يمتحن انتقال السياسيين والحركات السياسية من الحكم الى المعارضة مباني سياستهم وسياستها على نحو قاطع. وتقوى دلالة الامتحان في المجتمعات والدول التي لم تعتد مثل هذا الانتقال أو لم تختبره بالمرة، شأن المجتمعات والدول المشرقية إذا استثني منها لبنان استثناءً متضائلاً. فالحكام يستمرون على الحكم ما قيض لهم، هم وأصحابهم، البقاء على قيد الحياة. فإذا تركوا الحكم، أي اضطروا الى تركه، تركوه والحياة معاً، أو تركوه الى المنفى. أما المعارضة الداخلية فأمر يمنعه الحكام على أنفسهم، أو يمتنعون منه، ويمنعونه على غيرهم. وليس "الحق في المعارضة" السياسية، على ما كانت وثائق مؤتمر فيينا في عام 1815 تكتب قبل أن يشيع "الحق" الرخو والغفل "في الاختلاف"، من الحقوق التي يحق للمحكومين الاستظهار بها وطلبها. وعليه، فالمجتمعات والدول المشرقية المحدثة، لم يقيَّض لها اختبار حكامها وساستها وهم معارضون، أي أحياء يرزقون، يزاولون السياسة ويقيمون أحراراً في وطنهم، جميعاً وفي آن. أما الانقلاب الذي يطرد حكام الأمس من الحكم، وينفيهم من الأحياء ومن بلدهم ويصادرهم على ما يملكون وعلى حريتهم، فيحول دون المعارضة على المعنى الذي تقدم. فترتب على هذا بعض الغرائب والعجائب. ومنها ما تواتر عن غاية من غايات العملية العسكرية الأخيرة على أهداف عراقية. فقيل ان القصف رمى الى تمكين المعارضة العراقية، أو ما بقي منها بعد قَتل من قُتل وسَجن من سُجن ونَفي من نُفي، من الاستقواء على الحكم الساحق. وفي بعض دولنا يسجن سجين الرأي المعارض عقدين من الزمن، فإذا خرج حياً أو كالحي من سجنه، لم يعلم على وجه الضبط واليقين أي مخالفة أو انتهاك ارتكب، الى كونه خالف رأي أصحاب الرأي الصحيح والمُجاز وحده على رأيهم. فمرتكب الرأي، أيّ رأي في نهاية المطاف، ليس معارضاً، بل هو مخالف ومنتقض ومشاق منشق. فهو عدو، ويجوز، أي يجب، حربه. فإذا اقتصر الحاكمون على سجنه أَصْلوه حرباً رفيقة. ووقع بعض من انتقلوا من سدة الرئاسات اللبنانية الى مقاعد الصف الثاني من السياسة وأهلها، وهذه علة كافية للمعارضة، وقعوا على كلمات "العداء" و"العدوان" و"العدو"، تلقائياً. وكان الناس يئسوا من حصول هذا الانتقال في جيل واحد. فمنّوا النفس باختبار آثاره في من كانوا رؤساءهم، وفي صورة حياتهم السياسية. فلم يكد السيد وليد جنبلاط، الزعيم الدرزي، ينزل من رتبة الوزارة الدائمة والمقيمة الى رتبة النائب ورئيس الكتلة النيابية، من غير تشكيك في زعامته المذهبية القديمة والموروثة، حتى وصف بعض الوزراء ب"الأعداء". ولم يشك من سمعوا الرئيس "التقدمي الاشتراكي"، أو قرأوه، في أن "الأعداء" هؤلاء هم أقرب الناس اليه معتقداً وملة. ولم ينفك الرجل، منذ تركه وأصحابه المناصب والوظائف، يندد بالحاكمين الجدد، ويصفهم بالإرتداد على مكاسب ومغانم، سياسية وغير سياسية، سدد السيد جنبلاط ثمنها "دماً"، على