انتقلت موجة التعصب القومي من الجبهة الدموية في كوسوفو الى جبهة الانتخابات البرلمانية في سكوتلندا، حين شجب رئيس الحزب القومي السكوتلندي اليكس سالموند قصف الحلف الاطلسي ليوغوسلافيا. واعتبر شجبه تأييداً لجرائم التعصب الصربي، وتشويهاً للمواقف القومية السكوتلندية. فرئيس الحزب المذكور جعل انفصال سكوتلندا في صلب حملته الانتخابية. انعكست تلك الحملة في مواقف الصحف البريطانية المحلية والوطنية، التي اربكتها تعقيدات المسألة السكوتلندية وتأثيراتها على اطراف المعادلة الاعلامية، بين الناشر والقارئ وزج الفن في المعركة. وأدى خوض الممثل السينمائي شون كونوري الحملة الانتخابية لمصلحة الحزب القومي إلى إرباك الصحف التي ليس من مصلحتها استفزاز "جيمس بوند" بسبب شعبيته. ولكن تطرفه قاد الى ما أُعتبر انحيازاً من قبل الصحافة، حين نشرت "الديلي ريكورد"، أكثر الصحف في سكوتلندا تأثيراً، صورة للممثل وهو يطارد مصوراً مستقلاً، فبدا وكأنه في احد افلام جيمس بوند. وتجلت الإثارة في جنوح الحزب القومي بالحملة الانتخابية بعيداً عن جوهرها الذي يفترض ان ينصبّ على الحكم الذاتي بما لا يزيد الا قليلاً عن الادارة المحلية، وبما ينقص كثيراً عن الانفصال او الاستقلال. وتنبع خطورة هذا الطرح على الاعلام والصحافة لكون سكوتلندا "قرية سياسة واعلام"، وفق وصف أحد النقاد. فسكوتلندا من الدول المستهلكة بشراهة للصحف، ونسبتها أعلى من نسبة القراء في بريطانيا. فهناك مليون قارئ يومياً، وهو رقم قياسي في بلد عدد سكانه اربعة ملايين نسمة. وتصل سكوتلندا من صحيفة "الصن" 400 ألف نسخة، وتبيع صحيفة "السكوتسمان" 85 ألف نسخة ويوازي تأثيرها 850 ألف نسخة في لندن قياساً على عدد النسخ للشخص الواحد. وتبيع "الديلي ريكورد"، وهي أقوى صحف سكوتلندا 650 ألف نسخة، ويوازي تأثيرها صحيفة تابلويد تبيع في لندن 5.6 مليون نسخة. غير ان متاعب الصحافة في الحملة الانتخابية تعد طارئة نسبياً بسبب جنوح الحزب القومي السكوتلندي الذي افقده الكثير من مؤيديه. ومع انه يحظى بتأييد واحد من أصل أربعة سكوتلنديين، ليس هناك صحيفة واحدة تؤيده، والجميع متحدون في معارضة انفصال سكوتلندا وتأييدهم الحكم الذاتي منذ اكثر من عشرين سنة، ويريدون رؤية تلك التجربة من خلال "برلمان خاص" بعد غياب 300 سنة. حتى الصحف التي كان لديها بعض التعاطف مع القوميين، ومنها "الديلي ريكورد" التي تصدرها مجموعة "الميرور" المؤيدة لحزب العمال، كانت العلاقة بينها وبين الحزب القومي تتسم بالالفة بقيادة رئيس تحريرها مارتن كلارك، تلقى مكالمة هاتفية من ادارة "الميرور" العامة في لندن تطلب ان يكون خطه عمالياً تماماً، حين نشر مقابلة مع وزيرة ايرلندا أبرز فيها موضوع تعليم الكاثوليكية بشكل غير ايجابي، فنفذ الأمر. حتى طبعة سكوتلندا من صحيفة "الصن" غيّرت توجهها بعد ان كانت منذ 1992 متأثرة بما اقتنع به روبرت مردوخ صاحب "التايمز" بأن الشباب السكوتلنديين يتشددون قومياً وعلى الصحيفة كسبهم. ومنذ دعم ميردوخ زعيم حزب العمال توني بلير قبل سنتين طلب من "الصن" دعم حزب العمال. لم تكن صحيفة "السكوتسمان" قومية مطلقاً، لكنها تقليدياً مع الحكم الذاتي، وكانت يوماً مفضلة لدى النشطين في الحزب القومي، و منذ استلم اندرو نيل رئاسة تحريرها قبل سنتين تحول عنها القوميون الى "الهيرالد"، الذين يحظون فيها بموقف متعاطف في ظل رئاسة موريي ريتشي لتحريرها، مع أن بقية الكتاّب في الصحيفة اقرب إلى العمال. وبسبب انزعاجات ريتشي لحزب العمال قرر الأخير إلغاء حصة الصحيفة من الاعلانات الانتخابية ومقدارها 100 ألف جنيه. في خضم الحمىّ الانتخابية، فقد المحافظون معظم نوابهم في سكوتلندا بسبب مواقفهم السلبية من "الحكم الذاتي" لكل قوميات المملكة المتحدة. ولهذا اعرض عنهم السكوتلنديون والويلزيون، لأنهم يرون أن فتح باب الحكم الذاتي ليس بالضرورة أن يقود للانفصال. فهذه الرؤية التقليدية عفى عليها الزمن، لأنها تتجاهل المتغيرات التي طرأت على بريطانيا وغيرها، في حين ان "العمال الجدد" أمسكوا بزمام المبادرة وعالجوا تنامي النزعة القومية بطريقة مرنة وعملية تقدر على احتواء الموجة قبل تعاليها وتطرفها الى حد يؤدي الى تصدع الاتحاد في نطاق المملكة المتحدة. وعلى هذا الاساس ليست هناك مخاطر من نقل بعض السلطات الى النطاق المحلي. وفي ظل هذا التعقيد والحساسية خاضت الصحف البريطانية في سكوتلندا معركتها وبدت قادرة على امساك اطراف الخيوط بنجاعة لا تقل عن مستوى تعامل المؤسسة السياسية نفسها مع هذا المنعطف التاريخي في حياة المملكة المتحدة. * كاتب وصحافي سوري مقيم في بريطانيا.