ثماني سنوات من العطلات عشتها وأنت تتريض وسط تراث هامشيتك. وصلت المكان الذي كانت أحلامك تسعى بك اليه دائماً. أو كنت تحلم بأن تكون مهملاً؟! - الى هذا الحد؟ لا بأس، ما زالت الطريق أمامك طويلة لكي تبلغ الإهمال التام. حينها تكون قد أنجزت سعادتك، حيث يمكنك أن تكون مخفياً، غير محتاج الى تثنية لغوية أو قناع أخلاقي. ستمر من غير أن يراك أحد. وستحلق كلماتك في الهواء بخفة هواء غير محمل إلا بطيشه من غير أن تترك وراءها أثراً على شفة، امتعاضاً، أو خدشاً على عين، نفوراً. سنة أخرى، أو سنوات مضافة وسيشعر الجميع بالراحة لأنك غدوت شفافاً. أعضاؤك طرية وإيقاعك لين. وعلى سبيل الذكرى. فقد يعثر الصيادون على جزء منك على حراشف سمكة، وقد يلتقط الرعاة صوتك متقطعاً بين ثغاء الخراف، وقد تلمس دمعتك على جدار مغارة مظلمة، وقد يتدحرج شقاؤك بين أقدام أطفال مرحين، وقد يسيل صمتك بين أدعية المصلين، حينها فقط سيضع يأسك تأريخاً لن تكون بحاجة اليه، غير أن أشد ما يجب أن تخشاه أن يكون هذا التأريخ نافعاً لأحد. لقد مضى الماضي وأنت جزء منه. وسقطت الشجرة وأنت تنعم بخريفها، وموت العاصفة وأنت تصقل مسالكها الصحراوية. ومشى الموت قريباً منك وأنت تحمل جنازته. أهنالك بعدك من تحمله قدمان أو تنطقه لغة أو تفرج عن دعابة أو يغذيه ثدي أو يخرجه شق أو يلفظه نبع أو يستدعيه صفق، أو تحط على كتفه حمامة؟ أما يزال هنالك وعد؟ ومع ذلك، هل سيكون الصفح ممكناً؟ لقد خرجتَ من هذه الأرض أو أخرجوك لا كما ولدتك أمك الى موت هو أشبه بالولادة. بل لقد لطخوا جسدك بلغات قبائل بائدة ومستعادة وهاربة ومعزولة ومعاد صنعها وساكتة. ورسموا بين قدميك خطين: خط الاتهام وخط الذنب. وسمحوا لك أن تتحرك مستقلاً ما بينهما. وحتى هذه اللحظة لم تحل لغز هذا اللقاء المريب المزدوج بين أن تكون متهماً تارة بعد أن كنت مذنباً، وبين أن تكون مذنباً بعد أن عصفت بك الاتهامات من كل جهة. من غير أن تقول كلمة. - أو ما تزال بحاجة الى أن تقول؟ لقد قضيت قروناً وأنت تهندس فن القول. ألا تكفيك المعلقات وقبلها جلجامش والنواح السومري وبعدها نهج البلاغة والمسير بكاء الى كربلاء وخصومات المتنبي وأدعية أبي حيان التوحيدي المتسامية بالروح وتوق الحلاج الى الموت حباً، وحضور المهدي في كلمات تلامذته الأربعة، ومجون أبي نؤاس وتبرم ابن زريق البغدادي وسخرية الحريري وهجاء ابن المقفع وصبر الجاحظ وإيقاعية روح الفراهيدي وتعنت مصطفى جواد وتسامح الأب انستاس مار الكرملي وعناد طه باقر ودقة جواد علي وصلابة يوسف سلمان يوسف ونغميات ساطع الحصري في القراءة الخلدونية وصخب الجواهري البليغ وتحرر السياب المفجع وغراميات حسب الشيخ جعفر الموؤودة وعبثيات بلند الحيدري وإباحيات حسين مردان وتستر فؤاد التكرلي وبغداديات جواد سليم وريفيات شاكر حسن الى سعيد وعزلات محمد خضير ومحمود البريكان وكوابيس جليل القيسي وشبقيات عبد الستار ناصر وصمتيات موسى كريدي وسومريات فوزي رشيد وتضرعات لطفية الدليمي وثورات فاضل العزاوي وامعان سركون بولص في تمرده وتفكيك رفعت الجادرجي لبنية عمارته، واعترافات عزيز الحاج، من قبل ومن بعد، وأمثال عزيز الحجية، وغرليات فظفر النواب الجارحة والمجروحة، وأبواب محمد عني حكمت، وخطبة الملك فيصل الأول لدى اعتلائه العرش، وخياميات أحمد الصافي النجفي، واكتفاء جان دمو بهذياناته، يكفيك