أحد أهم أسباب ما تعيشه الجزائر اليوم من ارهاصات ديموقراطية يعود الفضل فيه إلى حرب التحرير الوطنية 1954-1962، حيث تميزت هذه الحرب برفضها الكلي لمبدأ القائد أو الزعيم. كان شعارها "لا يوجد إلا زعيم واحد هو الشعب". ودفع كل من حاول الخروج عن هذا الاجماع الثوري ثمناً باهظاً وصل إلى حد القتل في بعض الأحيان أو العزل في أحيان أخرى. أول ضحية لهذا الاجماع كان مصالي الحاج أبا الحركة الوطنية الجزائرية الحديثة الذي لم يقبل أن تتجاوزه الأحداث وأن يخرج عليه شباب مجهولون ليؤسسوا اللجنة الثورية للوحدة والعمل ثم لجنة 22، لتنتهي إلى تأسيس تنظيم جديد صغير متواضع العدد اسمه جبهة التحرير الوطني. حاربه بعنف لكنه خسر المعركة بشكل لم يكن متوقعاً وسقط كثير من الضحايا في سبيل الدفاع عن أو رفض فكرة الزعيم. عبان رمضان، القائد الأول لجبهة التحرير الوطني، قتل خنقاً في كانون الأول ديسمبر 1957 في مراكش على يد مخابرات عبدالحفيظ بوصوف وبتواطؤ واضح من كريم بلقاسم ولخضر بن طوبال. بعد الاغتيال قال بوصوف: لقد انقذت الثورة الجزائرية من عدو شرس! التهمة الحقيقية كانت التفرد بالقيادة وتنصيب عبان نفسه قائداً ميدانياً وانفراده بالقرار!! أحمد بن بلا أثناء حكمه تصرف كأنه عبدالناصر الجزائر: يخطب في كل مكان، ويتحدث باسم الثورة والدولة كقائد أوحد، عندما أراد أن يغير فعلياً من موازين القوى داخل الدولة والحكومة والجيش تمت ازاحته بيسر ومن دون كبير عناء. ويعد هواري بومدين الزعيم الوحيد الذي احترم القاعدة وأدرك معانيها فاستغل ثغراتها أحسن استغلال. ذكاء بومدين يكمن في كونه أدرك بعمق عجزه، عن أن يحكم كفرد ولكن في إمكانه أن يحكم كجهاز: وكان الجيش المنظم أحسن وسيلة يمكنه من خلالها حكم البلد بعد أن أنجز انقلابه في 19 حزيران يوليو 1965. من الانصاف القول إن بومدين الذي استقبل في السنة نفسها بهتافات الجماهير الجزائرية المعادية: "بن بلا إلى القصر، بومدين إلى المشنقة"، تمكن تدريجاً من الوصول إلى أعماق العاطفة الجزائرية ومن اكتساب احترام الجميع. فبكته الجماهير بصدق عندما توفي وتذكره اليوم بكل تبجيل. أما الرئيس السابق الشاذلي بن جديد، فقد عرف منذ البداية حدوده وحرص على التصرف كرئيس دولة لا كزعيم، وحينما وصل إلى المأزق، قدم استقالته إن طوعاً أو إكراهاً. محمد بوضياف، لم يستفد من التاريخ وتصرف كزعيم فوق الجميع من دون ان تكون له أية قاعدة مؤسساتية ولا حتى جماهيرية حقيقية. كثيراً ما كانت الرقابة العسكرية تتدخل لحذف مشاهد من خطبه الحماسية التي تبث عبر التلفزيون، وحينما أكثر من الازعاج والتشبث بسلوك الزعيم، تم التخلص منه بشكل مأسوي. علي الكافي، فهم دوره كما يجب ولم يحاول تخطي حدوده أبداً وانسحب بهدوء. عبدالعزيز بوتفليقة رفض الرئاسة سنة 1994، وقبلها اليمين زروال الذي حاول اكتساب الشرعية الديموقراطية من خلال الانتخابات ثم سعى إلى إحداث بعض التغييرات داخل المؤسسة العسكرية في اتجاه تقوية مؤسسة الرئاسة ضد الهيمنة التاريخية للمؤسسة العسكرية، وتمكن من انجاز بعض التعديلات، لكنه تحت الضغط الذي مارسه الجيش وبالذات سلسلة الهجمات الصحافية المتتالية التي تناولت أخلص أعوانه بالتشيهر