة بعد أن أزيح زعيمها التاريخي محفوظ نحناح من سباق الرئاسيات بذريعة عدم مشاركته في الثورة. كما يمكن أن نضيف أحزاباً سياسية صغيرة كثيرة، يعتبرها بعض الملاحظين من صنع الاستخبارات العسكرية لدعم اتجاهات الجيش لدى الطبقة السياسية المدنية، ويتميز أغلبها بضعف شديد في القدرة على تعبئة الشارع. ان اختلاف منابع هذه الأحزاب الجذري وعدم وجود رابط عقائدي ايديولوجي بينها سيجعلها عالة على الرئيس أكثر منها دعما. فهي تبحث عن الغنيمة المتمثلة في المناصب والامتيازات الوظيفية والسياسية. وهو ما دفع الرئيس بوتفليقة صراحة الى القول انه يقبل دعم هذه الأحزاب لكنه غير ملتزم ببرامجها ولا بما تقول. رابعا: بوتفليقة الذي يرمز للبومدينية سيجد نفسه مضطراً لانتهاج سياسة مضادة لبومدين، على الأقل في المجال الاقتصادي. لن يستطيع ان يطبق برامج اشتراكية قد تجذب الطبقات الفقيرة. سيجد نفسه في مواجهة صندوق النقد الدولي وطبقة الأثرياء الجدد الذين يسيطرون على مقاليد الجزائر الاقتصادية. أما خارجياً، فلا يمكنه استعادة خطاب بومدين العالم ثالثي المعادي للامبريالية الأميركية، فانتهاء الحرب الباردة تجعل من مثل هذا الخطاب نمطاً من اللاواقعية السياسية لن يجلب الا الحصار. أما تصريحاته الحادة أثناء الحملة الانتخابية ضد جيران الجزائر العرب وعزمه على لعب دور اقليمي، فيبدو أنه تم فهمها على أساس انها جزء من الحملة الدعائية لتعبئة الأنصار وليست برنامجاً حقيقياً. تبقى الحقيقة السوسيولوجية الوحيدة القائمة في الجزائر وتتمثل في هيمنة المؤسسة العسكرية على المجتمع والدولة وادارتها بشكل خفي. فالجيش اعتاد على إدارة البلد مستخدماً "حجاب" المدنيين على حد تعبير الباحث الجزائري عبدالقادر يفصح. ونجح فعلاً في حماية النخبة السياسية من التفكك، لكن هذا النجاح مرهون بمدى قدرته على المحافظة على وحدته وادارته لصراعاته الداخلية من دون أن يحدث انفلات خطير. أما نجاح بوتفليقة فمرتبط في نهاية المطاف بامكانية حدوث اتفاق حوله داخل المؤسسة العسكرية، وفي اعطائه فرصة ووقتاً ثمينين لإحداث المصالحة الوطنية التي وعد بها. * كاتب تونسي مقيم في جنيف.