فتح اعتقال الديكتاتور السابق بينوشيه في لندن، الى قرار اللوردات الأخير في 24 آذار وللمرة الثانية، ضد حصانته الديبلوماسية، آفاقاً كبيرة أمام الرأي العام التشيلي، الذي يجد نفسه للمرة الأولى بوضع يسمح له بالتقدم باتجاه تحول ديموقراطي حقيقي. ومنذ قرار المحلفين الانكليز الأول يحاول الجيش الابتعاد عن الحياة السياسية. وتتوقع كل الاستطلاعات بانتصار المرشح الاشتراكي للرئاسة ريكاردو لاغوس، في الانتخابات العامة المقبلة. منذ ان ترك بينوشيه قيادة الحكومة في 11 ايلول سبتمبر 1990، يعيش التشيليون نوعاً من الهدنة. هدنة يبدو أنها وصلت الى نهايتها، لكي تسير خطوة باتجاه ديموقراطية حقيقية. حتى قرار اللوردات كانت تشيلي تحاول انجاز المستحيل: الانتقال للديموقراطية مع ديكتاتور يحرسها. صحيح، ان بينوشيه سلم في 11 ايلول 1990 القيادة بسلام للحكومة المدنية، لكنه لم يسلم السلطة. فهو ثبت نفسه في منصب قيادة الجيش ومن هناك راح يحيك كل الخيوط لكي لا يتلاعب بها أحد غيره. حتى ان كل المحاولات بتشكيل يمين من دون الجنرال، يمين بروح ليبرالية وديموقراطية، فشلت بشكل مدوي. حتى ان زعيم هذه المجموعة أندريس آياماند، فشل في الانتخابات البرلمانية الأخيرة، وفضل نفي نفسه الى واشنطن. وضمن هذا المشهد كان من الصعب على الحكومة السابقة لباتريسيو آيابين والحكومة الحالية لأدواردو فراي ان تتحرك باتجاه ديموقراطية حقيقية. يبدو ان تشيلي هي بلاد اعتادت على الأقنعة ليس في المشهد السياسي فقط انما في مجالات حقوق الانسان البسيطة. مثلاً ليس هناك في تشيلي قانون يسمح بالطلاق، لكنهم يطلقون مثلهم مثل الناس في بلدان أخرى، نتيجة لفجوة رسمية اسمها "إلغاء الزواج". في التلفزيون ممنوعة كل المشاهد الساخنة، لكن هناك تجارة كاملة لها علاقة بما يسمى "الفنادق الزوجية". ليس هناك رقابة في الصحافة، لكن هناك قانون غريب يتدخل بصمت في كل الأشياء. ومن يقرأ الصحافة التشيلية لن يجد ولو استشهاد واحد من مئات المقالات التي تنشرها الصحافة في العالم عن بينوشيه. اذ من الصعب ان يصدق التشيليون بأن الرأي العام العالمي يحتقر بينوشيه. فعلى مدى سنوات طويلة قيل لهم أن الهجوم على الجنرال هو دعاية الشيوعية العالمية. حتى سقوط جدار برلين لم يساعد في تغيير الخطاب المذكور. إلا أن اعتقال بينوشيه حطم الأقنعة. فالآن فقط بدأت الأشياء تُسمى على حقيقتها. وليس هناك أمام الحكومة الحالية الا إعادة بينوشيه الى سانتياغو للحفاظ على النظام في الداخل، أو قبول ظاهرة صعود يمين متطرف يائس. في الحقيقة ان يأس اليمين جاء قبل اعتقال الجنرال. فهذه الديموقراطية على رغم كل عيوبها ونواقصها هي في وضع يسمح بفوز مرشح اشتراكي هذه المرة، في كانون الأول ديسمبر المقبل. فكل استطلاعات الرأي تصب في صالح المرشح الاشتراكي للرئاسة. وهو رجل معروف بشجاعته وتصادمه مع بينوشيه خلال حكمه الديكتاتوري، كوزير للدولة في حكومة ايلبين وإدواردو فراي، وصاحب سمعة سياسية نظيفة ومؤثرة. من جانب آخر يحاول اليمين تشكيل تحالف واسع لمنع انتصار المرشح الاشتراكي. حتى ان الكثير من قادته على استعداد للتنازل عن ترشيخ أنفسهم لمساعدة المرشح المتفق عليه، الديموقراطي المسيحي اندريس زالديفار. وتشيع فكرة بين الأوساط السياسية في تشيلي، بأن الذي سيحل المشكلة الحالية المتعلقة بالجنرال، سيفوز في الانتخابات. على رغم أن لا أحد يتحدث بذلك بصورة علنية، فإن كل النقاش الدائر بعد قرار اللوردات يتركز على التوصل الى التفاوض في شأن اتفاق شامل له علاقة ببينوشيه وحقوق الانسان وسلسلة من الاصلاحات الديموقراطية. ولا يخفي ذلك بعض أصوات اليسار، الذي يشترط عودة الجنرال بتحقيق تلك الاصلاحات، وإلا فالأفضل بقاؤه في لندن. لكن الاصلاحات مرهونة بمدى تقبل اليمين لها. فهناك العسكريون الذين لا يحبون كلمة "إصلاح" ويدعمون مرشحهم للرئاسة يواكيم لافين، ويتظاهرون بانفتاحهم على التفاوض، ويعلنون أنهم يريدون الدخول في القرن المقبل وانهم على استعداد للتوصل الى حلول تسمح بمعرفة اختفاء المعتقلين، ومناقشة اصلاحات دستورية، شرط عودة بينوشيه الى "البيت". لكن التجربة تقول ان موقفهم كان مختلفاً داخل الحكومة، فهم ليسوا على استعداد للتنازل عن أي شيء. على العكس، تصلبوا في موقفهم، واعتبروا أن أي تنازل له سيهدد "البقاء على قيد الحياة". الآن، هناك موقف يقول: إذا لم يرجع بينوشيه سريعاً، فإن اليمين سيتقدم بشكل لا يمكن قهره. لكن لا أحد يخاف من انقلاب عسكري. وما يبدو ان العسكر لا ينظر بهذا الاتجاه ايضاً. فالوضع يختلف عنه عن انقلاب 11 ايلول 1973. فالحرب الباردة انتهت واميركا منشغلة بأمور كثيرة. لكن المؤكد أن الوضع السياسي الجديد تثبت وان تشيلي لن تعود هي نفسها فمع رفع الحصانة عن بينوشيه انتهى وهم بناء ديموقراطية تحت مراقبة الديكتاتورية. * كاتب عراقي