الجنرال محمد بتشين، فضل الانسحاب وتقديم استقالته بشكل مشرف، لأنه أدرك حدود موازين القوى. ومنذ الاستقالة، برز عدد ضخم من المرشحين. أبرز هؤلاء المرشحين على الاطلاق هو عبدالعزيز بوتفليقة المكنى بسي عبدالقادر. ولد "المترشح الحر" بوتفليقة في 2 آذار مارس 1938 في مدينة تلمسان غرب الجزائر. انضم إلى الثورة مبكراً منذ سنة 1956 حيث عمل تحت قيادة بومدين العسكرية الذي اهتم به وأوكل إليه مهمات دقيقة. فعينه قائداً عسكرياً برتبة رائد ولم يتجاوز سنه 18 سنة ليقود رجالاً أكبر منه سناً في الجبال، كما أرسله قبل أشهر من الاستقلال سنة 1961 إلى فرنسا في مهمة سرية لاقناع محمد بوضياف بإمكانية التحالف معه لإسقاط الحكومة الموقتة فرفض عرضه وعامله بجفاء. ونجح في اتصاله بأحمد بن بلا حيث قبل بمشروع التحالف مع قيادة أركان جيش التحرير الوطني. يعد بوتفليقة أحد أعمدة "كتلة وجدة العسكرية" الأكثر صلابة واخلاصاً لبومدين. شغل منصب وزير الشباب والرياضة والسياحة وعمره لا يتجاوز 25 سنة، ثم منصب وزير الخارجية إلى سنة 1979. بعد وفاة بومدين مباشرة، كان واحداً من مرشحين اثنين لخلافته، من المفترض أن منافسه الأول هو محمد الصالح اليحياوي، لكن الجيش، وهو ما لم يتوقعه أحد، عين الشاذلي بن جديد رئيساً للجمهورية باعتبار أنه الضابط الأكبر سناً والأعلى رتبة حتى يتم التخلص من بوتفليقة الملتزم سياسة بومدين. يتميز "سي عبدالقادر" بالخصال التالية: أولاً، امتلاكه الشرعية التاريخية، فهو مقاتل وهب الثورة شبابه منذ بدايتها. ثانياً، ارتباط اسمه بالعصر الذهبي الذي عاشته الجزائر أثناء فترة حكم بومدين. ويثير هذا العهد لدى الجزائريين حنيناً كبيراً واحتراماً جلياً، فيندرج اختياره في إطار البحث عن الشرعية لدى المناضلين الأوائل. ثالثاً، يتميز بكونه من الغرب الجزائري، وهو ما سيعطي للنظام الجزائري نوعاً جديداً من الصدقية التي ستخلصه من تهمة الاقصاء الدائم لهذه الجهة من رئاسة الحكم منذ عزل بن بلا. رابعاً، يعد سياسياً محنكاً، يمكنه ان يعيد للجزائر اشعاعها الديبلوماسي الدولي، وهو يرتبط بعلاقة صداقة قوية مع دول الخليج وله توجهات عربية صريحة. أما العراقيل والصعوبات التي يمكن أن تواجهه وتحد من فعاليته في اتخاذ القرار فهي: أولاً، على عكس الرئيس اليمين زروال، فهو لا يمتلك أنصاراً حقيقيين لدى المؤسسة العسكرية، بمعنى ولاءات تامة كما هو الحال بالنسبة لزروال. فإذا وقع الاختيار عليه من قيادة الجيش، فليس لكونه يمتلك نفوذاً عليهم، بل على العكس، لكونه لا يستطيع ان يغيّر في هذه القيادة ويتلاعب بتوازناتها لعدم معرفته بتفاصيل التيارات التي تخترقها على عكس اليمين زروال. ثانياً، وصوله إلى رئاسة الدولة من دون الارتكاز على ولاءات مباشرة لمصلحته لدى المؤسسة العسكرية سيجعله غير قادر على اتخاذ قرارات صعبة ومصيرية لا توافق عليها قياداتها. إضافة إلى أن تدخل الجيش لمصلحته قد يكون نقمة عليه لدى الناخب العادي في حال توافر انتخابات نزيهة. يذكر في هذا الصدد ان صحيفة "لو كانار انشينيه" ذكرت في أحد أعدادها الأخيرة الأربعاء 16 شباط/ فبراير الماضي أن مكالمة هاتفية تنصتت عليها الاستخبارات الفرنسية