يحتكر الاعلام الاسلامي الرسمي في التلفزيون الأردني رجل واحد لا يُرى غيره في البلد يمكن ان يتحدث في الدين، وإذا كان لا بد من مقابلة او محاورة شخص في برامجه فإنه يستضيف وزير السياحة او مسؤولاً رسمياً سابقاً او حالياً من أولئك الذين لم تعرف لهم ثقافة اسلامية او حتى التزام ديني ليتحدثوا عن الصيام والفقه وقضايا الدين والدنيا! والرجل اياه عمل عميداً لكلية الدعوة وأصول الدين التابعة لوزارة الأوقاف وهو أيضاً أحد كبار الموظفين في اهم مؤسسة اسلامية "وزارة الأوقاف والشؤون الاسلامية". هذا الرجل الذي لم يعرف عنه احد من قبل ان يجتاح الاعلام والواجهات مثل اعلانات الكولا ان له دوراً اعلامياً او فكرياً او ثقافياً او يملك شيئاً ما يجعله مميزاً على مئات الاساتذة الجامعيين والدعاة الاسلاميين المنتشرين في الأردن وجامعاته ومساجده طولاً وعرضاً، بل انه كان حتى 1990 يقيم في مدينة بيشاور الباكستانية، ويعلن نفسه من هناك قائداً لجيش محمد العالمي، ولم يكن واضحاً لماذا يختار هذا الشخص الذي يمارس عمله الجهادي كما يعمل ممثل غر فاشل لماذا يختار الأردن فقط من دون دول العالم لمهاجمة الحكم والعمل على اقامة دولة الخلافة فيها. واختفى قائد جيش محمد فجأة، قيل انه اختطف، حتى ظهر مرة اخرى في الأردن علماً اسلامياً ومسؤولاً كبيراً، ثم اعلن عن اعتقال جماعة من الشباب يؤلفون تنظيماً اسلامياً اسمه "جيش محمد" وعوقبوا بأحكام قاسية بسبب اعمال ارهابية قيل انهم نفذوها، وهي اعمال ساذجة بدائية مثل اطلاق النار ليلاً على واجهة بنك بريطاني، وإحراق مكتبة مركز ثقافي فرنسي، وتبين ان المعتقلين في هذه القضايا لم يسمعوا باسم جيش محمد قبل اعتقالهم ولم تكن اعمالهم سوى اتفاقات وترتيبات محدودة نسقها جميعها شخص واحد. وخرج اتباع جيش محمد من السجن عام 1992 في عفو عام، ولم يسمع احد بعد ذلك عن هذا التنظيم ولا نشاطاته ولا قياداته وأعضائه، والشباب الذين كانوا لا يتجاوز تعليمهم المرحلة الاساسية وبعضهم لم يجلس في المدرسة اكثر من سنة رجعوا الى حياتهم السابقة عمالاً صغاراً او عاطلين عن العمل. جيش محمد ليس مثالاً وحيداً على تنظيمات اصولية متطرفة في الأردن هي اقرب الى الوهم، وتبدو اعمالها وقصصها اقرب الى مسرحية رديئة الاخراج، وكأنما يراد قسراً ان يكون في الأردن تطرف وإرهاب اسلامي، حتى اكاد اغامر بالقول ان ثمة صناعة واستثماراً للتطرف الاسلامي تقوم عليه مصالح ستتبخر بالتأكيد لو لم يكن ثمة تطرف اسلامي! الأمر لا يخلو بالطبع من جوانب حقيقية، وأعمال ومؤامرات تنفذ، لكنها تبدو عند النظر فيها استدراجاً يستغل دوافع التطرف ويستثمر القهر والتهميش والحقد ليخرج على نحو مقصود ومحدود أيضاً اعمالاً تشتغل بها جميع وسائل الاعلام المحلية والخارجية دون ان يتوقف احد ويسأل اسئلة بديهية... لماذا تكون هذه الأعمال الارهابية محدودة الأثر ولا تكون ارهاباً حقيقياً كما يحدث في الجزائر ومصر على سبيل المثال؟ ولماذا تكتشف جميعها بسرعة قياسية مذهلة في الوقت الذي تمر جرائم كثيرة بالغة البشاعة دون ان يكتشف الفاعل او يتأخر اكتشافها سنوات طويلة؟ التنظيمات الاصولية والمتطرفة التي يعلن عنها دائماً "بمعدل تنظيم كل سنة" تقوم - كما يظهر - لأجل عملية واحدة ثم يعتقل اعضاؤها ويفكك التنظيم ولا يعود له أثر أبداً. فالنفير الاسلامي تنظيم اعلن عن اكتشافه عام 1992، واعتقل النائبان ليث شبيلات ويعقوب قرش وشخصان آخران وحكم عليهم بالاعدام ثم خفف الحكم الى المؤبد، وخرجوا من السجن بالعفو العام عام 1992، ولم يسمع احد بعد ذلك عن هذا التنظيم الذي يؤكد شبيلات انه لم يكن موجوداً ابداً، وان شهوداً مزورين استدرجوا من الخارج وقدموا معلومات وإفادات غير صحيحة، ولم يعلن عن هوية هؤلاء الشهود، وقدمت لهم اسماء وأشكال مستعارة. واعتقل عام 1993 مجموعة من تلاميذ جامعة مؤتة العسكريين وحكم عليهم بالاعدام والسجن المؤبد، ولكن احكام محكمة امن الدولة بدأت منذ ذلك العام تخضع للاستئناف في محكمة التمييز التي برأت المتهمين جميعهم، ورأت ان قضيتهم مفبركة وان اقوالهم انتزعت بالتهديد والتعذيب، وتعرضت بعد ذلك محكمة التمييز لتصفية كارثية حيث استقال عدد كبير من القضاة الكبار الذين نظروا في هذه القضية. وفي 1994 اعلن وزير الداخلية في التلفزيون عن اكتشاف تنظيم سمي "الافغان الاردنيون" يسعى لمهاجمة البنوك ودور السينما واغتيال النواب وقادة الفكر، كانت المضبوطات والأدلة اشياء لا تكفي لرحلة صيد، وكان اعضاء التنظيم المذكور وهم ثلاثة وعشرون شاباً معظمهم لم يذهب الى افغانستان ولا يعرفون بعضهم، قام بعضهم بتفجير دارين للسينما في عمان والزرقاء، وهي تفجيرات لم تصب سوى منفذها، وتلك قصة اخرى مضحكة ومبكية. فالشاب الذي وضع العبوة المتفجرة في دار السينما مصاب بمرض نفسي، وقد اعفي من الخدمة العسكرية بسبب مرضه هذا، وهو غير متدين ولا يؤدي الحد الادنى من الفرائض الدينية، غرر به شخص آخر وأعطاه عشرين ديناراً ليضع العبوة في السينما، طلب منه ان يحضر الفيلم ثم يخرج مع الناس، وكان يجب ان تفجر السينما بعد خروج الحاضرين جميعهم، بحيث لا يصاب احد، ولكنها انفجرت بالشاب في اثناء جلوسه ومشاهدته للفيلم، وهنا ينشأ سؤال بديهي ستكون اجابته ان المخططين والمنفذين على درجة من قلة الخبرة بحيث لم يستطيعوا ان يضبطوا توقيت الانفجار، او انه مغرر بهم لدرجة قتلهم. ويقضي هؤلاء الشباب اليوم عقوبة السجن المؤبد وبعضهم حكم عليه بالاعدام الذي لم ينفذ، لكن مزحة خبيثة سرت في السجن مرة عن اعدامهم جعلتهم يعيشون رعباً اصعب من الموت. ربما كانت المجموعة التي سميت "بيعة الامام" تصلح ان تسمى تنظيماً تحمل فكراً متطرفاً يكفر الناس والمجتمعات والاشياء، وقد خرجت هذه المجموعة من السجن قبل ايام بالعفو العام الذي صدر في الثامن عشر من شهر آذار. ثمة تطرف اسلامي بالطبع في الأردن، وهناك حركات وأحزاب منظمة ترعى هذا المنهج مثل حزب التحرير الاسلامي وحركات وتنظيمات تدعي السلفية، ولكن اعمال الارهاب التي اعلن عنها لم تكن من فعل هذه الجماعات والاحزاب وانما كانت تقوم بها مجموعات غير منظمة استدرجت في الغالب او ان الغموض يحيط بأعمالها. في قضية الديبلوماسي الفرنسي الذي تعرض لاطلاق النار عام 1995 واتهم بالشروع بالقتل شابان اسلاميان ثبت انهما لم يطلقا النار وقد برأتهما محكمة الجنايات، ولكن محكمة أمن الدولة ادانتهما بالارهاب وحيازة المتفجرات. وفي 1996 ألقي القبض على أربعة شباب انتزعوا الغاماً من حقل للألغام زرعها الجيش عام 1968 للتصدي لهجوم عسكري يمكن ان تقوم به اسرائيل، وصار الحقل منطقة مهجورة تسلل اليها الشباب ليلاً وانتزعوا منها عدداً من الالغام بإرشاد وتدريب من زميل لهم كان مهندساً عسكرياً تلقى تدريباً ويعمل في هذا المجال، قبض عليهم متلبسين بالعمل قبل ان ينفذوا شيئاً من مخططاتهم التي قيل انها تستهدف السياح الاسرائيليين، وحكم عليهم بالاعدام الذي خفف الى المؤبد، ولكن زميلهم العسكري الذي ارشدهم ودربهم حكم عليه بالسجن لمدة أربع سنوات فقط!! هذه المجموعة