من نافذة الطائرة المحلقة، أول الليل، فوق القاهرة، تلوح الاشارة الأولى التي تبعث بها المدينة: يافطة عليها كتابة تحمل اسم "عمر أفندي" تنطفئ وتضيء وكأنها دعوة واضحة. حتى تلك اللحظة كنت لا أزال أجهل علامَ يدل الاسم، غير أن هاتين الكلمتين المشعتين ترنان في داخلي كالموسيقى وتعيداني سنوات الى الوراء... الى سنوات الخمسين، سنوات العصر الذهبي للكوميديا الموسيقية المصرية. من وراء النافذة الصغيرة اطلالة على القاهرة، اطلالة تأسر من جراء الحيّز المتسع الذي تشع فيه أنوار هذه المدينة. انها تبث نيرانها كلها لتشعرني فجأة انني، حقاً، أدخل عاصمة السينما العربية. ويبدأ الحلم. من منا لم تغص طفولته في الأفلام المصرية. من منا لا يشعر أن اسماء نجوم القاهرة ووجوههم أليفة لديه الفة ذكرياته الحميمة. حين تصل الى القاهرة، ولو للمرة الأولى، يخيل اليك أنك تعرف الشوارع كلها من قبل. ففي زاوية كل شارع يطالعك جزء من فيلم، مشهد صوّر هنا أو هناك، صوت، موسيقى... وتحس فجأة ان القاهرة كلها تتحول الى مشهد سينمائي، الى سينما. أنا، شخصياً، لم آت الى القاهرة لمجرد أن أشاهد القاهرة. جئت لحضور مهرجانها السينمائي الذي اعتادت ان تقيمه أواخر كل عام، ومنذ أكثر من عقدين من الزمن: مهرجان دولي يستقبل عدداً طيباً من السينمائيين والممثلين والنقاد والمنتجين الذين يلتقون سنوياً ها هنا ليشاهدوا أحدث الأفلام، ويكتشفوا المواهب الجديد و... خاصة ليحكوا عن السينما وسط عيد السينما نفسه. أنا أيضاً، جئت للأسباب نفسها، جئت لأشاهد أكبر عدد ممكن من الأفلام، لألتقي أكبر عدد ممكن من السينمائيين، ولأحكي عن السينما واسمع حكياً عنها. اذن، لا بأس من الانتظار. ولكن الانتظار ينتهي بفروغ الصبر أمام أبواب الصالات في البلد الذي جعل من نفسه أول منتج للأفلام في العالم العربي، البلد الذي - بفضل التوزيع الكثيف لأفلامه - تمكن من أن ينشر لهجته المحلية في طول هذا العالم وعرضه. فالصالات خاوية فارغة، والأفلام المعروضة ليست هي نفس الأفلام التي يفترض أن المشاهدين أتوا لمشاهدتها. وأوقات العرض بُدلت في اللحظات الأخيرة، كما ان الأفلام الغيت وحل في العرض غيرها. في اختصار، اصحاب الصالات أقاموا "مهرجاناتهم" الخاصة والجمهور لم يجد أمامه إلا أن يتبع اختياراتهم مستسلماً. في زحام ذلك كله يتبين لي أن "عمر أفندي" ليس اسم فيلم قديم، بل اسم مخزن كبير، اسم مجمع تجاري لا علاقة له بالسينما، من قريب أو من بعيد. ولأنك كنت مقتنعاً بأن اليافطة المضيئة في سماء القاهرة كانت اشارة، تشعر بحزن مفاجئ يغمرك، تشعر أن ثمة من غدر بك وتقلق: القاهرة عاصمة السينما العربية؟ ولكن أين هي السينما؟ لحسن الحظ ان السينما، في القاهرة، ليست محصورة في الصالات، أسيرة لرغبات الموزعين والعارضين وغيرهم من المبرمجين. السينما في القاهرة موجودة في كل مكان، في القاهرة كلها. ... وبدءاً من صالة الاستقبال في فندق "شيراتون"، كان اللقاء المعتاد خلال المهرجان لصانعي المهرجان وضيوفه. مسرح المحادثات والمداولات ومهد العديد من المشاريع. خلال أيام المهرجان تتحول الصالة الى مشهد ثقافي حقيقي، تمكنت فيه خلال اقامتي، أياماً، من الالتقاء بدزينة أو أكثر من اولئك الذين يصنعون للقاهرة سينماها. العجائز والأكثر شباباً، اولئك الذين يشكلون جزءاً من تاريخ السينما والآخرين الذين سيصنعون سينما الغد. من جراء تلك اللقاءات يشعر المرء بنفسه مأخوذاً في دوامة الأحداث، دوامة الكلام ودوامة النظرات حيث الموضوع الأساس هو السينما، السينما دائماً ولا شيء غير السينما. وعند كل لقاء اكتشاف ومشاعر جديدة والاحساس الدائم بالوجود هنا، حقاً، هنا حيث تدور الأحداث ويجد المرء نفسه محاطاً بأناس لهم اسطورتهم ويحملون جزءاً من سحر السينما وغموضها. من صالة "الشيراتون" الى "35 شارع شامبليون" المسافة غير بعيدة. هناك مكاتب "الأستاذ" "جو" للمقربين منه، ويوسف شاهين لبقية خلق الله. البناية عتيقة متهالكة تنتصب في شارع شعبي. أبواب المكتب سميكة ثقيلة تبدو وكأن عمرها مئة عام، تبدو عابقة بالتاريخ محملة به. في المكتب ألمس، عن قرب، ملصق "اسكندرية ليه؟"