كل هذا وسواه. وعليك الآن أن تصمت. لقد قيلت كلماتك. كلماتك قيلت في زمان أنت ورثته. أنت ورثت الزمان وقوله. زمان صنع غيابك وقول صنع صمتك. وما أنت الا ابن هذا الصمت، وأعجب العجب أن تكون بك حاجة الى القول. ثماني سنوات من العطلات، اخترقتها أو اخترقتك، وأنت أخرس. عُطلت أدميتك ولم تقل كلمة. حُذف صلاحك ولم تقل كلمة. حوصرت مختبرياً ولم تقل كلمة. القيت وسط المعادلات المستهلكة ولم تقل كلمة. حولت الى كلمة تتكرر آلاف المرات في ملف ساكن ولم تقل كلمة، أنت مذنب إذاً، لا لأنك لم تقل كلمة، فحسب، بل لأنك لم تدرك أن ما يجب أن تفعله لحظة اتهامك أن لا تقول كلمة. أية كلمة. أيضاً. وهذا ما لم يكن بإمكانك أن تفعله. ذلك أن هذا الاتهام كان أقدم منك. ماذا تفعل أنت لدرء نظراتهم التي تلف الدمى السومرية بطوق حسدها وغيظها؟! أحدهم نشر كتاباً سميكاً ضمّنه اكتشافه المخيف: لقد نبش تاريخ المنطقة فاكتشف أن تأريخ وادي الرافدين لم ينتج إلا طغاة فاسدين، مسكونين بفكرة الغزو وكانوا دائماً مصدر الهلع والخوف والخراب عبر كل الأزمنة. ولم ينكر هذا الكاتب الصادق أنه قد أعاد كتابة كتابه هذا بعد صيف عام 1990 ليكون منسجماً مع الأحداث. معترفاً أن مخطوطته الأصلية لم تعالج فكرة الاستبداد أصلاً. سلوك هذا الكتاب لن يكون غريباً أو مستهجناً، فهو جزء من الفضيحة. هذه الفضيحة التي بدأت بمحاكمتك ولم تنته بتعليق حياتك في زاوية مظلمة كما لو أنها قبعة لرجل ميت لن يعود أحد للبحث عنها وارتدائها. لقد أدخلت ذنوبك الى قاعة المحكمة ولم يسمح لك بالدخول، واستنطق الشهود وهم يهرولون. وكانوا جميعاً قد سبقوك الى مسرح الجريمة الذي لم تطأه قدماك حتى اللحظة، وتفننوا في اختراع حكايات تكشف عن دمويتك وطيشك ووحشيتك وتهورك وعدوانيتك وغرورك وابتذالك وعصيانك. والمفارقة تكمن في أن القضاة لم يكونوا في حاجة الى كل هذا الهراء. فهم مقتنعون بما هو مكتوب أمامهم وما ستنطق به أفواههم: قرار ادانتك. هذا القرار الذي هو عبارة عن مخطوطة، تعود الى زمان قديم. أقدم من لحظة اكتشاف كولومبس القارة الأميركية خطأً. وأقدم من استيلاء ايزابيل وفرناندو على آخر مدن الأندلس، وأقدم من حشود الفقراء الصليبيين وهي تخترق حقول وقرى بيزنطة حالمة بالوصول الى بيت المقدس. وأقدم من حملات الإمبراطور الروماني جوليان على الشرق حالماً بالاستيلاء على بابل مقلداً سلفه الإسكندر المقدوني وان بعد قرون. لقد كان قرار الحكم عليك وإدانتك وإيقاع العقوبة بك تراثياً، ومع ذلك فليس صدفة أن يكون هذا القرار هو صافرة الانطلاق في طريق العولمة. لقد طويت بك صفحة من الماضي. وجرّتك أذيال التأريخ بين خيباتها. وستكون بعد سنة. بعد سنوات قليلة راقداً بين المتحجرات. لا تكلم أنسياً ولا يكلمك أنسي. وحتى براءتك لن تكون ذات قيمة، فهي أشبه ببراءة أجدادك السومريين أو شعوب الأزتك والمايا أو الهنود الحمر. فالقسوة التي طاردتك ومحقتك وشتتتك واستباحتك لن يقوى أحد على ادانتها. لا لشيء إلا لأنها بداية عصر جديد، عصر لن تكون من سكانه. لا لأنك لست مؤهلاً لرفقة أبنائه، فحسب، بل لأن حراس أبوابه لن يسمحوا لك بالدخول اليه أيضاً. نم، إذاً، أيها المثقف العراقي، فليس هناك من ينتظر قدومك. مهاجراً كنت أم مقيماً فإن صراخك لن يصل. فالأبواب موصدة. أما الأبواب الخلفية فإنها لن تفتح لك إلا بصفة