توشك ضاحية مدينة نصر أن تصبح عاصمة لدور العرض السينمائي في القاهرة. وربما في مصر كلها. فبعدما تم افتتاح مجمع سينمائي الاسبوع الماضي فيه ست دور للعرض السينمائي مرة واحدة. والمجمع جزء من مبنى الحديقة الدولية، ويطل على شارع عباس العقاد أغنى شارع في مصر الآن. وخطف المجد والشهرة والزحام والإقبال من شوارع مربع منطقة وسط البلد الشهيرة سليمان باشا وفؤاد وشريف وقصر النيل التي تحال الى المعاش في هذه الأيام، على رغم زحام مساء الخميس ومساء السبت، الذي لا يعكس حركة شراء تساوي عدد الخلق، مما يجعل من هذا الزحام حالة من الازدهار البائس. كان في مدينة نصر، منذ إنشائها في سنوات ثورة تموز يوليو الأولى دار سينما وحيدة، سينما صيفية تعمل ليلاً في الصيف فقط، وكان اسمها سينما مدينة نصر. حملت اسم الضاحية نفسها والحي نفسه، اطلق عليه اسم "نصر" وكانت كلمة السر في ليلة اصبحت تاريخاً مصرياً، ليلة ثورة 23 تموز يوليو 1952. هذه السينما الوحيدة، تحولت أخيراً الى مسرح لفرق القطاع الخاص، التي تقدم فيه وكان آخرها "شبورة"، وهي عروض أقرب الى الكاباريه السياسي. ضحك ونكات ورقص وعري وجنس. وخروج على نص لا وجود له أصلاً. لكن مع تحويل سينما مدينة نصر الصيفية الى مسرح كجزء من التحولات التي تجري في مصر خرجت الى الوجود 12 دار عرض جديدة. كانت البداية مع مبنى ضخم في شارع النصر. الذي اكتسب اسمه من العروض التي كان يجريها الرئيس السادات في السادس من تشرين الأول اكتوبر من كل سنة، واستمرت هذه العروض حتى جرى اغتياله في أحدها، ومع توقف العروض كان لاپبد من البحث عن اسم جديد للشارع الذي يعد طريقاً عريضاً أكثر من كونه شارعاً. اصبح اسمه "طريق الاوستراد" أو الطريق السريع، والمبنى الجديد اسمه "طيبة مول" وهو من المباني الجديدة التي عمت مصر أخيراً، اسواق ضخمة شاهقة يشعر الإنسان فيها بالدوار والتعب ولا يمارس متعة الشراء أبداً. في هذا المبنى الذي كانت تمتلكه شركة استثمارية كويتية تم إنشاء دارين للعروض السينمائية: "طيبة 1" و"طيبة 2"، في الثانية حوالى مئة كرسي فقط، أما الأولى فقاعة كبيرة، في البداية كانت الداران تابعتين للشركة الكويتية، ثم استأجرتهما شركة مصر وهي تابعة للقطاع العام. وبعدما جرت خصخصة القطاع العام في السينما، وتمثل موقف الحكومة المصرية في الموافقة على بيع السينما ورفض بيع المسرح. وحتى الآن لا أعرف السبب في هذا الموقف مع أن السينما ربما كانت أكثر تأثيراً واستمراراً من المسرح. تقدم القطاع الخاص لشراء الدارين، ومجموعة المستثمرين الذين تقدموا كانوا من ابناء رجل الاعمال عثمان أحمد عثمان والشركة كانت تحمل اسمه. وعلى رغم ضآلة التغيير الذي حمله تغيير المالك من القطاع الخاص الى العام. إلا أن تذكرة الدخول ارتفعت مرة واحدة من خمسة جنيهات الى عشرين جنيها، وهذا معناه ان على رب الأسرة التي يصل عدد أفرادها الى خمسة أن يدفع مئة جنيه. هذا إن أغفلنا أجرة الانتقال من بيته الى السينما. وهذا الارتفاع شكل تغييراً في جماهير السينما، إذ أصبح من النادر أن تذهب العائلة المصرية التقليدية، الزوج والزوجة والأبناء، الذين يمثلون جسم الطبقة الوسطى المعروف في المجتمع المصري الى السينما. أصبح جمهور السينما أساساً من المراهقين الجدد، يذهبون على شكل مجموعات، يقتلون الوقت ولا يعرف أحد من أين يحصلون على ثمن التذاكر. وفي الليل نجد الاغنياء الجدد الذين يعدون الذهاب الى السينما مقدمة لقضاء الليل في