سريلانكا؟ لا إيحاء سوى صور خادمات سمراوات يملأن البيوت والشوارع في لبنان، وعواميد دخان تتسلق الهواء مرتفعة من اقتتال مدمّر بين جيش حكومي سنهالي وجماعات تاميلية معارضة تسعى في إثر الانفصال، وعلب الشاي السيلاني تملأ المخازن وتدعوك الى تعبئة الروح بالطفولة. هذه صور سريلانكا؟ الكاتب روميش غونيسيكيرا يمضي أبعد من اللوحة المعهودة ويذهب نحو الصورة بشكلها الأقل تنميطاً والأكثر غنى وخصوبة فيحمّلها بالأصوات والألوان والأحزان والذكريات. هذا روائي يخرج من جلد سيريلانكا وينضح بعرقها ورائحتها ولهاثها وتعبها. يحيط بجسدها ويقيس روحها بدربة القادر على التقاط الأنفاس من الأرض، والمضي أبعد قليلاً، وربما كثيراً، عن المشهد الفوري. إنه يحكي كيف تكون الغيوم أصابع تعجن نوستالجيا غامضة في أعماق كل من تفتح له الكلمات كوّة على الروح. في روايته الجديدة "جرف"* يمنح الكاتب السيريلانكي روميش غونيسيكيرا القارىء الفرصة كي يتدبر أمر نظرته الى الفرد السيريلانكي ككائن، مثل غيره، عميق الغور ملتبساً على التبسيط متمرداً على التعليب، طافحاً بآفاق الإنسي وأحلامه، ومعذَّباً بالحلم والشوق والشهوات، فنقرأ فيه ملامح الإنسان إذ تنطق بأحواله. نرى فيه، إذاً، أنفسنا. كأنّ الصخب والعبث هناك هو صخبنا وعبثنا هنا. وكأن الحكاية التي يرويها بطل الرواية عن ذاته ودواخله وذكرياته وأطياف نوستالجياه هي حكايتنا نحن دون نقصان. فالحنين واحد وان اختلفت مراتبه. هوذا تريتون، بطل الرواية عائداً في الليل بسيارته من المطار في لندن بعد أن ودّع معلمه السيد سالفادو في رحلة فراق نهائية بينهما. يتوقف في محطة وقود ليملأ خزان السيارة. وإذ يمضي نحو موظف المحطة الواقف في غرفته المضيئة ليدفع النقود يلقاه سيريلانكياً مثله. ويرتبك هذا الأخير إذ يفشل في تشغيل آلة الحساب. - لحظة من فضلك، يخاطبه الموظف بقلق. ويضيف أنه يومه الأول في العمل. وإذ يحاول تريتون أن يشرح له بالسنهالية كيف يمكن أن يدير آلة الحساب. يهتف الموظف: تاميل، تاميل، قليل من الإنكليزية. تلك هي المعضلة. مواطنان من بلد واحد تجمعهما مصادفة صغيرة في لندن يفشلان في التواصل وتعجز اللغة، لغة أهلهما، عن مد جسر التفاهم في ما بينهما. - منذ متى أنت هنا في هذا البلد؟ يسأله تريتون. - الحرب هناك، حرب ضارية، بيتي أحرق، تعرف. يردّ الموظف ويبتسم ببلاهة ثم يتطلع في تريون بفضول مستغرباً كيف يملك سيارة ويرتدي لباساً أنيقاً. هو يحلم بأن يصير مثله، أن يبني لنفسه عالماً آخر ويهيّئ مستقبلاً جديداً. هذا الاحتكاك الصغير يشعل ذاكرة تريتون. يستعيد، في ذهنه، ماضيه البعيد. يعود به الراوي، وبنا، في حركة فلاش باك طويلة، الى البدء. والبدء في سريلانكا شقاء. في عمر الحادية عشرة أتى به خاله من الريف الى مدينة صغيرة على شاطىء البحر وسلمه الى السيد سالفادو، العالم