بعد اسبوع حافل بالمفاجآت، خسر الجيش الاسرائيلي خلاله الجنرال غيرشتاين وخمسة ضباط، برزت فكرة الانسحاب من الشريط الحدودي كورقة انتخابية رابحة قرر ان يلعبها ايهود باراك ضد منافسه نتانياهو. وبما ان مرشح "حزب العمل" قفز الى السياسة من رئاسة الأركان، فإن إعلانه عن تحديد موعد الانسحاب من المستنقع اللبناني أحرج الجيش المؤمن بعقيدة التفوق العسكري... كما أحرج نتانياهو المسوّق فكرة الأمن بدل السلام. وهكذا ارتفعت مسألة الانسحاب من "الحزام الأمني" الى مركز الصدارة في المعركة الانتخابية، خصوصاً بعدما أرجأ ياسر عرفات قرار إعلان الدولة الفلسطينية الى وقت ملائم لا يزعج الدول المتعهدة إنجاح مشروع السلام. ومعنى هذا ان جنوبلبنان سيظل طوال الأيام الفاصلة عن 17 آيار مايو المو ضوع المركزي الذي يتنافس على حله زعماء الأحزاب الدينية والسياسية بمن فيهم نتانياهو وباراك وموردخاي. وكان من الملفت ان يتبارى رئيس الوزراء مع زعيم "حزب العمل" على رفض البقاء في الجنوب، كأن المقاومة اللبنانية أجبرتهما على تطمين الناخبين بالاستجابة الى دعوة الانسحاب، بخلاف كل ما تطرحه اسرائيل من مبررت الحجج الأمنية. وحدد باراك في تعهده شهر حزيران يونيو من العام ألفين - أي خلال سنة عقب الانتخابات - واعداً الناخبين بالإنكفاء عن مستنقع الدم في حال اختاروه لرئاسة الحكومة. وردّ عليه نتانياهو بتنفيذ تعهد مماثل، مع التأكيد بأنه سقوم بانسحاب أحادي الجانب في حال رفضت سورية المساومة على ثمن غير مبالغ فيه. واتهم "حزب العمل" بتدمير معنويات الجيش عندما ورطه في عمليتين فاشلتين هما "تصفية الحساب" و"عناقيد الغضب"، إضافة الى "تفاهم نيسان" الذي قيد حركة القوات الاسرائيلية. وتباهى نتانياهو بأن حكومته هي الأولى التي تتخذ موقفاً صريحاً بتبني قرار مجلس الأمن الرقم 425 معلنة عن استعدادها للانسحاب من جنوبلبنان. ورأى المراقبون في وعود زعماء الاحزاب خلال المعركة الانتخابية الحالية، تغييراً اساسياً في طبيعة الحملات التي كانت تركز على مواصلة الاحتلال في الضفة والجولان والجنوب كوسيلة لكسب الشعبية. ومن المظاهر المميزة لدور الموسستين السياسية والعسكرية، انهما اتفقتا لأول مرة على الاستجابة لتزايد ضغوط المطالبين بالخروج من "الوحل اللبناني". وهكذا تحولت المنافسات السابقة على كسب المزيد من مؤيدي الاحتلال... الى المنافسة على اعلان موعد الانسحاب أملاً في إرضاء الأمهات الثكالى اللواتي تحولن الى حزب سياسي مناهض لفكرة استمرار "الحزام الأمني". والسبب ان الشريط الحدودي الذي وضع أصلاً لحماية قرى الجليل الأعلى بواسطة جيش سعد حداد أو انطوان لحد، أصبح مقبرة جماعية للجنود الاسرائيليين الذين يتولون حماية "جيش لبنانالجنوبي"، أي الجيش الذي شُكل إثر "عملية الليطاني" عام 1978 ليكون سياجاً أمنياً للمنطقة الاسرائيلية الشمالية. في كتابه "المعضلة الأمنية الاسرائيلية" يتحدث المؤلف أفنير يانيف عن السبب التاريخي لإطلاق اسم "الليطاني" على عملية الاجتياح الأول. ويؤكد الكاتب ان فكرة رسم الحدود مع لبنان بدأت قبل ولادة "لبنان الكبير" وفي ظل الامبراطورية العثمانية المنهارة عام 1915. يومها حاول زعماء الحركة الصهيونية اقتناص فرصة الحرب العالمية الأولى للحصول على شرعية كيان يهودي في فلسطين، استناداً الى خريطة قدمها صموئيل توكلوسكي أول قائد