بعد أن أنهى السيد انكو تنرت دراسته في مجال هندسة الميكانيك عمل لبضع سنوات في مجال تخصصه في أحد المصانع جنوب شرق المانيا. وعندما قام المصنع بإعادة هيكلة راديكالية كان المذكور من بين 1500 موظف فقدوا عملهم. وعلى إثرها أصبح يتردد بشكل متكرر إلى مكتب العمل كغيره من آلاف الشباب الذين يترددون يومياً إلى هذه المكاتب التابعة لوزارة العمل والمنتشرة في مختلف المدن الألمانية. وبعد مضي أشهر من محاولة المكتب ايجاد مكان عمل جديد له يناسب تخصصه وخبرته، تبين أن سوق العمل غير قادرة على استيعاب الفوائض من اختصاصات في مقابل حاجتها لاختصاصات في خدمات البنوك والسياحة والكومبيوتر والالكترونيات... الخ. ولم يكتف مكتب العمل فقط بالدور الاستشاري، بل أبدى استعداده لتمويل برنامج من شأنه تأهيل السيد تنرت في أحد المجالات المذكورة. وعلى أمل ايجاد فرصة عمل قرر اتباع دورة مكثفة لمدة عام في مجال اقتصاد المؤسسة واستخدامات الكومبيوتر في الإدارة. وقبيل انتهاء فترة التدريب العملي التي قضاها في البنك الألماني استدعاه المدير ليخبره أن البنك قرر الاحتفاظ به وتوظيفه في قسم استشارات الزبائن في مجال التجهيزات الصناعية بعد أن اثبت كفاءته في العمل. وهكذا تخلص المذكور من مشكلة البطالة التي أرقته لنحو سنتين. ومثله يفعل مئات الآلاف من الشباب الألمان الذين تتراوح أعمارهم بين 25 و40 سنة. فهؤلاء إما يخضعون لدورات تأهيل بغية ترميم وتعديل تأهيلهم السابق بآخر ما تم التوصل إليه في المجال نفسه، أو يدخلون دورات أخرى من شأنها إعادة تأهيلهم في مجالات جديدة تختلف كلياً عن مجال تخصصهم من قبل. ويكمن الهدف من النوعين من التأهيل في ايجاد فرص عمل جديدة من خلال مجاراة حاجات السوق. فمن يقوم بمثل هذه الدورات وكيف يتم تمويلها؟ من المعروف أن نظام التعليم الألماني يعتبر من أفضل نظم التعليم في العالم، خصوصاً في مجال التأهيل التقني والمهني. ويرتكز هذا النظام بالنسبة إلى الطلاب أو إلى التأهيل للمرة الأولى قبل بدء ممارسة المهنة على المدارس والمعاهد والجامعات. وبالنسبة إلى الذين لا يصنفون في إطارهم تتولى أمور تعليمهم وتأهيلهم مؤسسات ومعاهد تأهيل مهني ووظيفي متخصصة. وتعتبر في غالبيتها مؤسسات تعليمية خاصة معترفاً بها من الجهات الرسمية أو الحكومية وعلى رأسها مكتب العمل والسلطات القانونية المختصة. ويشترط في أعضاء هيئة تدرسيها أن يكونوا من حملة الشهادات المتمتعين بخبرات في ميادين الحياة العملية. كما تمارس نشاطاتها من خلال دورات قد تصل مدتها إلى سنتين حسب طبيعة الدورة. فالدورات التي تقام بقصد الترميم والتعديل تتراوح مدتها في العادة بين 9 و12 شهراً. أما التي تقام في إطار إعادة التأهيل فتصل مدتها إلى سنتين بشكل عام. تبلغ فترة دورات التأهيل المهني في الأحوال العادية 3 سنوات بالنسبة إلى الشباب الذين يخضعون لها في سن مبكرة ولم يسبق لهم أن خاضوا ميدان العمل الوظيفي أو المهني. وبالنسبة إلى الشباب في سن ما بعد 25، فإن فترتها تبلغ سنتين، باعتبار أن هؤلاء سبق أن جربوا الميدان المذكور ولديهم خبرات تمكنهم من استيعاب البرنامج خلال فترة تقل بسنة عن الفترة العادية.