ثمة ميتات يسعها ن تحتفظ بصفتها "الطبيعية" او العادية الا ان التاريخ سرعان ما يقتحم وجوهاً بارزة منها ويحقنها بدلالات تخرجها من مجراها العادي لتضعها على مستوى الترميز والرمزية. وفاة الموسيقار العالمي يهودي مينوهين اثر نوبة قلبية وعن عمر يناهز الثانية والثمانين، تحتمل التوصيل الرمزي المومى اليه. والتاريخ الذي نشير اليه، هاهنا، يطاول في آن الزمن الكبير لعالمنا الحافل بوقائع واهوال كبرى والزمن الصغير المتعلق بسيرة الرجل الذاتية وبمساره الفكري والثقافي، المتجسد خصوصاً في ذائقته ومهارته الموسيقيتين. على ان ما يلفت النظر في ذلك كله يعود الى وجوه العلاقة بين الزمنين التاريخيين هذين كما انشأها وتمثلها وتعهدها مينوهين بالذات، وبطريقة وعبارات خاصة جداً أثارت وتثير جدلاً وتقويمات شتى. ذلك ان عازف الكمان العبقري، اي يهودي مينوهين، مات في مدينة برلين بالذات في 12 آذار/ مارس الجاري حيث كان يستعد لقيادة جوقة موسيقية قادمة من مدينة وارسو البولندية، كي ينتقل بعد ذلك الى فرنسا في جولة لتأدية ست معزوفات كونسرتو لموتسارت. رمزية الموت "الطبيعي" في برلين، بعد سقوط الجدار العتيد، وبعد اشهر قليلة من اندلاع مناظرة عاصفة حول "طبيعة" الشعب الالماني برمته وضلوعه الجوهري الآثم في صعود النازية وتعميمها للقتل المنهجي ذي الطابع العرقي، هذه الرمزية تضع مجدداً مينوهين في قلب "العقدة الالمانية" كما يتصورها دعاة ناشطون في بعض الاوساط اليهودية النازعة الى تأثيم البلد الالماني بقضه وقضيضه والى "أبلسة" وجوده بالذات. والراجح ان يهودي مينوهين كان يثير حنق وحفيظة العديد من هؤلاء الدعاة القائمين على امتهان واحتراف الثأر والتشفي و"تأبيد" الدَيْن الالماني حيال اليهود، اي جعله ديناً مفتوحاً لا قرار له ولا يأتيه الحدّ والانتهاء لا من قريب ولا من بعيد. والحق ان سلوك مينوهين الذهني واستقراره على مذهب انسانوي منفتح على الثقافات والشعوب الاخرى وتشبثه النبيل بفكرة السلام الاصيل المتحرر من وطأة القوميات الشوفينية واهواء وغرائز التملّك والاثرة والانانية، كل ذلك كان، على مثاليته وطوباويته، يجعل منه قديساً للازمنة الحديثة من جهة، وابناً ضالاً وكارهاً لذات مصمتة وعابرة للتاريخ، من جهة مقابلة. والحكاية هذه ليست بنت امس قريب بل هي ترقى الى بدايات مينوهين في المزاوجة بين "عمل" الموسيقى وبين نزوع صاحبها الى الدعوة الى مدينة فاضلة تكون على صورة الموسيقى النقية والصافية والفاضلة. فالرجل، اليهودي الاصل، والمولود في نيويورك عام 1916، من أبوين روسيين هاجرا الى فلسطين هرباً من المذابح البوغروم التي طاولت اليهود في روسيا القيصرية، بقي مقتنعاً حتى اللحظة الاخيرة من حياته بأن البشر كلهم قابلون لارتكاب افعال وجرائم من طراز تلك التي ارتكبها النازيون. ويبدو، بحسب معلومات تحتاج الى التدقيق والتوسع، ان