المهووس بالبحر وكائناته وحركاته وسكناته والجرف الصغير المهدد بالغرق، هناك يبدأ تريتون رحلة عمره خادماً عند سيده. ولكنه لا يلبث أن يصير طباخاً يتعلم فنون الطهي ويتقن صناعته ويتدبر شؤونه. ولكنه يتعلم، كذلك، الانفتاح على الحياة والعالم والآخرين. كان ذلك في بداية االسبعينات حين بدت الأشياء زاهية وراحت العناصر كلها تسبح في بحر من الوداعة والهدوء وأقام الثراء أركانه في جميع الاتجاهات. بعيني صبيّ صغير، ذكي، ويقظ، يستكشف تريتون أرجاء الحياة ويتفحص قوامها. وشيئاً فشيئاً يتعرف على التفاصيل الصغيرة للأشياء والعلاقات بين الناس. هو يدرك أن الأمور متشابكة وليست بسيطة كما تبدو للوهلة الأولى على السطح، كأنما الأشياء، أشياء الحياة، أطباق متنوعة عُدّت بعد مزج دقيق للعناصر صرف جهد كبير في حشوها بما يشبع فيهم الفضول وقلق السؤال. ينظر تريتون الى العالم من نافذة المطبخ. وهو يتحسس الأرجاء جميعاً بأصابع طبّاخ. يتذوق، يشمّ، يحدس في الزمان والمكان، يستشعر الأخطار ويستبشر بالأفراح، يسعد لما هو مفرح ويجفل مما هو مفزع. عالمه الصغير، المحدود، في المطبخ يترك له الفسحة كي يتأمل ويستنتج ويحسب ويحاور نفسه. لا يترك سانحة تهرب منه من أجل الإضافة الى خزان معرفته وإغناء فضوله هو الصبي المطرود من المدرسة والآتي الى هذه البقعة كي يسدّ بوابة الفقر. هو الصغير يروي حكايته في الرواية. أوصافه ملونة وسرده ممتع وملاحظاته المبثوثة، هنا وهناك، ذكية وظريفة فكأنه يتعلم الحكمة والدهشة ويعلمنا إياها في آن معاً. مع تريتون ندخل المطبخ ونكتشف كم أنه عالم غني وجميل ومحيط ممتع وشيّق. كذلك ندرك أن الطبخ حرفة جميلة ودقيقة أقرب الى الرسم بالألوان، والعزف بالأنغام. يرتقي الروائي ببطله الصغير، الطبّاخ، الى سلّم عالٍ من الرقة والشفافية ويزوده بمعجم أنيق فكأنه، حين يتكلم، يحضّر طبقاً لذيذاً وشهياً من الطعام. حين يتحدث عن دياس، صديق معلمه، يقول عنه إنه صغير الجسم ولكنه يبدو كبيراً ويملأ الفراغ لأنه يتحدث كثيراً. وهو يشير الى أن الناس الذين تربط بينهم علاقة حميمة فقط يمكن أن يأكلوا معاً بشهية وسعادة. فالأكل مثل ممارسة الحب. انه يكشف عن الكثير من الأشياء. تبدو علاقة الخادم بسيده كما لو أنها انطباق قطبين نقيضين تجاذبا فتماسكا وأنتجا تآلفاً هارمونياً مفرحاً. انه تريتون في الأفق الصغير للمطبخ ومسافاته القريبة وأغراضه المضبوطة وتفاصيله الدقيقة ينجذب انجذاباً سعيداً الى السيد سالفادو، المنفتح على الأفق الواسع للبحار بحدودها الشاسعة وأعماقها الغامضة وعوالمها المنغلقة من العقال ونداءاتها السارحة في الفضاء. تريتون، بحركته الدائبة ونشاطه المحموم، يبدو ظلاً بعيداً، ولكن ضرورياً، لسالفادو الهادىء والجالس، أبداً، يقرأ في الكون وسحره. وها هما يمكثان، وحدهما، في البيت المترف على الشاطىء لا يعكر