، وتضم الأولى، أي الخاصة بالترميم والتعديل، اما الشباب الذين عملوا في مؤسسات وفقدوا عملهم لأسباب مختلفة، أو أولئك الذين يعملون ويرغبون بتحسين مستوى أهيلهم بناء على رغبة مؤسساتهم أو بمبادرة ذاتية. أما دورات إعادة التأهيل فتضم الشباب الذين عملوا في السابق في مهنة معينة ويرغبون بتغييرها لأسباب مختلفة من صحية وغيرها. وتتضمن كل دورة فترة تأهيل نظري وفترة تدريب عملي. ويتم قضاء الأخيرة في إحدى المؤسسات التي على علاقة بموضوع التأهيل. وتتراوح فترتها بين ثلث ونصف كامل مدة الدورة. وتشير المعطيات أن 60 إلى 70 في المئة من الخاضعين لمثل هذه الدورات يجدون عملاً أثناء أو بعد القيام بها. ويتلقى المشارك منحة شهرية تحدد قيمتها على أساس 60 إلى 75 في المئة من آخر راتب تلقاه. كما يتلقى التمويل اللازم لدفع تكاليف الدورة للمؤسسة المعنية. وتتراوح القيمة الاجمالية للمنحة والتكاليف من 22 إلى 40 ألف مارك ألماني. ويتم تحملها من قبل جهات مختلفة. فالقسم الأكبر تدفعه مكاتب العمل والمفوضية الأوروبية. أما القسم الباقي فتموله المؤسسات التي يعمل فيها المشاركون. وتوجد حالات يتم تمويلها من قبل الجيش الألماني الاتحادي. ويشمل ذلك جنوداً أو صف ضباط أنهوا خدمتهم فيه ولديهم الرغبة بتأهيل أنفسهم للمساعدة في عودتهم إلى الحياة المدنية. وهناك من يمول دورته من جيبه الخاص. وتعتبر مؤسسة "فوروم للتأهيل الوظيفي" Forum Berufsbildung e.V في برلين واحدة من المؤسسات التي ازدادت أعدادها في المانيا بشكل ملفت للنظر خلال السنوات الماضية. وبرز ذلك بشكل خاص في المانياالشرقية سابقاً، حيث تتم متابعة وإعادة تأهيل مئات الآلاف من الشباب الذين فقدوا أعمالهم بعد توحيد الألمانيتين قبل نحو 9 سنوات. ومن بين ما تعرضه المؤسسة إقامة دورات في السياحة والعقارات وتجارة التجزئة والاستشارات والشؤون الاجتماعية. كما تعرض إقامة دورات استشارية عن طريق المراسلة. وتقول السيد رث فاتر، المدرّسة والمنظمة في دورة للخدمات السياحية لمدة سنتين، إن هذا النوع من الدورات يحظى بإقبال شديد نظراً لتزايد أهمية القطاع السياحي في بلد يتصدر مواطنوه قائمة الدول الأكثر حباً للسياحة والسفر. ويمكن للمشاركين التخصص من خلالها إما بالسياحة الخاصة بالاطلاع والاستجمام أو بالسياحة لاغراض العلاج والصحة. وينتمي هؤلاء بالإضافة إلى الجنسية الألمانية، لجنسيات مختلفة منها المغربية والتونسية والمصرية والتركية. ويقول الشاب شيخ داود من تركيا وأحد المشاركين في الدورة، إنه اختارها بسبب فرص العمل المتوفرة على صعيد السياحة الألمانية بتجاه بلاده. أما زميله مايتون يلدريم فقد سبق أن عمل في قطاع البناء ثم توقف عن العمل فيه لأسباب صحية. وعملت زميلته غابي فيشر في قطاع تجارة التجزئة قبل أن يفلس متجرها. وتؤكد السيدة فاتر ان ما لا يقل عن 70 إلى 80 في المئة من المشاركين يجدون عملاً أثناء أو بعد الانتهاء من فترة التأهيل. ويبدو الوضع في دورة أخرى حول اقتصاد المساكن والأبنية مشابهاً للوضع في فورة السياحة مع ملاحظة ان عدد المشاركين الأجانب أقل، لأن لها خصوصية المانية أكثر من دورات السياحة. وحول هذا النوع من الدورات يقول السيد اندرياس كوخ، المنظم لها والمدرس فيها، إن الإقبال عليها ازداد مع انتعاش سوق البناء في برلين التي تشهد حركة عمرانية قل مثيلها. وكانت هذه الحركة بدأت إثر قرار البرلمان الاتحادي عام 1992 باعتمادها كعاصمة لألمانيا الموحدة بدلاً من بون. وعن محتواها قال إنها تتضمن، بالاضافة إلى تعاليم الإدارة والمحاسبة، القضايا الخاصة بكيفية إدارة