لم يعد غريباً أن يجد مرتاد محلات الأطعمة السريعة في الرياض شباناً سعوديين يقدمون الطلبات ويتولون المحاسبة ويتقاضون دخلاً سنوياً لا يتجاوز 5000 دولار إن لم يكن أقل من ذلك. ومعظم هؤلاء الشباب من الذين أمضوا زمناً للدراسة في أميركا وأوروبا لكنهم لم يوفقوا أو أنهم لا زالوا على مقاعد الدراسة ويبحثون عن مصادر دخل إضافية خصوصاً إذا كانت لغتهم الانجليزية جيدة. وربما وجد القاطن في أحد الفنادق السعودية سعودياً يحمل حقائبه ويتقبل "البقشيش" بحياء وتردد. وسيحرج راكب سيارات الأجرة المعروفة ب"الليموزين" الذي سيقول حسب العادة "وصلني الملز يارفيق" ليكتشف أن السائق مواطن ومن أبناء البلد!. هذه الوظائف التي يدخلها السعوديون لأول مرة تكشف عن تبدل حقيقي وعملي في رؤية الشاب السعودي للعمل استجابة للتغيرات الاقتصادية في مظهر لم يكن المجتمع السعودي يألفه سابقاً. وهي الأولى في تجاوز الحرج التقليدي من وظائف كانت تعتبر متواضعة مهنياً ولا يعمل فيها سوى العمالة غير السعودية والمحدودة التأهيل. والحرج ليس دائماً متصلاً بطبيعة الوظيفة بل بمن يمارسها إذ اعتاد السعوديون أن يعملوا سائقي سيارات لدى الدوائر الحكومية وبعض البيوتات. ووظائف الفراشين خدمة الموظفين في الجهات الحكومية والمدارس وغيرها كانت حكراً على السعوديين. وكذلك وظائف التعقيب وتحصيل الديون ووظائف البائعين في محلات الذهب. وجميعها متواضعة الدخل لكنها، في الذاكرة المحلية، جزء من الممارسات التقليدية التي لا تعيب طالب زواج أو تضعف المكانة الاجتماعية للفرد. أما الوظائف المستحدثة بعد مرحلة الطفرة فظلت حكراً على العمالة غير السعودية ومن هنا جاء التعالي عليها مثل سائقي سيارات الليموزين والفراشين في الشركات والبنوك ووظائف البائعين في المحلات التجارية والمطاعم، وحاملي الحقائب في الفنادق، والسباكة والكهرباء والميكانيكا والعاملين في المغاسل والمطاعم وغير ذلك من الوظائف البسيطة التي ازدهرت بعد مرحلة الطفرة واستقطبت أعداداً كبيرة من العمالة غير السعودية مانتج عنه، مع مرور الوقت، انفصال تقييمي واعتباري لهذه الأعمال الوافدة التي لم تكن يوماً من ممارسات أهل البلد، واعتبارها من النشاطات غير اللائقة بالمواطن. وهي حالة مفارقة لأن سائق سيارة الأجرة السعودي لا يختلف، من حيث طبيعة المهنة، عن زميله سائق الليموزين، لكن الفرق أن سيارات الأجرة التقليدية ظهرت أول الأمر بقيادة سعوديين أما الليموزين فارتبط منذ نشأته بالأجانب، ومن هنا جاء التمايز المفهوم في سياقه الاجتماعي وغير المبرر في سياقه المنطقي. والسعوديون، إجمالاً، لم يكونوا ميالين الى وظائف القطاع الخاص بمستوياته حتى وإن كانت الأجور مغرية إذ كانت الفكرة المسيطرة هي أن القطاع الحكومي أكثر أمناً وضماناً قياساً على المثل المصري الشعبي "إذا فاتك الميري تمرغ في ترابه" وهو أمر خلق مايشبه القطيعة بين الشباب المؤهل وقيادات القطاع الخاص التي رأت أن هذا العكوف يعبر عن ميل للركون والسكون في الوظائف العامة التي لا تضع شاغرها في دائرة تحدٍ مستمرة. وتعمقت القطيعة بعد أن وجد القطاع الخاص أن كثيراً من المتقدمين لوظائفه إنما كانوا يعتبرونها جسراً لحين