لاجىء. وهكذا تستقبلك المعسكرات والمخيمات بدلاً من الصالات الأدبية وقاعات العروض الفنية والمسارح ومدرجات الجامعات والنوادي الثقافية والمكتبات وبينالات الرسم والنحت والكرافيك ومسابقات العمارة. الهناك سيظل صامتاً ما دمت هنا، فالهناك أصم سواء كان وطناً أو منفى. والهنا مقيد بشروط اقامته حيث الخوف والذعر والفزع والرعب والريبة والتلصص والنميمة والوشاية والإحساس بالخطر. وما دمت قد حطمت حياتك في هذه البقعة من الأرض فهي خراب عليك أينما حللت. أيها المخرِّب لا يغرنك أن العالم قد تركك حياً لتصنع جغرافيا وهمك مثلما تشاء بصيرتك. لقد عميت بصيرتك. وما بقاؤك حياً إلا حدث متحفي، يستعرض من خلاله مَنْ هزمك نبل أخلاقه وتسامحه ولطفه ورقته وعطفه واشفاقه. ومع ذلك، فأنت تعرف أنك أبقيت حياً لا لأسباب أخلاقية مهما كانت ساذجة أو مفضوحة، بل لأن الدرس لم ينته بعد. وأن الحرب التي كنت مادتها، على الرغم من حرمانك من الاشتراك فيها، ما تزال قائمة. انتهت حروب الآخرين. وحربك التي لا رأي لك فيها، لم تصل بعد الى لحظة يأسها - انها حرب الأهداف المختلفة. كدت أقول المواد المختلفة كما أفعل مع لوحات رسامي عصرنا. حرب لا تستثني شيئاً من شرورها: الجغرافيا والتأريخ، الذهن والموضوع، الخيال والطبيعة، الحكاية والأصل، الغريب والأليف، البيتي والوحشي، الكامن والطاهر، الأعزل والمسلح، المنتفخ والضامر، الصامت والثرثار، القصي والقريب، المقيم والمنفي، التقي والفاجر، المغامرة والبحث، النبؤة والاسترسال، الخفاء والعلن، انها حرب النهايات، وكما خُطط لها بضمير غائب فإنها حرب لن تلد أخرى. نمْ ليطمئن العالم. لقد أُثقلتَ فثقلتَ وأثقلتَ. الآن حان الوقت لكي تبدو خفيفاً. وإذا ما كنت تظن أنك تعرف الحقيقة. الحقيقة كلها، فليس هذا إلا جزءاً من هذياناتك وأنت في حالة اغماء. الحقيقة أنك ضحية كذبة اسمها الحقيقة. لقد مددوك على طاولة الحقيقة وشرَّحوا جسدك بمباضغ الحقيقة، وفحصوا أجزاء من مخك بمجهر الحقيقة، وعزلوا عناصر عاطفتك، بعضها عن البعض الآخر، في مختبر الحقيقة، ولوثوا فاكهة روحك برماد الحقيقة، وأشعلوا النار في حقول ذاكرتك بمشعل الحقيقة، وتلصصوا على غرفة نوم أفكارك من خلال ثقب الحقيقة، وخدشوا أوراق دفاتر أشعارك بمخلب قط الحقيقة، ونثروا مجسات الحقيقة بين ريش وسادتك، وحفروا أمام أحلامك ممرات أرضية تؤدي الى الحقيقة، أية حقيقة تريد إذاً؟! حقيقة ترعاك مطمئناً أم حقيقة ترعاها خائفاً. نم يا صديقي. فالطريق أمامك طويلة. وهي أطول من الطريق التي تخترق نجد والتي نظر اليها المتنبي بعذاب استفهامي. ولتنصت الى صوتك الداخلي. هناك حيث تقيم بركة أسماكك الملونة، وتتدفق ينابيع أملك بأزهار تفاجىء عطرها باكتمالها، وتلامس الحوريات أسيجة حدائق سرية لتمتص منها رحيق نزقها، وتترفق العاصفة بغابات ترفك المتخيل. وتزيح الأمواج برعونة عن شواطئك رمل ظلام يابس. وتصطف الكلمات منتقاة في طريقك كما لو أنها دمى صنعت من عسل، نم يا صديقي، فنومك، اللحظة، اليوم، السنة، العصر، عبادة. ولتكن أحلامك طريقك الى الجنة. هناك قصائد لم تدوّن. وهناك رسوم لم ترسم. وهناك حكايات لم تسرد، وهناك عمارات لم تبن، وهناك منحوتات لم تعثر على أشكالها، ومعها كلها هناك أسئلة لم تستفهم بعد. أسئلة هي كالأطفال تولد مرة واحدة دائماً. نمْ، وليكن النوم لمرة واحدة وطناً لا منفى.