وخدمة المساكن والمكاتب والأبنية. وتعتبر مؤسسة "ب س د" BSD من مؤسسات التأهيل الناجحة والمتخصصة في مجالي تقنيات الاتصال ووسائل الاعلام. ويلعب التأهيل المدعوم من قبل تقنيات ماكنتوش الدور الرئيسي في برامج الدورات التي تركز على الاتصالات والتقنيات الحديثة في مجال الطباعة والنشر. ويرى الدكتور كارل هاينز بوشلر أن هذا التخصص فرض نفسه بفضل تكامل المجالين من جهة، وتزايد الطلب على أصحاب الخبرة فيهما من جهة أخرى. ويعمل بعض الخريجين في شركة إعلانات تابعة للمؤسسة، ومن بينهم السيد راينر بيرنيكر، الذي اتبع دورة تأهيل في تقنيات الاعلام قبل ثلاثة أعوام بعد أن بقي نحو سنتين عاطلاً عن العمل بسبب افلاس صحيفة المانية شرقية كان يعمل فيها. ويقوم في الوقت الحالي بإعداد وطباعة مواد دعائية خاصة ببعض الشركات والأندية الرياضية. ويقول عن دورة التأهيل "إنها كانت ممتعة حيث اطلعت وتعلمت من خلالها على استخدام تقنيات جديدة لم اتعرف عليها خلال عملي السابق". وتوافقه زميلته السيدة ك. كوبوفسكي على ما ذكر بخصوص تعلم التقنيات الحديثة. كما بدت مرتاحة وسعيدة بعملها الجديد الذي وجدته بعد انتهائها من الدورة أيضاً قبل ثلاثة أعوام. وتركز أكاديمية بيفاك BIWAK على التأهيل وإعادة التأهيل في مجالات المحاماة والسكرتارية والمحاسبة. ويتم التركيز فيها على تعلم اللغة/ اللغات، خصوصاً الانكليزية، كما تركز على استخدامات الكومبيوتر في المجالات المذكورة. وتقول الدكتورة هيلكا فينسكي، المديرة في أحد فروع الاكاديمية في ضاحية برنسلاوير بيرغ البرلينية، إن تركيز مؤسستها على هذه التخصصات يأتي استجابة لأهميتها المتزايدة في برلين في ضوء انتقال الحكومة الاتحادية والهيئات الديبلوماسية والاتحادات والمنظمات المختلفة إليها من بون اعتباراً من الخريف المقبل والاكاديمية من المؤسسات الحديثة العهد، إذ تأسست بعد انهيار المانياالشرقية وبدأت بتأهيل شباب فقدوا عملهم قبل أن تنجح وتتوسع لتشمل أنشطتها كامل منطقة برلين وبعض الولاياتالجنوبية. وفي جانب آخر تقول السيدة فينسكي إن مؤسستها استطاعت ترسيخ أقدامها في السوق على الرغم من المنافسة الشديدة من مؤسسات عريقة، ساعدها على ذلك سمعتها الجيدة لدى المؤسسات الاقتصادية ومكاتب المحاماة واكتسبتها بفضل المستوى الجيد لأعضاء هيئة التدريس وللخريجين. ومن خلال أحاديث أجريت مع بعض المشاركين في الدورات، اشتكى بعضهم من أن المؤسسات لا تبذل أحياناً الجهد الكافي لايجاد أمكنة التأهيل العملي المناسبة في المصانع والمؤسسات. غير أن الغالبية تؤكد أن ايجاد المكان ليس محصوراً بالمؤسسة. فلدى المشارك إمكانات لأخذ زمام المبادرة والبحث بمفرده أو بمساعدة المؤسسة عن المكان الذي يلائمه منذ بداية الدورة. وترى الجهات الرسمية والأهلية في المانيا ان نظام التعليم والتأهيل الخاص بالشباب الذين يضطرون لترميم تخصصاتهم أو تغييرها أثبت نجاعته. فمن خلاله تمكن الملايين منهم في المانيا حتى الآن من بناء مستقبلهم في ميادين عمل جديدة بعدما تعثروا في ميادين أخرى بدأوا فيها حياتهم المهنية والوظيفية. وفي ضوء ما تقدم يمكن القول إن بلداننا العربية أحوج ما تكون إلى مثل هذا النظام من التأهيل سيما وأنها تشهد هذه الأيام إعادة هيكلة اقتصادية ستكلف الشباب العربي فقدان مئات الآلاف وربما الملايين من فرص العمل خلال السنوات القليلة المقبلة.