"تعالوا معي الى صالة ألبرت Albert Hall في لندن، لا لسماع الموسيقى - ليس الآن! - بل لزيارة الطابق التحتاني واكتشاف غرفة الأرشيف. على احد الرفوف العالية سنعثر على المجلد الذي نحن بصدده، مجلد عن برامج شتاء 1929 - 1930، تجمع الغبار عليه، لكنه لا يزال يبدو جديداً، ربما لأنه لم يُفتح منذ هذه السنوات الخمسين... وبرهبة وخشوع، نتوقف امام كل اسم: رخمانينوف، إيسايه، كرايزلر، تيترازيني، ستاليابين، بول روبسون، الثلاثي كورتو - تيبو - كازالس. الأحد 10/11/1929، الأداء اللندني الأول للصبي الذي لم يتجاوز الثالثة عشرة من عمره، يهودي مينوهين..." روبن دانيلز. الاطفال الذين يولدون موهوبين موسيقياً على نحو استثنائي، من امثال موتسارت، نادرون جداً في التاريخ. فحتى بيتهوفن - الموسيقى الأعظم - كان ابوه يُنقص عامين من عمره عندما يطلب منه ان يعزف امام الجمهور، لكي يذكّر الناس بأن ابنه موتسارت آخر. اما في قرننا الحالي، فكان يهودي مينوهين واحداً من بين هؤلاء الاطفال الذين ولدوا موهوبين موسيقياً الى حد كبير، ولا نقول بصورة استثنائية. ابوه، موشيه، كان روسياً من بلدة Gomel، والأم، ماروثا، من القرم، قرب يالطا. عائلتا امه وأبيه رحلتا الى فلسطين في بداية القرن ثم التقى ابوه امه في اميركا، وهناك تم زواجهما. وحين ولد لهما ولد بكر سمياه "يهودي"، تحدياً لربة المنزل التي قالت لهما: "لعلكما تعلمان انني لا أؤجر ليهود". ويزعم يهودي مينوهين ان امه كانت تترية بكل معنى الكلمة، وكانت شرقية الطباع والمزاج في كل شيء، الى حد ان ذلك انتقل جزئياً الى ابنها يهودي الذي اصبح معجباً بألف ليلة وليلة، وبالشرق. ودرس ابوه الرياضيات، لكنه كان يتقن اللغة العبرية، مثل زوجته. فعند موشيه "ان اللغة كلما كانت ميتة كانت افضل". لكنه لم يكن يهودياً ارثوذوكسياً. فعلى رف مكتبته كانت مجلدات كارل ماركس الى جانب التلمود. ولم يكن مثل بقية اليهود يمارس الاحساس بالاثم، والنفي، والمناحة. وأقام الوالدان في سان فرانسيسكو. وفي هذه المدينة الساحرة ولد يهودي مينوهين، وشقيقتاه حفصيبة ويالطا. ومن بقية النقود التي ارسلتها جدة يهودي الى العائلة لشراء سيارة شيفروليه، اشتُريت له اول آلة كمان. ولم يذهب مينوهين الى المدرسة سوى يوم واحد، ثم اكمل دراسته، باللغات الاجنبية، والتاريخ، والجغرافيا، في البيت على ايدي معلمين خصوصيين. لكنه بدأ العزف في الحفلات الموسيقية وهو لا يزال في الخامسة من عمره! وفي العاشرة بدأت رحلاته الى الخارج بصحبة عائلته. وسرعان ما ابتسم له الحظ، وصار بوسعه ان يستقل مقطورة في قطار بصحبة امه، تشتمل على غرفة جلوس مع مرافق مستقلة. وكانت عائلته تحجب عنه تقارير الصحف التي تكتب عن عزفه. وفي 1926 عبر المحيط الاطلسي ليعزف في أوروبا للمرة الأولى، ومعه، الى جانب والديه، عدد غير قليل من آلات الكمان. النبوغ في الثانية من عمره اخذه والداه معهما الى حفلة موسيقية في سان فرانسيسكو. وفي الثالثة وقع في حب راقصة، الباليه الشهيرة أنّا بافلوفا Anna Pavlova. وعندما جيء بالطفل - في الرابعة من عمره - الى رئيس فرقة سان فرانسيسكو الموسيقية، Persinger، رفضه. فما شغله بطفل في الرابعة؟ لكن بيرسنغر قبله بعد عام. وسرعان ما عرّفه الاستاذ ليس فقط على كونشرتات مندلسون، وبيتهوفن، وموتسارت، وباخ، بل وعلى الشخصيات الموسيقية التي كانت تزور سان فرانسيسكو، من امثال الموسيقي أرنست بلوخ، والعازف الشهير على الكمان ميشا ايلمان، اليهودي الروسي، وفي المقام الأول على الموسيقي الروماني الشهير جورج اينسكو Enesco، الذي وصفه يهودي مينوهين بقوله: "كان له شعر اسود غزير، ولبوة اسد، تتوج واحداً من اجمل الوجوه، التي تعرفت عليها في حياتي". وسيصبح يهودي مينوهين تلميذ هذا الموسيقي والعازف الشهير على الكمان وحتى البيانو ببراعة قلّ ان تضاهى. وعندما عزف مينوهين كونشرتو لالو Lalo للكمان المعروفة بالسمفونية الاسبانيولية، وهو في الثانية عشرة، وُصف بأنه موتسارت ثانٍ. وفي عام 1926 استقل القطار، بصحبة امه ماروثا، من باريس الى بروكسيل ليتلقى دروساً على يد العازف البلجيكي الشهير ايسايه Ysaye، فطلب منه هذا الاخير ان يعزف له شيئاً، فعزف له يهودي مينوهين الحركة الأولى من كونشرتو لالو السيمفونية الاسبانيولية. ولدهشة الصبي مينوهين اخذ ايسايه يصاحبه في العزف بنتر الأوتار على الكمان. ثم طلب منه ان يوقّع توقيعاً متعاقباً بسرعة على الوتر على مدى ثلاثة أو اربعة اوكتافات جوابات، والاوكتاف هو مجموعة الاصوات الموسيقية الأساسية، التي تتكرر الى الأعلى او الأسفل. فلم يكن أداء يهودي جيداً: "عليك ان تتمرن جيداً على التوقيع السريع، يا ولدي". كان هذا اول نقد وُجه اليه في حياته. لكنه عاد الى باريس ليبني مستقبله مع جورج اينسكو. وهناك كان اينسكو يقدم حفلة موسيقية. بعد الحفلة وقف يهودي مينوهين في طابور خارج غرفة استراحة اينسكو، ثم قال له حين جاء دوره: "اريد ان ادرس على يديك"، "لا بد ان هناك خطأ ما، يا فتى. فأنا لا اعطي دروساً، وفي كل الاحوال انا لست مقيماً في باريس، بل سأتركها صباح غد". وسأله مينوهين: "في اية ساعة؟"، "حوالي السابعة"، "حسناً، هل بوسعي، رجاء، ان احضر في السادسة والنصف؟" فلم يكن من اينسكو الا ان استجاب ضاحكاً. ثم اصطحبه ابوه في الموعد المحدد في اليوم التالي وأصبح تلميذ اينسكو منذ ذلك اليوم. وكان اينسكو نفسه من الاطفال العباقرة ايضاً وهو حفيد قس من مولدافيا. كان بوسعه ان يعزف كل أوبرا تريستان وايزولدة لفاغنر من الذاكرة، على البيانو. وعلّمه اينسكو ان يكون تلقائياً في العزف من دون التركيز على النظرية، مثله هو. وذهب مع اينسكو الى رومانيا، بصحبة عائلته. ومن هنا تلقى مينوهين دعوة للعزف في صالة كارنيغي