كانت مناسبة مثالية أتاحتها القناة الفضائية الفرنسية الألمانية arte للمشاهد/ القارىء، ضمن أمسيات "تيما" التي تخصّصها لموضوعة واحدة عبر أفلام وثائقية وروائية، أن يكتشف أو يعاود اكتشاف "بعضَ" حياة وأعمال الكاتب الفرنسي الراحل جورج بيريك 1936 - 1982. وإذا كان القارىء العربي لم يحظ بفرصة التعرُّف الى الكاتب لأنّ أيّاً من أعماله لم يترجم الى العربية حتى اليوم، فقد حظي على الأقلّ، وعبر الفضائية المذكورة، أن يقضي نحو ثلاث ساعات معه وعنه في سهرة كان ختامها عرض "رجل نائم"، الفيلم الذي شارك جورج بيريك في صنعه مع برنار كايزان من انتاج فرنسي عام 1973، وانطلاقاً من سيناريو مقتبس عن رواية بيريك التي تحمل العنوان نفسه وصدرت عام 1967. الفيلم كان احدى تجربتين ناجحتين خاضهما بيريك، مباشرة، في مجال السينما، الى ثالثة حالت وفاته المفاجئة عام 1982 الى وقفها، وفيه استكمال، لرصدِ أجواء الستينات كما ارتسمت في الأمكنة وأنماط العيش والتفكير خصوصاً في روايتيه "الأشياء" 1965 و"الحياة، طريقة استعمال" 1978، لكنَّه حاول أيضاً أن ينقل نصّه البصري من حدود التعبير الأدبي البحت الى الاحتمالات العديدة التي يوفِّرها مزيج الصورة - الحركة - الزمن والصوت. لقد أراد جورج بيريك أن يكون فيلمه "رجل نائم" فيلماً روائياً على رغم بنائه المقتضب المؤلف من شخصية واحدة بلا اسم وخلوّه من القصّة وتسلسل الأحداث والحوار باستثناء الصوت الذي يرافقُ الصورة، من دون أن يصاحبها، في قراءة متقطعة لنصٍّ مكتوب. طالب في مقتبل العمر ينصرفُ، بحكم العادة والوتيرة، الى حياةٍ منتظمة المواقيت بين الدراسة والقراءة وأمور الحياة العادية الأخرى، مفترضاً أن "الحياة، لكي تستمر، لا تتطلب مقداراً من التفكير والمساءلة، وكأنّ لا بداية لجريها ولا خاتمة. ذات يوم يتوقَّفُ هذا التتابع التلقائي لسياق العيش، مع السؤال الذي لا يبدو مفاجئاً أو مأسوياً، بل كأنّه تتمة لما سبق، مع فارق وحيد وهو أنّ الحياة بعده بعد السؤال لن تكون كما كانت: ما جدوى كلّ هذا؟ هذه التتمَّة هي بداية شريط بيريك، وكأن البداية هي الانتقال من المعطى البديهي لمجريات الأمور الى المعطى الذي لا يبدو بديهيّاً لكنّه، يجري، هو أيضاً وفق منطقها. لقطات قريبة للوجه الذي لا يُعبر، الفارق في انغلاقه على نفسه" ولقطات قريبة مماثلة لصنبور مياه، في رواق، يقطر ماءً بإيقاع الثواني. لا وجود لساعة المنبّه إلاّ في لقطة وحيدة، حين تنبِّه النائم، للمرّة الأخيرة، بانتظام مواقيت بات منسياً ومرفوضاً فتمتد اليد، بثقة، لتعطيلها. لا وجودَ لآلة الوقت لأن وجودها قد يحيل المشاهد الى تعاقُبٍ له مشاغله وله انجازاته وأمكنته ومعانيه" أما تقطّر المياه من الصنبور فهو انسياب بالمطلق" هدر" نزف للمشاغل