ما يقول ويردد. وهو لا يرى مآلاً للحرب عليه، وعلى أهله من الدروز و"الوطنيين" و"الفقراء"، إلا الحط به، وبهم، الى مرتبة "الخدم" عند "أهل الشمال" - وشمال الشوف والمتن الجنوبي، وهي بلاد السيد جنبلاط أو "مقاطعته"، هو بلاد المسيحيين. وهو يتخوف "تذويب" عشيرته في بحر المسيحيين المتلاطم والواسع. وعشيرة الزعيم الدرزي مندوبة، على زعمه، الى المحاماة عن المطاليب الوطنية والقومية والاجتماعية والديموقراطية. ولا يدور ببال الزعيم أن يتصدى غيره، أولاً، للمطالبة بهذه المطاليب" وأن ينجح غيره في الحصول عليها، ثانياً، وأن يرعاها الرعاية التي تستحقها، ثالثاً. فإذا تولى الحكم من لا يرضاه الزعيم الدرزي، بإسم عشيرته وأهله وقومه، ولو تولونه عن يد من لا يخالفهم السيد جنبلاط الرأي، خشية وفرَقاً، ذهب الى أن الأمر سبب للحرب الأهلية. وليس الوصف ب"العدو"، واحصاء وجوه العداوة كلها وجمعها على علاقته هو بالحاكمين، إلا بعثاً على الحرب الأهلية. ولا يبعد السيد رفيق الحريري، رئيس الحكومة اللبنانية السابق، من السيد وليد جنبلاط، إلا قليلاً وتدريجاً. فهو كذلك، شأن وزيره السابق وحليفه، ذهب الى ان إعلان رئيس الجمهورية السيد أميل لحود، عدد النواب الذين أوكلوا إليه اختيار رئيس الحكومة، انتهاك لاتفاق الطائف، وتالياً لدستور لبنان الجديد. وإذا سكت السيد الحريري عن "ثمن" الإتفاق العتيد من "الدم" فربما السبب في سكوته بقية من حياء وتعفف. فهو قضَّى سنين يندد بأهل الحرب وأسياد الحرب، وفيهم معظم وزرائه "الثلاثين" وكل وزرائه الثابتين ومحاصصه الأول على الحكم، رئيس مجلس النواب الثابت والمقيم. ولكن سكوت السيد الحريري عن "الدم" لم يحل بينه وبين الكلام الجنبلاطي نسبة الى كمال جنبلاط، والد السيد وليد جنبلاط، وزعيم "الحركة الوطنية" الى 1977، سنة اغتياله على "ضعف" رئيس الحكومة الذي خلفه، السيد سليم الحص، وعلى خسارة بعض مكاسب اتفاق الطائف، وأولها "قوة" رئيس الحكومة، المسلم السني، بإزاء رئيس الجمهورية، المسيحي الماروني. وهو يعني "قوته" هو، وإسلامَه هو. ويعني ب"المسلمين" أصحابه وجماعته وخلانه وصنائعه. وإذ وقف السيد الحريري عند الكناية، بل رجع عنها الى ما هو أغمض منها، فنصب نفسه داعية تحديث إداري من طريق "الانترنت، والإي مايل، والكومبيوتر"، على قوله في خطبة عصماء ومشبِّهة الصدق - مضى السيد جنبلاط على التقهقر إذا جازت العبارة الى معقله وخندقه الدرزيين. وفي عودة القهقرى هذه أفصح مقدَّم قومه عما حرص حلفاؤه، وحلفاء والده من قبله، على تمويهه وتزيينه بحلة سياسية وديموقراطية محدثة. فوصف السيد جنبلاط الإبن الدعوة القديمة والملحة والحرّى الى الدائرة الإنتخابية الواسعة، بل الواحدة، والى استتمامها بانتخاب نسبي يخلِّص من يد الجماعات المذهبية والمحلية المتراصة، ويد زعاماتها، الجزرَ الحزبية المتفرقة والمستضعفة - وصف هذه