الشهيرة في نيويورك، وهو بعد في الحادية عشرة. وهناك طلب منه المايسترو فريتز بوش ان يعزف كونشرتو موتسارت على الكمان، لكن مينوهين اصرّ على كونشرتو بيتهوفن الأكثر صعوبة في واقع الحال، ولعلها اشهر كونشرتو على الكمان الّفت حتى الآن. فعلق فريتز بوش: "آه، لا ينبغي على المرء ان يطلب من جاكي كوغان تمثيل دور هاملت". لكن مينوهين لم يتزحزح عن موقفه، واقترح ان يسمعه عزفه، فوافق. وفي موعد الحفلة طلب الصبي مينوهين من رئيس الفرقة - بوش - ان يدوزن له كمانه لأنه لم يكن يمتلك القوة على تحريك ملاوي الاوتار بنفسه، ولاحظ ان شكوك اعضاء الفرقة ازدادت بشأن قدرته على العزف. ويقول توني بالمر Tony Palmer: في تلك الليلة، في نيويورك، 27 تشرين الثاني نوفمبر 1927، دخل اسم مينوهين في سجل الخالدين. واعجاباً بموهبة الصبي قرر السيد هنري غولدمان، راعي الفنون يومذاك، بعدما استمع الى عزفه، ان يشتري له آلة كمان نادرة من صنع ستراديفاريوس، يعود تاريخها الى العام 1733، ودفع لقاء ثمنها ستمئة الف دولار... وفي اواخر العشرينات وأوائل الثلاثينات كانت زيارة المانيا ضرورية لأي عازف يريد ان يبتسم له المستقبل. وهكذا توجهت العائلة الى المانيا. وفي برلين عزف مينوهين 13 عاماً مع المايسترو الشهير برونو فالتر Bruno Walter، في 12 نيسان ابريل 1929. وحضر الحفلة ألبرت آينشتاين، والموسيقي والعازف الشهير على الكمان فريتيز كرايلزر. قال مينوهين في ما بعد: "هرع آينشتاين الى حجرة الملابس بعد انتهاء العزف وهو يقول: الآن ايقنت ان هناك إلهاً في السماء". وعرّفه فريتز بوش على اخيه ادولف بوش، عازف واستاذ الكمان الشهير، واقترح عليه ان يتلقى عنده دروساً في منزله في بازل في سويسرا. وهناك تعرف الى تلميذ آخر، اصبح ايضاً واحداً من المع العازفين في هذا القرن، هو رودولف سيركن. ثم، في باريس، تم التعرف الى استاذة الموسيقى الشهيرة ناديا بولانجيه، الفرنسية التي تتلمذ على يديها عدد من موسيقيي هذا القرن المعروفين، من امثال آرون كوبلاند، وهاريس، وتومسون، وكارتر... الخ. ومن بين ضيوف العائلة، كان الموسيقي البريطاني الشهير ادوارد ايلغار Elgar، وعازف البيانو الفرنسي البارز الفريد كورتو، والموسيقي اليهودي المعروف أرنست بلوخ مؤلف كونشرتو الكمان الشهيرة. واقترح فريد غيزبرغ، احد مؤسسي شركة HMV صوت سيده للاسطوانات ان يسجل يهودي مينوهين كونشرتو ايلغار على الكمان، في مناسبة بلوغ هذا الاخير الخامسة والسبعين. ثم وصفت هذه الكونشرتو بأنها بمثابة سيرة حياة ليهودي مينوهين، وادوارد ايلغار على حد سواء... وتعرف مينوهين على موسيقى موسيقيين من زمننا هذا، مثل بنجامين بريتن، وديمتري شوستاكوفتش، وسيرغي بروكوفييف. لكن اكثر ما هزّه، على ما يبدو، لقاؤه مع بيلا بارتوك، الموسيقي المجري الشهير، في سنوات الحرب العالمية الثانية، وقال عنه: "... ولا