الحصول على الوظيفة الحكومية التي كانت حلم كل خريج. الى قبل سنوات قليلة كان الطالب يتخرج من الجامعة مستنداً على طمأنينة وظيفية، مغتراً بالمكافأة الجامعية التي كان يتلقاها. كانت الجامعة مدخلاً للحياة الرغيدة سواء كان ذلك وظيفياً أو اجتماعياً. لكن المجد لا يدوم فلقد انقضى الزمن الذي كانت فيه الوظائف الحكومية تشكل اغراء فهي أولاً لم تعد متوفرة بالدرجة الكافية بل إن الحصول عليها قد يتطلب الانتظار لسنوات خصوصاً في بعض التخصصات الشائعة التي تعاني من تخمة الخريجين بما لا يتفق مع قدرة الاستيعاب الوظيفي، اضافة الى أن رواتبها لم تنم خلال السنوات الماضية رغم ارتفاع كلفة المعيشة خاصة في المدن الكبرى إذ لم يعد الموظف الحكومي المتخرج من الجامعة قادراً على تحقيق حياة متوازنة مالم يكن مدعوماً من عائلته، فالايجارات المرتفعة وصعوبة امتلاك منزل خصوصاً في الرياضوجدة والدمام انتجت مع الوقت احياء شبه متواضعة ينتمي لها صغار موظفي الدولة. في ظل هذه الضغوط الاقتصادية يبقى القطاع الخاص هو الخيار البديل ولكنه الآن يتعالى على المتقدمين محتفظاً بذكرى النبذ السابقة ومنتشياً في الوقت نفسه بهذه العودة غير المتوقعة ولذا يتردد في قبول السعوديين تخوفاً من عدم التزامهم الوظيفي وميلهم لاعطاء ارتباطاتهم الأسرية والاجتماعية الأولوية وهي تهمة مزمنة يكررها جانب مهم من القطاع الخاص، وخشية أن يكون لجوؤهم بسبب انعدام الخيارات الحكومية مايعني رغبة الموظف في اقتناص فرصة أخرى بعد أن تكون المنشأة قد استثمرت في سبيل تأهيله وإعداده لمهمة ما. ومع أن بعض قيادات القطاع الخاص تشدد على أهمية الاستثمار في شباب البلد على المدى البعيد لأن ولاءاتهم الوظيفية أكثر ثباتاً واستقراراً استناداً الى التجذر الاجتماعي، إلا أن الاحصاءات الرسمية تشير الى أن غير السعوديين العاملين في القطاع الخاص في مدينة الرياض يشكلون مانسبته 84 في المئة من اجمالي عمالة هذا القطاع. وهذه النسبة العالية تشير الى وجود مستوى حاد من الرفض للعمالة السعودية في القطاع الخاص دفعهم بالضرورة الى قبول وظائف أكثر تواضعاً بحثاً عن دخل مستقل وهروباً من البطالة وتبعاتها. وإذا كان من الممكن تفهم مبررات بعض فئات القطاع الخاص المتشككة حيال التزام الشباب السعودي وظيفياً في فترات سابقة، فإن النماذج العاملة في القطاع الخاص والتي اثبتت قدرتها الانسجامية مع متطلباته الشاقة مقارنة بالوظيفة العامة، إضافة الى اقبال فئات من الشباب المؤهل تعليمياً بدرجات مختلفة على الوظائف الصغيرة بحماس يؤكد أن جيل التسعينات أكثر منطقية وادراكاً للمتغيرات، وأنه أكثر قدرة على التأقلم معها وهو الأمر الذي يعني أن مرحلة جديدة تتشكل سواء من المنظور الاقتصادي أو الاجتماعي وهو أمر ستكون له نتائجه الايجابية في فتح آفاق وظيفية جديدة مايعني تسريع وتيرة النمو الاجتماعي، وإعادة رسم القيم الاجتماعية المتصلة بالعمل بصورة انفتاحية ومتفهمة، وسيكون الفضل في ذلك للشباب الذين خلعوا برقع الحياء التقليدي وفتحوا مسارات اجتماعية جديدة بجرأة نادرة وشجاعة لافتة ستبدل مع الوقت النسب غير المتوازنة للعمالة وتحقق حضوراً أكثر كثافة وفاعلية للشباب السعودي.