للطيران الحربي الاسرائيلي عام 1950. واقترح في الخريطة ان تبدأ الحدود من نقطة على المتوسط شمالي صيدا تبعد خمسة كيلومترات عن الجزء العلوي من نهر الأولي، ثم تمتد من هذه النقطة بشكل مستقيم حتى جبل الشيخ. وفي مرحلة لاحقة قام المهندس الزراعي بزيادة حجم المساحة الداخلية من الجنوب وألحقها بالدولة المزمع انشاؤها لأسباب تتعلق بفكرة استصلاح الأراضي الزراعية الخصبة. وفي تعديل ثالث اقترح حاييم كالوراسكي العودة الى نظام "الكانتون المسيحي" الذي اقترحته الدول الكبرى لحماية هذه الأقلية في جبل لبنان عام 1861، معتبراً ان مسلمي الجنوب يغبطهم الانضمام الى اخوانهم في فلسطين. وفي الثالث من شهر شباط فبراير عام 1919 قدمت المنظمة الصهيونية العالمية اقتراحاً الى مؤتمر السلام في باريس، تطالب باعتماد الحدود التي رسمها بن غوريون بالتعاون مع اسحق بن زفي. ويقدم بن غوريون وصديقه اسحق تصورهما للحدود الآمنة للدولة العبرية على طول نهر الليطاني مع الإشارة بأن المياه في فلسطين لن تكفي حاجات المهاجرين. وغاية بن غوريون كما ظهر لاحقاً، الاستيلاء على مياه الليطاني باعتبارها تمثل المصدر الرئيسي لما يحتاجه الجزء الشمالي من اسرائيل. ويبدو ان فرنسا عارضت بشدة هذا الاقتراح ورفضت المشروع الصهيوني لحدود تبلغ نهر الليطاني، وقدمت لبريطانيا تنازلت اخرى تتعلق بمصالحها المرتبطة بقناة السويس. وبما ان بريطانيا كانت تطمح الى التوجه نحو منابع النفط، فقد تركت لفرنسا فرصة الاهتمام برسم خريطة لبنان الكبير. ومع ان الظروف لم تسمح للمنظمة الصهيونية بتنفيذ اقتراح بن غوريون عام 1919، إلا أن محاولة أخرى جرت بعد حوالى ستين سنة تحت شعار "عملية الليطاني". صحيح ان الهدف المعلن كان يطالب بضرورة ابعاد المقاومة الفلسطينية عن الحدود... ولكن الصحيح أيضاً ان اسرائيل حاولت ان تفرض حقيقة جديدة بجعلها نهر الليطاني الحدود النهائية مع لبنان. ولما فشلت في تحقق ذلك شنت حرب 1982 على أمل تغيير النظام اللبناني وتثبيت وضع جديد يكون أكثر ارتباطاً باسرائيل واضعف علاقة مع الدول العربية. وكان من نتيجة ذلك ان ولدت المقاومة اللبنانية كنتيجة للاحتلال، وولد بسببها العجز الاسرائيلي والانقسامات الداخلية حول طريقة التعاطي مع هذه المعضلة. وفي كل مرة كانت اسرائيل تزيد من ضغوطها العسكرية لسحق المقاومة بواسطة عملية "تصفية الحساب" وعملية "عناقيد الغضب"، كانت المقاومة اللبنانية ترد برفع عدد الضحايا وتدمير ما يسمى بنظرية العقيدة الأمنية. واعتبر المراقبون ان ما حدث في "بلدة أرنون" يمثل تحدياً غير مسبوق لنظرية الحدود الآمنة التي ترسمها اسرائيل حسب حاجاتها من المياه والأرض والمستوطنات. وفي دفاعه عن الطلاب والنواب واعضاء المنظمات الذين قطعوا الأسلاك الشائكة المنصوبة حول أرنون، قال ممثل لبنان في لجنة تفاهم نيسان، ان الاذعان للحجج الاسرائيلية يجعل من كل القرى اللبنانية هدفاً سهلاً للضم. وبهذا تكون عملية تحرير "أرنون" قد دخلت من باب المقاومة السلمية التي دشنها غاندي أثناء محاربته الانتداب البريطاني، وتزامنت مع المقاومة المسلحة التي فرضت على زعماء الاحزاب الاسرائيلية التنافس على موعد الانسحاب. وكان من الطبيعي ان تزعج هذه السابقة وزير الدفاع ارينز الذي اعتبر أن إلغاء الحدود التي رسمها الجيش الاسرائيلي "لأرنون" هو بداية استرجاع