القاهرة التي لا يعرفها سكانها في النهار. قلت إن داراً صيفية استبدلت بدارين، مرة واحدة، تحتهما مباشرة فرع جديد لمكتبة مدبولي، فالحسبة اذن تخلو من الخسارة. لكن مع افتتاح مبنى "جنينه مول" الضخم المجاور لمبنى شركة الخدمات البترولية للطائرات، من شارع البطراوي المتفرع من شارع عباس العقاد، اعلن عن إفتتاح أربع دور عرض مرة واحدة، يسيطر على تصميمها الحس النفعي، بعيداً عن فنون العمارة القديمة، تماماً مثل الشقق والبيوت التي نشاهدها في افلام الغرب الحديثة، حيث ان الغرض من استخدام المبنى هو الذي يحدد مساحته وشكله وجمالياته من مراعاة للجماليات. وشاهدت في هذا المجمع عرضا خاصاً لفيلم "نفوس معقدة" 1998 وهو معالجة جديدة لفيلم الفريد هتشكوك الذي سبق وقدمه سنة 1960 ولاقى نجاحاً كبيراً. وبعد ذلك افتتحت شركة "نهضة مصر"، التي اتخذت من تمثال محمود مختار نهضة مصر شعاراً لها، ست دور للعرض في مجمع ترفيهي ضخم. "نهضة مصر" شركة يملكها رجل الاعمال نجيب ساويرس، وان كان ساويرس يمثل طفره رأس المال الجديدة في مصر فإن من بين شركائه هشام محمد فائق، وطارق علي صبري الاول نجل محمد فائق وزير الاعلام في عهد جمال عبدالناصر. والثاني نجل على صبري الرجل القوي في زمن جمال عبدالناصر واول ايام السادات. في الافتتاح كان هناك ستة افلام معروضة في الوقت نفسه وتم التعمد عدم الاعلان عنها، تدخل الى القاعة فتجد الفيلم معروضاً، وكان من حظي وبناء على نصيحة من الناقد السينمائي رئيس الرقابة على المصنفات الفنية علي ابو شادي، ونجيب ساويرس ان شاهدت في هذا الافتتاح فيلم "لعبة الست" لنجيب الريحاني. ربما كانت المرة الثانية في حياتي التي أشاهد فيها نجيب الريحاني سينمائياً. نشاهده يومياً على الشاشة الصغيرة التي تبدو بلا اعماق، وعمالقة الممثلين يبدون اقرب الى الأقزام. كانت المرة الاولى التي أشاهد فيها نجيب الريحاني على شاشة كبيرة بعد ثورة 23 تموز يوليو 1952. عندما مرت على القرى قوافل التوعية بأهداف الثورة، ضمن حملات الارشاد القومي، وبعد الانتهاء من الكلام عرضوا علينا في قريتي الضهرية، مركز ايتاي البارود محافظة البحيرة، فيلم "غزل البنات" وكانت هناك رغبة في الاعلاء من شأن ليلى مراد في مواجهة ام كلثوم التي كان يرى فتحي رضوان انها مطربة الملك فاروق، وان اغنياتها مخدرات تلهي الشعب عن مساندة الثورة الوليدة. كانت الشاشة عبارة عن ملاءة سرير معلقة بين شجرتين امام دوار العمدة، ولذلك تأثرت الصورة كثيرا خصوصاً بعدما هبت الرياح. ومع هذا تظل هذه المشاهدة، هي الأصل والأساس في كل المرات التي جاءت بعد هذا عبر أجهزة التلفزيون الكثيرة. تلك العبقرية النادرة التي من الصعب وصفها بالكلمات. اكتشافي الجديد إن هذا الرجل الذي اضحك الناس بلا حدود، خصوصاً على المسرح، كان ممثلا تراجيدياً بقدر ما كان كوميديانا اضحك الناس بلا حدود فالمأساة تقطر من كل كلمة ينطق بها. وفي ملامح وجهه من الأسى ما يجعلنا نضحك... من قال إن المسافة بين الضحك والدموع كبيرة. ثم إن هناك هذا المؤلف النادر الذي نسيناه طويلاً: بديع خيري. كاتب أفلام نجيب الريحاني وغيره. يخيل اليّ أن تاريخنا الفني مليء بالمظلومين وفي مواجهة كل كاتب أو فنان جرى انصافه هناك عدد من الذين ظلموا أحياءً ويبدو أن الظلم لاپبد أن يطاردهم أمواتاً أيضاً. غادرت مبنى المجمع السينمائي ونسيت أن أتساءل من الذي اختار "لعبة الست" للافتتاح لأشكره على هذه المتعة. * روائي مصري.