على رغم ان كثيرين في العالم يرون توقيف ديكتاتور التشيلي السابق الجنرال اوغستو بينوشيه تحذيراً لمن لا يزال على قيد الحياة من المستبدين، فهو يطرح في الوقت ذاته تساؤلات عدة حول مصداقية السياسيين في الغرب والقدرة على مطاردة "مخلفات الحرب الباردة" وفتح ملفاتها القدرة. صحيح ان الديكتاتور السابق قيد الاعتقال في مشفاه اللندني بعد علمية جراحية معقدة في الظهر، وصحيح ايضاً ان بارزين في الحكومة البريطانية يسعدهم مثول بينوشيه امام القضاء لمحاسبته على ما ارتُكب من جرائم في عهده، الا ان الذي يقرر مصير الجنرال في النهاية هو حكومة المحافظين في اسبانيا. فأمر التوقيف مر عبر الفرع البريطاني للانتربول الى اجهزة الامن البريطانية المختلفة، واجتاز دائرة البروتوكول في وزارة الخارجية البريطانية من دون معوقات، تنفيذاً لطلب القاضي الاسباني بالتزار غارزون بتوقيف بينوشيه للتحقيق معه عن قتل واختفاء عدد من المواطنين الاسبان في خريف 1973 في التشيلي. في بريطانيا على الصعيد الرسمي، اعتقال بينوشيه مناسبة للابتهاج غير المعلن. وزير الخارجية البريطاني روبن كوك لم يدل بأي تصريح علني في هذا الشأن، الا انه وفقاً للمقريين منه "يرقص فرحاً" ويؤيد اجراء التوقيف والمحاكمة اذا طلب القضاء الاسباني خلال اربعين يوما من يوم الاعتقال تسليم الجنرال الى مدريد. فهذا الحدث بحد ذاته يضع شعار كوك النظري حتى الآن: "سياسة خارجية قائمة على قواعد الاخلاق" في حيز التطبيق. صمت وزير الخارجية البريطاني تحول الى صراخ واضح على لسان زميليه في الحكومة وزير التجارة والصناعة والمقرب من رئيس الحكومة نفسه، بيتر ماندلسون الذي وصف الجنرال ب"الديكتاتور المتوحش" ووزير الداخلية جاك سترو الذي رد على الصحافيين بشأن قانونية الاعتقال بالقول: "هناك فرق بين جوار سفر دبلوماسي بحوزة بينوشيه وبين حصانة ديبلوماسية". يجب التذكير ان جيل الوزراء الحاكمين الآن في معظم الدول الاوروبية وقضاتها كانوا في مطلع السبعيات يشاركون في حركات الاحتجاج المدنية الليبرالية في بلدانهم ضد صعود بينوشيه وغيره من مستبدي اروربا الى السلطة عنوة. وبينوشيه كان قاد حركة انقلاب دموية كقائد للجيش ضد حكومة الرئيس سلفادور الليندي اليسارية المنتخية ديموقراطياً، ضمن حملة مضادة نظمتها الولاياتالمتحدة في عهدها الامبريالي ضد النهوض الليبرالي الذي كان يقوده طرف من الحركة الاشتراكية في ذلك الوقت. وقد وضع أسس تلك الحملة الثنائي الاميركي ريتشارد نيكسون وهنري كيسينجر. ولهذا الأخير قوله الشهير في شرح انقلاب بينوشيه الذي اعدم الليندي في معركة في قصر الرئاسة بأنه "لانقاذ التشيلي من شعبها الذي لا يعرف المسؤولية". لا شك في ان لبينوشيه اصدقاء في اوروبا بين المحافظين، وله اتباعه في التشيلي نفسها التي حكمها الجنرال لعقدين، قبل ان يغير دستورها ليلغي منه بنود ادانته ومنحه عضوية مدى الحياة في مجلس الشيوخ التي توفر له الحصانة ضد العقاب. وقد ينجح بينوشيه في النهاية بالفرار من يد العدالة، الا ان ذلك يعتمد على طبيعة الخطوة التالية التي ستتخذها مدريد. قانونياً تستطيع الحكومة الاسبانية ان تسمح لطلب تسليم بينوشيه بالوصول الى لندن وفقا لتشريع وافق عليه البرلمان الاسباني عام 1985 يسمح بمحاكمة اجانب في اسبانيا لتهم ارتكابهم مجازر بحق مواطنين اسبان حتى لو كانوا خارج الاراضي الاسبانية. ورغم ان بينوشيه زائر منتظم للندن التي "وقع في غرامها"، في تصريح له لصحيفة اميركية، حيث كان يلتقي صديقته رئيسة الوزراء السابقة البارونة مارغريت تاتشر لاحتساء الشاي في منزلها، فإن القاضي غارزون لم يقدم على طلب اعتقاله في انكلترا قبل هذه المرة. فموقف اسبانيا في النهاية سيتأثر بالموقف الذي ستتخذه الحكومة الائتلافية في التشيلي. ذاك ان بعض اعضاء الحكومة التشيلية يقولون انه يجب مراقبة المجرى القانوني للعملية وعدم التدخل السياسي فيها، وفي حين ان الرئيس التشيلي ادواردو فري أعرب عن معارضته ذلك. والمخرج الذي يبحث عنه الجميع الآن لا يزال عامضا لأنه يعتمد على توازن صعب ومعقد وغير مسبوق: التوازن بين الاعتراف بتدويل عدالة القضاء وبالتالي دفع فكرة تأسيس محكمة دولة للنظر بجرائم الحرب، وبين رغبة المجتمع التشيلي الذي يميل مثل غيره من اصحاب التجارب المماثلة من الشعوب الى نسيان الماضي بعد فترة طويلة من الاستقرار. في كل الاحوال ومهما كانت النتائج، فإن حادث اعتقال بينوشيه في لندن يقلق الستبدين في كل مكان.