حدود الحزام الأمني... التغيير الجديد الذي أحدثته المقاومة اللبنانية داخل المجتمع الاسرائيلي، هي أنها أعادت تشكيل البرامج الانتخابية على نحو غير مألوف في الحياة السياسية. ذلك ان جميع زعماء الاحزاب الذين تناوبوا على حكم اسرائيل كانوا يفاخرون بالتطرف والتصلب و"الصقورية" وعدم الانصياع للحقوق العربية. ولقد طرح نتانياهو نفسه في الانتخابات السابقة كمنقذ لاسرائيل من سلام التنازلات في أوسلو، وكمعارض للتسوية التي سقط ضحيتها اسحق رابين. بخلاف المعركة الحالية التي يتبارى فيها باراك ونتانياهو على توقيت الانسحاب السريع من مستنقع الجنوباللبناني. ولقد اتخذت الصحف المعارضة من هذا السجال حجة لانتقاد حزب "العمل" وليكود، واتهامهما بالتخاذل والاستسلام أمام إرادة المقاتلين في الجنوباللبناني. وقالت ان لهجة التهدئة التي يعالج بها جميع المرشحين مسألة "الحزام الأمني" خرجت عن المألوف وحولت الصقور الى حمائم. ومع ان موعد الانسحابات لم يتحقق الا ان الاعلان عنها كتعهد انتخابي يشير الى عمق العجز الذي مني به الجيش المطالب أيضاً بالانسحاب. وتشير صحيفة "يديعوت احرونوت" هذا الاسبوع الى التحقيق السري الذي يجريه رئيس الأركان شاؤول موفاز في شأن وثائق مفقودة يتردد أنها وصلت الى ايدي جماعة "حزب الله". وكانت وثائق سرية قد سُرقت من إحدى القواعد العسكرية قبل ستة أشهر من المكمن الذي أعده مقاتلوا "حزب الله" في بلدة أنصارية في جنوبلبنان حيث قتل 12 جندياً من "الوحدة المختارة". وقيل يومها ان "حزب الله" نجح في اختراق الجهاز العسكري الاسرائيلي بديل ان أفراده نصبوا مكمناً للمهاجمين وفجروا الألغام بهم. وتقول الصحف ايضاً ان جهاز الكومبيوتر الخاص بمكتب عميرام ليفين رئيس "الموساد" قد سُرق بواسطة مجهول. وتشير التحقيقات الأولية الى وجود خلايا داخل الجيش الاسرائيلي تعمل من أجل إفشال العمليات في الجنوب بهدف إرغام القيادة على الانسحاب، تماماً كما جرى للجيش الاميركي في فيتنام. ذلك انه تعرض للاختراق بواسطة حفنة من جنود اتهموا بالشيوعية، ولكنهم اعترفوا بالتجاوب مع إرادة المتظاهرين في شوارع نيويورك وواشنطن وسان فرانسيسكو ولوس انجليس، ومعنى هذا ان القوات المحاربة على الجبهة كثيراً ما تتأثر بنبض الشارع وتوجهاته. من هنا القول ان هناك حفنة من الجنود الاسرائيليين تتأثر بموجة الاستنكار الشعبي وان الاختراقات تحصل بواسطة من فقدوا شقيقاً أو نسيباً في معركة يصعب ربحها. وحدث أثناء غزو 1982 ان تعرض أكثر من عشرين ضابطاً وجندياً للمحاكمة بحجة التمرد على الأوامر العسكرية. وكانت الأجوبة منسجمة مع طروحات السياسيين الذين يزعمون دائماً بأنه ليس لاسرائىل مطمع بشبر واحد من أرض لبنان... وان المطالب التاريخية في "يهودا والسامرة" تختلف عن مطلب حماية الجليل الأعلى من خطر صواريخ المقاومة. وعلى رغم التصاريح المهادنة التي يطلقها باراك ونتانياهو، فإن المقاومة اللبنانية - السلمية منها والعسكرية - بدأت تلعب دوراً حاسماً في تغيير اتجاهات الحزبين الرئيسيين، وتؤثر بالتالي على الطروحات الانتخابية. وواضح ان هذا التأثير طاول نتانياهو الذي تحول من صقر في المعركة الماضية الى حمامة مسالمة. وكل خوفه ألا يغرق جيشه في مستنقع شبيهه بمستنقع فيتنام، حيث خاضت اميركا حرباً خاسرة على الجبهتين الداخلية والخارجية! * كاتب وصحافي لبناني