صفوهما معكر. ولكن الأشياء لا تبقى على حالها، ذلك هو الدرس الذي يتعلمه تريتون. تماماً مثل أطباق الطعام حين تنقلب عليها الأدوار والأزمان. وتتكفل الأحداث السائرة كل يوم في تثبيت الدرس قوياً في الذهن. سوف يتعرف سيده على نيللي، الفتاة الجذابة التي تعمل في الفندق القريب. سيدعوها الى البيت، ذات يوم، وسيهيّئ تريتون غداءً مهماً. ثم ستصبح عشيقة سالفادو ويغرق في حبها بدلاً من الغرق في مياه البحر ويصير يجلس في حضنها عوض أن يجلس على شاطىء البحر. ولكن الخلاف يدّب بينهما، ذات يوم آخر، وتنتهي العلاقة وترحل نيللي. من ذلك اليوم يصاب سالفادو في الصميم وتتصدع روحه. كأن نيللي سحبت منه القوة التي كانت تعينه على الخوض في مغامرات الحياة والبحر والمدى. وينتهي به الأمر يائساً، حزيناً، محبطاً ككائن بحري خانته المياه وتركته على اليابسة. تتدهور الأشياء في داخله وكذلك من حوله. ويرى تريتون كم تبدلت أحوال سيّده، كأن طبقاً جميلاً أصيب بالتعفن. ولكن انهيار علاقة سالفادو بنيللي نذير خراب كبير. فالأحوال سرعان ما تتردى في الخارج أيضاً. لقد بدأت الأجواء تحبل بالدخان والخوف والشكوك، وها هي الشوارع تمتلئ بالجثث والدماء. فقد بدأ الناس يتقاتلون وانفرطت العلاقات الحميمة وجرف الجميع تيار عاتٍ من الكراهية. تتقوض المشاعر وتتهدم المحبة وتنهض مكانها عواميد من النار والحقد. في كل مكان ينقض الجميع على الجميع، البيوت تُحرق، المزارع تتلف. فينشر الذعر. لقد اندلعت الحرب وعمّ الخراب. تنفرط الحياة في الداخل والخارج، يموت دياس، يكتئب سالفادو. ترتجف يدا تريتون عند الطبخ. الطيور ترحل. انه الطبخ الجميل لا يليق إلا بالحياة الجميلة، الهادئة، الوديعة. في الحرب والشدّة يفقد الأكل أناقته وسحره. يرحل سالفادو وتريتون الى لندن لكي يشرعا، من هناك، في خوض حياة جديدة. غير أن المقام لا يطيب كثيراً لسالفادو. يشتري مطعماً لتريتون ويرحل من جديد. "أتعلم يا تريتون، نحن فقط ما نتذكر، لا شيء أكثر. كل ما نفعله هو تذكر ما قمنا به أو ما لم نقم به، تذكر ما لمسناه حتى ولو لمجرد لحظة واحدة...". تلك هي كلمات سالفادو لتريتون قبل أن تقلع به الطائرة الى المجهول. ويعود تريتون ليتوقف في محطة الوقود ويلتقي بمواطنه السريلانكي، التاميلي، العامل في المحطة والعاقد الأمل على أن يؤسس لنفسه حياة جديدة بعيداً عن الخراب الذي انتشر في سريلانكا. هكذا ينتهي ما كان ويبتلع الحزن الجميع وتنتهي الحياة التي كانت ساحرة ذات يوم. هذه رواية روميش غونيسيكيرا الأخاذة التي سُمّيت لجائزة البوكر واستحق عليها الثناء الكثير من لدن النقاد والقراء. وروميش غونيسيكيرا، الروائي السيريلانكي يقيم الآن في لندن. وسبق أن نشر رواية "نظارات شمسية" ومجموعة قصصية بعنوان "قمر سمك القسيس". * Reef, by Romesh Gunesekera. Granta Books. London. 1998.