، وصور "باب الحديد" وملصقات "المصير" مترجمة الى اليابانية والفنلندية والايطالية. وأجد نفسي متنبهة الى كل حكاية والى أدنى اشارة، والى أصغر حدث يحيل الى حقبة إبداع يوسف شاهين لهذا الفيلم أو ذاك. ويدور الحلم، فجأة، من حول شاهين: يظهر هناك في الحلم جالساً وسط تلامذته ومعاونيه غارقاً في التفكير في أفلامه المقبلة. المشهد نفسه ساحر مبهر، يضعك كلّك وسط عالم شاهين وأحلامه. فتحس فجأة أن موعدك مع محمود حميدة ليس موعداً معه بل مع قائد "المهاجر"، وانك لا تتناول العشاء عند ليلى علوي بل عند غجرية "المصير" وان هذه السيدة التي تمازح طيبتها حول طاولة الطعام ليست لبلبة، بل ام حنان ترك في "الآخر". وفي اليوم التالي تشعر أن ما تشهده في مرآب فندق "شيراتون" ليس جزءاً من تصوير أول فيلم يخرجه نور الشريف، بل مشهد من فيلم "حدوتة مصرية". وحتى نهر النيل الذي تطل عليه لتتأمله من شرفة الغرفة في الفندق، يتحول ليصبح نهر شاهين، النهر - الشبح الذي يصوره في "اليوم السادس". على ذلك النحو تصبح السينما أكثر قوة من الواقع. وواقعك أنت نفسه يتحول الى سينما. تحس انك لست أكثر من شخص مغامر يعيش دوره في أزقة مدينة القاهرة التي أمضيت حياتك كلها تحلم بها. فقط بعد ذلك، حين يقيض لك أن تلتقي بالمخرجين الشبان والأقل شباباً، من تلامذة يوسف شاهين أو المتأثرين به من يسري نصرالله الى رضوان الكاشف ومن خالد يوسف الى ايناس الدغيدي... وغيرهم من اولئك الذين يشكلون البديل الجديد، تدرك أن يوسف شاهين لم يعد المرجع الوحيد، وأن السينما المصرية وصلت الآن الى أيد أمينة. وتزداد هذه القناعة حين تصغي الى هؤلاء السينمائيين يتكلمون ويتحركون منفعلين من حول مشاريعهم الجديدة، مطلقين أفكاراً معاصرة. كل هذا يجعلك وسط خلية نحل أهلها سينمائيون ومثقفون ينشطون ويكافحون، وعالمها أفلام جديدة تصور أو يُحضّر لتصويرها. يشعرك هذا برغبة جماعية في خلق سينما جديدة، مختلفة، ومن المؤكد أنها سوف تكون أفضل. أمام هذا الشعور أسامح "عمر أفندي" على خديعته، اسامحه لأنه لم يكن ما كنت أريد له أن يكون. ثم أضيع في أزقة وحواري القاهرة العتيقة، في احياء خان الخليلي، مترسمة خطوات نجيب محفوظ الروائية التي تقود من منزل السيد أحمد عبدالجواد في "بين القصرين"، حتى مقهى "نجيب محفوظ" السياحي الجديد وقهوة الفيشاوي، مروراً ب"درب قرمز" و"مدرسة سليم آغا" وقسم الجمالية الذي يواجهه البيت الذي شهد طفولة نجيب محفوظ، وصولاً الى "سيدنا الحسين". ومن جديد أشعر اني وسط التقاليد الأدبية والسينمائية القاهرية. وانسى كل شيء، فلا يبقى سوى النظرة الملقاة على الدروب المبلطة بالحجارة القديمة، وواجهات البيوت العريقة المتآكلة، والفناءات الداخلية، والممرات الصغيرة المعتمة، وشرفات المنازل. كل هذه الأماكن الحقيقية - الخيالية تدفعك لأن تنظر اليها نظرة مختلفة، لأن تصغي اليها بشكل مختلف. فتشعر كما لو أنك تعيش وسط استوديو سينمائي عملاق، كل المشاهد التي تصور فيه تدور بالحجم الطبيعي وفي زمنها الراهن. وتفكر: في القاهرة، كل جدار، كل حجر، كل وجه، كل نظرة فيلم في حد ذاتها. وان نجيب محفوظ لو لم يولد في القاهرة لما كان ابدا نجيب محفوظ. وأن يوسف شاهين لو لم يعش القاهرة وحياتها الصاخبة لما كان أبدا يوسف شاهين. من الضروري للمرء أن يصل الى هنا لكي يدرك ان كل ما في هذه المدينة يدعو الى السينما، يذكر بالسينما، يجعل السينما غير السينما. وعلى هذا لا يعود مهرجان القاهرة السينمائي أكثر من ذريعة. وتفكر: أية أهمية ازاء هذا كله للتنظيم أو لعدم التنظيم؟ أية أهمية لاختيار الأفلام بشكل جيد أو سيء؟ أية أهمية للمدعوين؟ للجان التحكيم؟ و، في النهاية، لتوزيع الجوائز؟ ان ما يهم، في ذلك كله، هو تلك العلاقة العاطفية المولهة التي تقيمها القاهرة مع السينما. لأن كل شيء في القاهرة يستنشق السينما، يتنفسها. كل شيء في القاهرة يحيل الى السينما، بحيث يتساءل المرء أحياناً من وجد قبل الآخر هنا، من صنع الآخر: القاهرة أو السينما. ... وبعد كل شيء، ماذا لو لم يكن "عمر افندي" في حقيقته سوى اسطورة من أساطير سينما الخمسينات القاهرية؟ ماذا لو كان مجرد استوديو؟ مجرد صالة سينمائية... سينما لا أكثر؟