والد مينوهين الذي كان استاذاً للغة العبرية في فلسطين قد اصطدم باكراً بأنصار الدعوة الصهيونية الوالغين في مشروع للسيطرة الحصرية على فلسطين، الامر الذي دفعه الى الهجرة الى الولاياتالمتحدة حيث عمل مفتشاً رئيسياً في جمعية التربية اليهودية في سان فرنسيسكو. ومع ان مينوهين راح يتنقل ما بين عامي 1939 و1944، على جبهات الحرب حيث قدّم قرابة 500 كونسرتو لجنود الحلفاء وجرحاهم في مستشفيات الصليب الاحمر، فان هذا لم يمنعه، اثر انتهاء الحرب عام 1945، عن مدّ يده بجرأة الى المصالحة ومترفعاً ومتعالياً على اهواء الثأر. فقد دافع عن قائد الاوركسترا الالمانية ويلهلم فورت وانغلر المتهم بمساندة النظام النازي لمجرد حضوره في جوقة برلين. وكتب مينوهين الى الجنرال الاميركي ماكلور رسالة عام 1945 جاء فيها: "في ما يتعلق بهالة الاحترام التي قدمها قائد الاوركسترا الكبير هذا اي فورت وانغلر الى الحزب النازي، فانني أتساءل ان لم نكن نحن، الحلفاء، مذنبين اكثر منه بما لا يقاس، وعن سابق تصور وتصميم، عن طريق اعترافنا وتعاهدنا مع هؤلاء الوحوش. تذكّروا اتفاقيات ميونيخ وبرشتسغادن، من الجُبن والضعف ان نجعل من فورت وانغلر مسرباً لجرائمنا بالذات. واذا كان لألمانيا ان تعود ذات يوم عضواً محترماً في المجموعة الدولية فان ذلك سيكون بفضل جهود أناس مثل فورت وانغلر الذين اثبتوا بأنهم قادرون على ان ينقذوا من نار الحرب جزءاً من روحهم على الاقل". وبالفعل برئت ساحة الموسيقار الالماني فيما أصلي مينوهين نار انتقادات شتى، بعضها صدر عن الوسط الموسيقي. ولم يكن موقف اللائمين خلواً من حسابات رخيصة وخلفيات تتعلق بالارتقاء المهني ولم يحل هذا دون ذهاب مينوهين في الفترة ذاتها الى المانيا لتقديم معزوفات موسيقية مع البريطاني بنجامين بريتن. ولكنه لم يعزف في القاعات الكبيرة المخصصة للكونسرتو، بل في مخيمات الاعتقال المحرّرة، كما ذهب اثر ذلك الى الاتحاد السوفياتي، ومن ثم قدم كونسرتو في العام ذاته 1945 لمناسبة افتتاح وتدشين منظمة الاممالمتحدة. حين زار مينوهين اسرائيل للمرة الاولى عام 1951، لم يلق استقبالاً حاراً، وذلك بسبب دفاعه عن فورت وانغلر واشتراكه مع هذا الاخير بوضع تسجيلات تاريخية لمعزوفات لبرامز وبيتهوفن وميندلسون وبارتوك وفي زيارات لاحقة الى اسرائيل سوف يثير مينوهين غضب اوساط اليمين الاسرائيلي بسبب اقدامه على العزف في مخيمات اللاجئين الفلسطينيين، ومع ان مزاج الموسيقار وطباعه ابعد ما تكون عن المشاكسة والاستفزاز، فان صلاته بالوسط اليهودي تبدو معقدة وعكرة بسبب نظرته المتسامية والمتعالية على سائر التأويلات الضيقة، الدينية والايديولوجية والعرقية، وبسبب نظرته "الطوباوية" الى الصراع بين اسرائيل والفلسطينيين والعرب. ففي مقابلته اجرتها معه صحيفة برتغالية في ايار مايو 1998 صرح مينوهين بأن "الاسرائيليين فقدوا التعاطفات التي كسبوها بسبب معاناتهم. وهذا الامر محزن جداً … لقد فقدوا الصداقة التي قيض لهم الحصول عليها لدى البلدان الاخرى … كل ما يمكن صنعه هو ان نقول: اسمعوا، والحديث موجه الى طرفي النزاع، اننا نحب هذه الارض ونتشبث بها، فلماذا ينبغي علينا ان نموت من اجلها؟ سنعيش كلنا من اجلها. وسنتقاسم كل شيء … هناك اناس ما زالوا يفكرون بان المهم هو السيطرة على اكبر قدر ممكن من الارض. وهذا التفكير لا يصدع بمقتضيات الفكر الحديث". ويبدو ان مينوهين يقيم صلة وثيقة بين نظرته الى القضية المذكورة اسرائيل والفلسطينيون وبين نظرته العامة الى العالم وتوقه الصوفي والاشراقي الى تناغم بشري كوني يكون على غرار التناغم المتولد وتنغيص اعتقادات وسلوكات يحسبها اصحابها مصدر هناء اخير، خصوصاً في الاوساط اليهودية المغالية. ففي حوار اجرته قبل بضعة اسابيع صحيفة "ليبراسيون" الفرنسية مع مينوهين، قال هذا الاخير، رداً على سؤال حول اضطراب علاقته بالعالم اليهودي، بأنه يمكن هاهنا "الحديث عن ارث من المخاوف الشخصية، التاريخية، الاخلاقية او المتيافيزيقية، انني شديد الاعجاب برينيه غوتمان، وهو حاخام هنغاري ترعرع في كنف موسيقى بارتوك. لقد شرح لي ذات يوم قائلاً بأن الله اعطى ارض اسرائيل لليهود كي يستقروا فيها شريطة ان يطيعوا وصاياه واوامره وان يعاملوا جيرانهم باحترام". وعندما قال له الصحافي بأن العالم العربي هو الذي اقنع الفلسطينيين وحضهم على رفض التقسيم، رد مينوهين بأنه يقره ويعترف "بأن الفلسطينيين يريدون دولة لهم. وهذا مؤسف، اذ هناك دائماً مرحلة ابتهاج تعقب الاعلان عن استقلال دولة. ثم يبدأ زمن الصعوبات والمسؤليات. قيام دولة فلسطينية مستقلة سيكون ضمانة على حصول حرب مقبلة. الشركات المتعددة الجنسيات وحدها تطرح كل هذه الاسئلة اليوم، لأنها تعلم بأنه لا يمكن استغلال السكان في صورة متواصلة، وبأنه ينبغي لكل انسان ولكل قرية الحصول على قوت العيش، وتوفير مستشفيات ومدارس لأطفاله. يعتقد الناس بالقدرة على شراء كل شيء. ان حضارتنا قائمة على قسوة لا نظير لها. ابتسامة الطفل، ومناخ الفرح في المدرسة، كل هذا لا يصنعه المال، بل يصنع بواسطة الرغبة في الفهم، الرغبة في رؤية طفل سعيد، متوازن وفي صحة جيدة". ثمة بالتأكيد لحظة "طفلية" في انسانوية وطوباوية يهودي مينوهين وفي الامر ما يحيل الى تجربته المبكرة جداً في العزف امام الكبار، وهو بعد طفل في السابعة من عمره، الى حد ان عالم الفيزياء الشهير ألبرت أينشتاين اطلق عبارة صارت مثلاً عندما شاهد مينوهين يعزف في برلين عام 1929 وكان في الثالثة عشرة من العمر، اذ قال اينشتاين: "الآن آمنت بأن ثمة خالقاً في السموات". ومعلوم كذلك ان مينوهين راح منذ سنين عدة يكرّس وقته لتعليم الموسيقى للاطفال، وقد انشأ مدرسة لهذا الغرض، معتبراً انه لا مكان للعنصرية في صف لتعليم الموسيقى، بحسب