الدعوة ومناطَ إصلاح "النظام اللبناني"، الموسوم بالطائفية، ب"شعارات فارغة". وينبغي ألا يفوت معنى هذا الوصف من لم يزالوا يسألون عن انفجار الحروب الملبننة والمتناسلة قبل نيف وربع قرن. فالإصلاح السياسي الأول، والذريعة الى تحكيم القتال في المنازعة السياسية، ينقلب "شعاراً فارغاً" عندما يخسر الدروز الجنبلاطيون، بحسب "شيخهم" الشاب، صدارة ونفوذاً كانوا يحتسبونهما من تصدر زعيمهم جبهة زُعمت "وطنية" وسياسية إنكاراً لصفتها الأهلية والقومية نسبة الى القوم. وفي الوقت الواحد يسوغ للقيادة الدرزية، الطبيعية والجوهرية، ما حُمل على القيادات المسيحية تهمةً وعاراً حين زعمت أن الدائرة الإنتخابية الفردية، وهي الدائرة التي يغلب عليها أهل المذهب الواحد، خير إطار للتمثيل النيابي والسياسي. والحق ان انقلاب الآراء في أركان العلاقات السياسية والاجتماعية المشتركة ليس المأخذ أو المطعن في هذا المعرض. ولا يعيب السياسة، وهي تدبير تنازع الناس والجماعات وتقلبها، انحيازها الى مصالح بعينها وسعيها في تسويغ هذه المصالح تسويغاً عاماً ومشتركاً في الجماعات المختلفة والمتنازعة. ولكن الجماعات السياسية العربية، المشرقية، تنزع في أحوالها كلها، حاكمةً ومعارضة، الى صوغ برامجها ومواقفها ومصالحها صياغة كلية وجوهرية، والى تمثيل البرامج والمواقف والمصالح هذه تمثيلاً جسدياً وناجزاً. فالسيد جنبلاط، شأن السيد الحريري معارضاً، هو، شخصاً وتاريخاً وأهلاً ودوراً، جِماع المصالح الدرزية والمصالح القومية والإجتماعية والديموقراطية، ووحدة هذه المصالح الجوهرية من غير تفريق. وكانت "الحركة الوطنية" في لبنان زعمت لنفسها هذه المزاعم. فأخرجتها هذه المزاعم من نطاق الدولة اللبنانية الواحدة، على ما هو محتوم، وسوغت لها طلب شرعية أخرى، مخالفة، وجعلت من طلب هذه الشرعية، من طريق الحرب العامة، واجباً لا يقبل الإرجاء ولا المفاوضة السياسية. وهذه الطريق، طريق الحرب العامة والأهلية، لا يُدفع السير عليها، وسلوكها، حين يقر في يقين المعارضة، قوة سياسية واحدة أو جبهة قوى، انها التجسيد الجوهري والناجز للمصالح والحقوق كلها، ولأصحاب هذه المصالح والحقوق وأهلها. فيتعذر على هكذا معارضة ان ترى نفسها خارج الحكم، أو ان ترضى تصريف حكم جزئي غير كلي. والأمران متلازمان. فلا يترك الحكم الى المعارضة، ويقبل مثل هذا الترك، إلا من يصرف حكماً جزئياً أوكل إليه تصريفه ميزان سياسي متغير، لا يمثل الحاكمون الا دوراً من أدواره، أو طوراً ووقتاً من أدواره وأوقاته. أما من يحمل الحكم على تفويض مطلق ومرسل، لا يقيده قيد من وقت وإنجاز متيسِّر وأعباء بعينها وأحلاف متماسكة، فيتعذَّر عليه التسليم بانتقاله من حاكم إلى معارض، وانقلابه من ذاك الى هذا. وإذا لم يسلِّم الحكام بجواز الإنتقال والإنقلاب هذين، ولم تسلم المعارضة بهما كذلك وهي تعارض وتعمل لأجل مباشرة الحكم، استحال