والأمكنة والمعاني" توقيع باطل لعبث هائل غير قابل للتوقيع. الصوت المصاحب الذي "يُعلِّق" على حدثٍ لا يحدث، وعلى تسلسل غير متصل ولا منطق له، لا يفسِّر ولا يُعبِّر ولا يسلِّط ضوءاً ولا يكسب معنى لما لا معنى له. انه صوت مصاحب" نصٌّ يرافق منطق النص في نفيه كل معنى. والصورة لحظة متصلة من الزمن المعلق الذي لا يبدأ ولا ينتهي. اليقظة التي هي سهو بعد النوم الذي هو أرق والرجل "نائم" لأن اليقظة بطلان مطلق لردّ الفعل، للاستجابة أو للمقارنة... في لحظةٍ ما، ذات يوم، يتوقف العالم عن الدوران، وتفقد الأشياء سطوتها وتبادليتها ومعانيها" و"ينكسر" الإيقاع الذي، لوهم ما، كان يُنظِّمُ الأمور في سياق ما، قد تكون تافهة أو مغلوطة أو مضطربة لكنها تمنح ما تنظمه وجهةً ودلالة. لقطات متباطئة لجانب من الغرفة، لصحنِ السلّم، للسلَّم، للباب، للشارعِ، للمطعم حيث وجبة الطعام إيّاها" لصالات السينما دائماً في ظلمةٍ ملتبسة، وأسفل درج، فارغة أو شبه فارغة، وللنزهة المتمادية في أرجاءِ المدينة الصامتة إذ الصخب لا يكون هنا إلاّ بصريّاً" ثم مجدداً إيقاع التباطؤ إيّاه، والإطار إياه، الى أن يجعله التسارعُ المتزايد بحساب دقيق، شريطاً آخر لأشياء أخرى ولأمكنة أخرى ولشخصية أخرى. تسارع الإيقاع يُبدِّدُ التتالي في تعاقب الصور، فتبدو كأنها صور فوتوغرافية، لقطات منتخبة من "البوم" شامل، ولا يخضع انتخابها، في رسمها الأخير، إلاّ لمنطق التقاطع، لمنطق اللعب الذي يجعل المعنى طارئاً ومدركاً بمحض المصادفة. في إحدى رواياته، وقد ذاع صيتها فور صدورها أوائل السبعينات، غامر جورج بيريك في اختراع لعبة لم يستطع في ما بعد إلاّ أن يستمر في لعبها على رغم خطورتها القصوى، فقد ألغى من النصّ الذي يقع في 360 صفحة حرف علّة الE وعنون الرواية: "اختفاء". قبل ذلك كان قد اختبر لعبة الاختفاء في فيلميه الوحيدين: "رجل نائم" و"أمكنة هروب"" حيث يقلِّص "البطل" أو اللابطل وجوده تدريجاً حتى التلاشي. في "رجل نائم" يتلاشى "المشاءُ" الذي لا ينتظر أحداً أو شيئاً، مع تلاشي الصورة الأخيرة. وفي "أمكنة هروب" يتلاشى البَطَلُ في سياق ما يروى دون أن تتوقف الرواية لأنّ انعدام الشخصيات والأحداث والأشياء والمعاني هو موضوع الرواية. ليس حرف العلّة فقط، بل كلّ شيء، الأحاسيس والإدراك والأنا والآخر والصلة، كل صلة، بالأشياء،. كان جورج بيريك صانعاً ماهراً لشبكات الكلمات المتقاطعة، واعتبر لوقت طويل، أبرز هواتها وصانعيها، وكانت لأعوام مهنته التي يزاولها في الدوريات والصحف ويعتاش منها. ولم تكن الكتابة وصناعة الأفلام سوى وجهٍ منها. وخطّتها بسيطة هل هي بسيطة؟: ليست الغاية هي المعنى، بل الكلمات. ليس المقصود هو السياق، بل الصورة. وليس المقصود هو الحياة بل "طريقة استعمالها".