عبارته. والطفولة كما يتمثلها مينوهين تقرب من الفطرة السابقة على الدخول في لعبة الامتثال الى تطلبات واحكام المجتمع. وقد يكون هذا التصور للطفولة المثلى هو ما دفع بمينوهين الى الابتعاد عن الايديولوجيات والديانات الرسمية والشائعة، خصوصاً في الغرب، ناقلاً مخيلته الثقافية والموسيقية الى آفاق اخرى. وفي هذا السياق اقبل منذ مطلع الخمسينات على فلسفات الهند وثقافاتها، وانعقدت صداقة وطيدة بينه وبين عازف السيتار الهندي رافي شانكار، وراح يستوحي ويهتم بالموسيقى التقيلدية الى حدّ ان البعض كان يتهمه بأنه من اصحاب النزعة المحافظة في مجال الثقافة. على ان الامر يشي في الحقيقة بانفتاح نظرة مينوهين على بعد اناسي انثروبولوجي عميق نعلم انه بات مصدراً بارزاً من مصادر المذهب الانسانوي الحديث، على ما رأى عالم في الإناسة كلود ليفي ستروس يمكن مقارنته، سلوكاً وتفكيراً وتطلعاً، بيهودي مينوهين كما ان هذا الاخير يذكرنا بداعية آخر لم يتوان عن توجيه نقد قاس للمؤسسة الاسرائيلية الرسمية، وهو يشعياهو ليبوفيتش. عندما وقعت محاكمة المفكّر الفرنسي روجيه رجا غارودي اثر نشره كتاب "الاساطير المؤسسة للسياسة الاسرائيلية" عام 1997، تضامن يهودي مينوهين معه، وقد قرأ غارودي في الجلسة الثانية من محاكمته نص رسالتين متضامنتين معه، واحدة للأب بيار، قديس الفقراء والمحرومين في فرنسا، والثانية لمينوهين. والراجح ان تضامن هذا الاخير كان تعبيراً عن اعتقاده بأن غلاة الحملة من اليهود الناشطين مصابون بلوثة القومية الشوفينية والأنانية، وقد قال في شريط وثائقي مصور عن نتاجه وتجربته، شيئاً من هذا القبيل، مشيراً الى التفاوت الكبير بين التغطية الاعلامية لعذابات اليهود فيما يجري اغفال الضحايا الغجر الذين أبادهم النازيون، وهم خمسمئة الف، بحسب الرقم الذي ذكره مينوهين، هو الحامل لروح غجرية، بحسبه. وهو الحالم بتحويل العالم وجعله بلا حدود، او جعل هذه الحدود غير مرئية. وكان قبل وفاته يعمل على مشروع لتقديم حفلة موسيقية ضخمة في جنوب افريقيا وبالضبط في مقلع الحجارة حيث سجن نيلسون مانديلا وحكم عليه بالاشغال الشاقة. والجوقة ستكون مختلطة من البيض والسود، وتتخلل الحفلة، الى جانب معزوفات كلاسيكية ذات طابع ديني، تقديمات لوجوه من الموسيقى الافريقية المحلية. غير ان المشروع هذا لن يتم، كما هي الحال مع الاشراقيين والطوباويين الذين يرحلون وفي انفسهم توق الى الطفولة، في المعنى الواسع للكلمة، لا بوصفها لحظة تستعاد من ماضي الحياة، بل بوصفها صيرورة، وهذا ما كان ينشده مينوهين، بنزاهة وشهامة وابداع، اذ الطفولة، مثلها مثل الموسيقى، تتقدم في صورة برزخ بين عالمين، وكلاهما واقع وماثل في حياة البشر ودنياهم هذه، يبقى على المرء ان يحسن الدفاع عن الحياة الفضلى، تلك التي تولد عند الضفة الاخرى لليأس. * كاتب لبناني مقيم في باريس.