استقبلت تشيلي بالصمت الرسمي قرار القضاء البريطاني امس الجمعة ابعاد الجنرال اوغوستو بينوشيه الى اسبانيا لمحاكمته، وسط انقسام واضح ظهر بين مؤيدي الديكتاتور السابق ومعارضيه الذين خرجوا الى الشوارع وأعدوا التظاهرات في الأيام المقبلة تحت رقابة رجال الشرطة. وسهر انصار بينوشيه وكذلك افراد عائلات ضحايا النظام العسكري السابق وأفراد جمعيات حقوق الانسان منذ الفجر في سانتياغو، انتظاراً لصدور الحكم البريطاني. وتبدو قضية بينوشيه مسألة قانونية متروكة بين ايدي القضاء والمحامين الغارقين في التفاصيل الاجرائية، الا ان احداً في تشيلي لا يساوره أدنى شك في الطابع السياسي لهذه القضية وعمق الانعكاسات التي ستحملها الى الحياة السياسية في تشيلي. وكان الديكتاتور السابق تقاعد من قيادة القوات المسلحة قبل عامين واصبح سناتوراً مدى الحياة ليغطى بالحصانة الديبلوماسية. الا ان اعتقاله هز جميع المؤسسات العسكرية التي تعتمد عليها الأنظمة السياسية القائمة في اميركا اللاتينية، وتدأب باستمرار، مثل النظام العسكري السابق في تشيلي، على انتهاك حقوق الانسان لتثبيت سلطتها. ويشعر افراد الشعب التشيلي ببعض التأثر ازاء التركيز المستمر على الوضع الصحي لبينوشيه البالغ من العمر 83 عاماً. الا ان السكان ملّوا متابعة اخبار رئيسهم السابق الذي حكمهم بقبضة من حديد بعدما استغل منصبه وزيراً للداخلية عام 1973 ليقود انقلاباً عسكرياً فرض سلطته على البلاد 17 عاماً وأدى الى قتل حوالي 3200 شخص واختفاء 1200 على ايدي الاجهزة الأمنية والعسكرية. وتلعب احزاب اليمين والمؤسسة العسكرية التي تعتبر بينوشيه اباها الروحي على حساسيات عدة تسود الشارع التشيلي بعضها له علاقة برفض وصاية اسبانيا البلد الاستعماري الذي حاربه التشيليون مثل بقية بلدان اميركا اللاتينية الاسبانية اللغة للحصول على حريتهم مطلع القرن الماضي. ويستلهم اليمين في سعيه الى تحويل بينوشيه الى بطل - ضحية شخصية بطلهم الوطني وهو الجنرال برناردو اوهيغينز، الابن غير الشرعي لمهاجر ايرلندي قاد عملية تحرير تشيلي من الاستعمار الاسباني عام 1818 ليبقى مسيطراً على مقاليد الأمور خمسة اعوام قبل ان يستقيل عام 1823 ويغادر ليعيش محبطاً في المنفى في بيرو المجاورة من دون ان يطأ تشيلي مرة ثانية حتى وفاته عام 1842. ويقوم وجه المقارنة بين اوهيغينز وبينوشيه ان هناك كثيرين في تشيلي يعتقدون بأنه ساعد البلاد بسياساته الاقتصادية الصعبة والقاسية على الخروج من المأزق المعيشي الكبير الذي أدت اليه سياسات اليسار في الستينات ومطلع السبعينات، وهو ادعاء يكذبه اليسار الذي يعتبر ان بينوشيه سلم ثروات البلاد وشركاته الحكومية الى المستثمرين الاميركيين والاوروبيين وجعل الفقراء يدفعون ثمن سياساته الاقتصادية الوحشية. ومن شأن استعادة سانتياغو بينوشيه ان تبقيه ايضاً قيد الاعتقال لدى تسلمه في تشيلي في حال قررت السلطات البريطانية العفو عنه او اخلاء سبيله، ذلك ان هناك 45 قضية رفعها اهالي المعتقلين التشيليين ضده منذ اعتقاله في 16 تشرين الاول اكتوبر الماضي. لذا فمن شأن اي تعقيد يطرأ على قضية بينوشيه ان يساعد اليمين الذي يتمنى بعض قادته ان يموت الديكتاتور السابق في لندن ليحولوه الى بطل - اسطورة ، ويعوّموا من خلال ذلك طروحاتهم وسياساتهم التي تبناها بينوشيه. وشهدت المنازعات القضائية الخاصة بجرائم عهد بينوشيه تغيراً منذ فترة. ويقبع في السجن حالياً رئيس الاستخبارات العسكرية السابق الجنرال كونتريكس وعقيد آخر من مساعديه بتهمة قتل وزير الخارجية السابق اورلاندو لاتيليه في واشنطن في السبعينات. كما ان الحكومة التشيلية عمدت منذ توقيف بينوشيه، ومن اجل تبرير مطالبتها لندن ومدريد بتقديم الديكتاتور السابق الى المحاكم الوطنية، الى اعتقال خمسة جنرالات من مساعدي بينوشيه بتهمة اغتيال زعيم نقابي سابق عام 1981. وباشرت، للمرة الاولى، تقبل شكاوى اهالي المفقودين والمعتقلين في العهد العسكري لاظهار جدية السلطة القضائية ومدى استقلاليتها إزاء المؤسسة العسكرية.