الحؤول دون الحرب الأهلية ودفعها. وليست مسؤولية المعارضة عن الأمر، وتبعتها عنه، أقل من مسؤولية الحكم وتبعته. ولعل توقع شطر عريض من المجتمع الجزائري، غداة انتخابات 1992، تمسك إسلاميي "الإنقاذ" بالحكم، إذا أفضت إليهم مقاليده، كان سبباً قوياً في مساندة هذا الشطر تصدي الحكم العسكري للمعارضة على نحو "همجي"، على حسب وصف بعضهم تصدي الجيش للإسلاميين. فالمعارضة التي تصف انتخابها، ومباشرتها الحكم بواسطة هذا الانتخاب، بالخدعة، وتنكر هذا النهج سبيلاً الى الحكم، لا تدعو خصومها، من حكام اليوم ومن أنصار غيرها من القوى السياسية، الى تصديق قبولها ترك الحكم، إذا اجتمعت غداً كثرة مختلفة على قوة سياسية معارضة. وليست القرينة المقنعة على صدق المعارضة اليوم، إذا فازت بكثرة المقترعين، ما تقوله في الأمر، ولا مزاعمها في قبولها. فالقرينة المقنعة هي مزاولة المعارضة معارضتها وسياساتها على نحو جزئي ومؤقت، وعلى تقديرها إنجازاتها المزمعة تقديراً محسوباً في ميزان الممكنات والأحلاف والظروف. فلا تزعم المعارضة العتيدة تجسيد وحدة جوهرية، فتدمج في نفسها المصالح والحقوق كلها، ولا تتولى هذه وتلك بإطلاق وإلى أبد الآبدين. والتجزئة والتوقيت والتقدير والاحتساب، كلها، إنما يضمنها حمل التمثيل السياسي على التكليف والإنتداب المقيّدين، وترك المزاعم في تجسيد الجماعة أو الشعب، أو الأمة تجسيداً ماثلاً وجوهرياً، والفصل بين الحكم وبين المعارضة. والشروط الثلاثة هذه عسيرة الإحتمال في مجتمعات لا ترى جماعاتها الى نفسها إلا على مثال جوهري وجامع، ولا ترى إلى ممثليها ومندوبيها إلا أعياناً، على معنيي الكلمة، ووجوهاً ورؤساء على معنى الرأس من الجسد. وإذا استعارت هذه المجتمعات أنظمة سياسية تفترض الندب الى التمثيل والحكم مجزءاً ومقيداً مشروطاً ومؤقتاً، على مثال التعاقد وموجباته، اطرحت القوى السياسية من هذه الأنظمة شروطها وملزماتها، وترجمتها الى لغتها ومنطقها. وعلى هذا فالحاكمون ليسوا حاكمين وحسب، فيحق لهم أيضاً أن ينسبوا الى أنفسهم مسوغات المعارضة وحججها وأعذارها. فهم، على زعمهم، أول المعارضين والمناضلين والمضطهدين والملاحقين. ويكفي مصدقاً على جمعهم الحكم الى المعارضة، وإدخالهم شعوبهم تحت حكمهم ونظامهم، نصبهم قوة عالمية ودولية، أو ظاهرة عالمية مثل "العولمة"، عدواً. فيستحيلون، وهم الحكام منذ عقود، مناضلين ومعارضين ومضطهدين. ويستحيل من يعارضونهم أعواناً للقوة الغاشمة عليهم، وخونة لوطنهم وأمتهم وتشعبهم. فالحكم الجوهري، شأن المعارضة الجوهرية، كلي. وإذا كان هذا شأن الحكم، وشأن معارضته، فالمعارضة نافلة، وزائدة من الزوائد" والحكم نافلة من النوافل، على زعم المعارضة. ويجتمع الحكم والمعارضة على أمر واحد هو تصريف الحرب الأهلية وإداراتها، ومن قبل الإعداد لها. والسياسة هي هذا، علانيةً أو كناية أو سراً. * كاتب لبناني.