يقتصر الامر على معرفته التي لا حدود لها، ومعرفته باللاتينية والاغريقية، بل معرفته بالرياح، والجيولوجيا، وحياة الحيوانات. كان اشبه بهندي احمر في الحقل. كنت تشعر ان كل أنملة فيه كانت تتفاعل مع كل شيء حوله". وفي لقائه به في شقته المطلة عى حديقة السنترال بارك في نيويورك، وكان وضع مينوهين المادي اصبح جيداً، اقترح على بارتوك "اعظم موسيقي في قرننا" كما وصفه، ان يؤلف - له - سوناتا على الكمان. ومنحه شيكاً بألف دولار لقاء ذلك وكان هذا مبلغاً مجزياً يومذاك. لكن بارتوك لم يصرف الشيك - على رغم ضيق ذات اليد - الا بعد ان انجز تأليف السوناتا، بعد عام. وادخل بارتوك في هذه السوناتا أرباع النوطة، مما تتسم به الموسيقى الشرقية، وكان هذا غريباً على مينوهين يومذاك. في 1952، زار مينوهين الهند للمرة الأولى بصحبة زوجته الثانية ديانا، بدعوة من رئيس الوزراء جواهر لال نهرو. وتطوع مينوهين بقضاء شهرين في الهند، والتبرع بايراد عزفه للمتضررين الهنود من المجاعة، حيث قضى اكثر من مليون نحبهم جوعاً في السنة السابقة. وفي المطار كانت انديرا غاندي، ابنة نهرو، في استقبال الضيفين. وقبل العشاء وكان طعاماً انكليزياً، لخيبة أمل مينوهين تطرق حديثهما الى رياضة اليوغا، فتحدى نهرو ضيفه ان كان بوسعه ان يقف على رأسه تمرين السرشاسنا. فأجاب مينوهين بأنه لا يزال مبتدئاً، ومع ذلك قام بأداء التمرين. وكذلك فعل نهرو. وفي هذه اللحظة، عندما كان رئيس وزراء الهند، وعازف الكمان الشهير، واقفين على رأسيهما، اعلن بأن العشاء جاهز. وكان للموسيقى الهندية تأثير السحر على يهودي مينوهين. وقد وصفها بأنها "لا بداية لها ولا نهاية، بل متدفقة بلا توقف بواسطة اصابع العازف - المؤلف". وكان رافي شانكار Ravi Shankar منذ 1952 اميراً بين عازفي السيتار. وكان تعريف مينوهين بالموسيقى الهندية بمثابة الهام عميق له. وفي غضون العشرين سنة التالية، كان مينوهين يزور الهند كلما سنحت له الفرصة. وفي 1966 اصطحب معه شانكار الى مهرجان باث، الذي كان مينوهين مديره. وهكذا كان مينوهين هو الذي عرّف جمهور بريطانيا على شانكار، والموسيقى الهندية، وليس فنان البيتل جورج هاريسون. وأدرك الجمهور البريطاني انه امام فن لا يقل روعة عن الفن الغربي، لا سيما بفضل اداء رافي شانكار الذي ربما فاق أداء مينوهين. وقد سجلا عزفاً مشتركاً على الكمان والسيتار، تحت عنوان حيث يلتقي الغرب بالشرق. وهو من بين المعزوفات العذبة جداً، التي كنت استمع اليها كثيراً. وأذكر ان سلمان شكر، الموسيقي والعازف العراقي على العود، عندما كان في لندن، كان يعرب لي دائماً عن رغبته في العزف مع مينوهين، على غرار هذه التجربة. لكنه لم يتصل بمينوهين لتحقيق رغبته هذه، مع انه اشترك مع البروفسور هيوود من جامعة درم Durham في تأليف كونشرتو على العود، عُزفت في لندن في منتصف الثمانينات.