جرت بين الجنرال اسماعيل العماري والقائم بالأعمال العسكري في سفارة الجزائر في باريس، الجنرال صنهاجي يوم 4 كانون الثاني يناير الماضي، فطلب العماري من صنهاجي التدخل لدى صديقه سيد أحمد غزالي للتخلي عن ترشحه لمصلحة بوتفليقة، خصوصاً أن الاثنين من منطقة الغرب المفترض أن تكون القاعدة الصلبة لبوتفليقة. ثالثاً، لا يبدو أنه يمتلك سنداً حقيقياً ومباشراً من جبهة التحرير الوطني ولا من التجمع الوطني الديموقراطي على رغم أنه تلقى من كليهما دعماً لترشحه للانتخابات الرئاسية. فدعمهما له في حقيقة الأمر هو انعكاس لدعم القيادة العسكرية. فالمعروف عن جبهة التحرير الوطني، بعد إزاحة أمينها العام السابق عبدالحميد مهري، أنها أصبحت شديدة القرب من قيادة أركان الجيش الجزائري. أما التجمع الوطني الديموقراطي، الذي شكل لدعم الرئيس زروال، فمن المعروف عنه أنه حزب الإدارة التابع للسلطة الفعلية أي الجيش، وقد تأكد أخيراً بعد أن تمت تصفية أنصار زروال محمد بتشين ومحمد بن بعبيبش وعينت له قيادة جديدة على رأسها أحمد أويحيى الذي يبدو أنه غير تحالفاته جذرياً وتحول إلى تكتل قيادة الأركان/ بوتفليقة. كما ساندت بوتفليقة حركة النهضة التي تخلصت من تيار عبدالله جاب الله، إضافة إلى أحزاب سياسية صغيرة كثيرة. لكن لا بد من إدراك ان دعم قيادات هذه الأحزاب لبوتفليقة لن يعني بالضرورة دعم القواعد العريضة له بنفس الحماس والالتزام. إن دراسة السلوك الانتخابي في الديموقراطيات الغربية الأصيلة مسألة معقدة ومتموجة حيث كثيراً ما تحدث مفاجآت. أما في العالم الثالث، والجزائر أحد أمثلتها، فإن عناصر أخرى تتدخل لتضبط قواعد مختلفة في التصويت. فالجهوية والعشائرية أو ربما حتى الاثنية تتدخل جميعها لتغيير سير الانتخابات في اتجاهات لاعقلانية، لا تهتم بالأحزاب ولا بالبرامج بقدر ما تهتم بالروابط الذاتية التي سبق ذكرها. ومن ثم يجب أن ننتظر مفاجآت عدة بعد ظهور مؤشرات تؤكد تمرد القيادات الوسطى على القيادات المركزية للأحزاب التي ساندت بوتفليقة. استفاد "المرشح الحر" عبدالعزيز بوتفليقة من حملة شاملة قدمته على أساس أنه مرشح الاجماع، ووصل الأمر إلى اعتباره رئيساً بالقوة للبلاد، مما دفع اليمين زروال إلى التدخل في خطاب رسمي ألقاه يوم الجمعة 13 شباط الماضي هدد فيه ب "اتخاذ التدابير التي قد تفرض نفسها إذا ما استفحلت النزعة إلى تحريف هذه الانتخابات عن مغزاها واستمرت السلوكيات الرامية إلى تحويل هذا المسار عن أهدافه". كما استهدف الخطاب نفسه المؤسسة العسكرية بشكل عام والجنرال المتقاعد خالد نزار بشكل خاص، حينما حذرهم من الحديث باسم المؤسسة العسكرية باعتباره ما زال قائدها الأعلى، مؤكداً أنه لا يزال يتمتع بصلاحياته الكاملة كرئيس للجمهورية. لقد اختار الرئيس زروال توقيتاً ذهبياً جعل منه أكثر الشخصيات القيادية احتراماً ومبدئية ووضوحاً. وفي الوقت نفسه وضع محل اتهام خصومه في قيادة الأركان باعتبارهم لم يلتزموا الحياد واعتدوا على إرادة الشعب الجزائري الذي لم يجمع بعد على أي كان. نجح زروال في تمرير رسالته وأصبح متهماً بعد أن كان متهّماً! ووضع أكبر عقبة اخلاقية في وجه بوتفليقة. * كاتب تونسي مقيم في جنيف.