هي الوحيدة التي يمتلك اعضاؤها مؤهلاً جامعياً، وهم ايضاً من أصول شرق اردنية من قرية في شمال الأردن، ويمتلكون رؤى وأفكاراً وطنية الى جانب الفكر الاسلامي، وهم ليسوا متطرفين، وكانت مشاركتهم في مثل هذه الاعمال مفاجأة لمن يعرفهم، وكانوا حالة مختلفة عن سياق اعمال التطرف والعنف التي جرت في الأردن وأعلن عنها، وقد خرج هؤلاء من السجن بالعفو العام الذي صدر مؤخراً، وتستحق تجربتهم دراسة خاصة مستقلة. اتاح وجود هؤلاء الشباب في السجن الاطلاع على افكار ورؤى ناضجة عن السجون والتطرف في الأردن، فقد كانت امكاناتهم الفكرية ورؤاهم السياسية والوطنية مصدراً مهماً يمكن اذا اتيح له النشر والنقاش ان يسهم في تشكيل فهم متقدم لتفاعلات المجتمع وحراكه واتجاهاته، ولعل صحيفة رائدة ك"الحياة" تؤدي مثل هذا الدور. ثمة صيغة اخرى بالغة البشاعة لاستثمار التطرف الاسلامي في الأردن يتولاها اشخاص يمتلكون قدراً عالياً من العلم والتجربة والمشاركة في العمل الاسلامي والعام، ولكن هذه الامكانات توظف التطرف والحقد والتعصب كمورد يمكن استثماره، وهو نوع من المقاولات الناجحة في الأردن، حيث وصل الى مجلس النواب والمواقع العامة المؤثرة اشخاص يمتلكون من العبقرية ما يمكنهم من الجمع بين الدعوة الى التطرف والعمل الاجتماعي والسياسي، وان يحرم على الناس كل شيء تقريباً ويبيح لنفسه كل شيء، وأن يقنع قطاعاً كبيراً من الاسلاميين والمتدينين ببطولاته الوهمية. والذي يسمع هؤلاء "وهم يمتلكون حضوراً قوياً مؤثراً" او يقرأ لهم يجد نفسه امام افكار رومانسية مأسوية لا تختلف كثيراً عن مقولات جماعات التكفير والهجرة وحزب التحرير، ولكنهم جميعاً وهذا امر محير لا يقعون في شيء مما يدعون الناس اليه، ولا يجدون حرجاً في ان يعملوا في الجمعيات الخيرية التي يتناقض وجودها وقيامها والعمل فيها مع مقولاتهم التي ينشرونها عن المشاركة السياسية والعامة ولا عن المجتمعات الجاهلية التي لا يجوز اصلاحها او ترقيعها ولا اشغال الدعوة الاسلامية في حل مشكلاتها التي اوجدتها الجاهلية، ويشغلون في هذه المؤسسات الخيرية "الجاهلية" مناصب وهمية لا يقصد منها سوى تدبير رواتب خيالية من أموال الوقف وتبرعات المحسنين للفقراء والأيتام. وهكذا نشأ تحالف غير منظور او مقصود، ولعله مقصود بالفعل، بين مؤسسات وجهات تبدو متناقضة متصارعة لكن بقاءها واستمرارها يعتمد على بقاء الغباء والتطرف، انها صناعة مثل كثيرات غيرها كتجارة القمار والمخدرات، فالفشل كما ثبت في التاريخ والجغرافيا تقوم عليه مؤسسة تمتلك من الذكاء والعبقرية والمثابرة ما لا يقل وربما يزيد عن مؤسسات الاصلاح والتنمية. يبلغ مجموع المعتقلين على خلفيات التطرف والعنف الاسلامي 64 شخصاً، خرج قسم كبير منهم من السجن في العفو العام الاخير، وهو رقم متواضع، وعملياتهم التي وجهت التهم اليهم على اساسها متواضعة، ولكن المتابعين لتفاعلات المجتمع وحراكه يمكن ان يلاحظوا الكثير مما يجري بسبب التهميش والفساد الاداري والمالي والتفاوت المتسع بين طبقات المجتمع وغياب البرامج الحقيقية للاصلاح والتنمية والتي تغير من طبيعة المجتمع وتركيبه وتعيد صياغته على نحو مشوه. ولكن احداً من الحكومات او المجتمع المدني لا يلتفت الى العمل الحقيقي، ولو نجحت القضايا الاساسية في اشغال مؤسسات المجتمع والدولة بمقدار ما شغلتها قضية عبوة انفجرت في سور مدرسة اميركية بعد منتصف الليل لماذا يفجرون السور فقط لأمكن على الأقل تكوين فهم حقيقي لما يجري في المجتمع والدولة. * كاتب أردني.