هذا التأرجح في موقف لبنان الرسمي بين رفع شكوى الى مجلس الأمن أو الإكتفاء بمرجعية "تفاهم نيسان" ليس على مستوى الحدث ولا يشكل رداً واضحاً على طبيعة العدوان الاسرائيلي على جنوبلبنان. لذا عندما دخل طلاب لبنان الى أرنون فإنهم قاموا بعملية جريئة، والى حد كبير عملية مبدعة، في إبلاغ اسرائيل ان ضم أرنون الى "الحزام الأمني" يعني ترسيخ مفهوم "الحزام الأمني" على حساب ما هو قائم، وهو احتلال اسرائيلي لأراض لبنانية. اختراق أرنون حرر اللبنانيين من عقدة الخوف ومن إرث التواكل الذي يعلن "أن قوة لبنان في ضعفه". لم يحرر طلاب لبنان أرنون بمقدار ما حولوا أنفسهم الى طليعة لتحرير لبنان من التكاذب المتبادل بين الطائفيين وأكدوا ان مسؤولية التحرير للوطن وللمواطن يجب ان تعبر عن إرادة لبنانية شاملة. أهم ما حصل في أرنون هو ما حققوه من خلال بساطة النص: ما دام جزء من أرض لبنان محتلاً فلا مفر من مقاومة شاملة. في أرنون اختار الطلاب وسيلة اللاعنف في مجابتههم مثلما حصل في انتفاضة أبناء الحجارة في فلسطينالمحتلة. كان احتشاد الطلبة في بلدة أرنون ورفعهم علم لبنان فوق أعمدة أرنون وبيوتها دليلاً واضحاً على احتضان لبنان للمقاومة التي لا تزال تجعل الاحتلال الاسرائيلي مكلفاً للغاية كما حصل في الاسبوعين الأخيرين. دخل طلاب لبنان أرنون من دون سلاح تقليدي... مزقوا بأيديهم الأسلاك الشائكة، تجاوزوا الألغام المزروعة، استعملوا سلاحاً قلّما استحضر في السنوات الماضية... استحضروا الإرادة كسلاح لإنجاز هدف وهو التحرير. ان ما توخاه طلاب لبنان من عملية أرنون هو زعزعة مفهوم "الأمن الاسرائيلي على حساب حق لبنان في السيادة وعلى حساب الشرعية الدولية" واقتلاع لهذا المفهوم. هذه العملية المبدعة أذهلت اسرائيل لأنها عجزت عن فهم ما قام به طلاب لبنان في أرنون. لأن ما قام به طلاب لبنان جعلوا المقاومة أشمل وجعلوا التزام شرعيتها وضرورتها مسؤولية لبنانية وطنية كما نرجو ان تكون مسؤولية عربية قومية. دخل طلاب أرنون ينشدون "كلنا للوطن" لكن ما حققوه هو ان "الوطن لكلنا". هذا الأسلوب اللاعنفي الذي ميّز عملية أرنون من شأنه ان يؤدي الى استقواء المقاومة بهذه الظاهرة التي تنطوي على احتمالات تصميمية كثيرة... فمن جهة كان اقتحام الطلبة لأرنون بمثابة دفعهم الى واجهة الاستذة. فالمعلم يساهم في تأهيل العقل على تنظيم الفعل، يزرع في التلاميذ بذور الأمل، يشدد على المطالبة بالحرية والمساواة، يدرب على التعود على اللحمة الوطنية. المعلم يدرس ان العلم هو علم لبنان والنشيد هو نشيد لبنان الوطن... فلا علم لمسيحييه ولا علم لمسلميه ولا النشيد هو للمسلمين أو للمسيحيين. المعلم الصامت يرسخ هذه البديهيات في وعي التلميذ، لأن المعلم يبلور ومن ثم يعمق في التلميذ مفهوم المواطنة. المعلم الصادق يهيئ الأجيال الطالعة ان تتقبل التطور وان تساهم في التطوير. كانت عملية أرنون بمثابة ورشة عمل فكرية وتثقيفية... أخرجتنا أو تكاد من سجن اللاحسم.
... لكن اللاحسم هو وليد التأرجح. ففيما كانت عملية أرنون في مستهلها ومن ثم في أوجها استمرت المقاومة في متابعة مهماتها في إلحاق الخسائر بجيش الاحتلال. أمام تنوع أساليب المقاومة صارت اسرائيل مرتبكة أمام تعاظم وشمولية المقاومة اللبنانية. صدمها اللاعنف، كما صدمتها المجابهة... فقامت كعادتها بإبراز سطوتها الجوية من خلال الغارات على المدن والقرى اللبنانية تستبيح الأجواء مكتشفة ان النقمة المشروعة على احتلالها وعدوانها وغطرسة عنصريتها لا تحارب بوسائلها الانتقامية التي تفترض ان كل خسارة تمنى بها اسرائيل دليل على "إرهابية" المقاومين. الآن صار لزاماً على لبنان ان يخرج من حالة التأرجح... وان يحسم... لكن هذا التأرجح قائم نتيجة أوضاع اقليمية ودولية معقدة. هذا يعني ان الموقف اللبناني يجب ان يكون محيطاً بهذه الأوضاع ويجب ان يتوخى الدقة في معالجتها، كما ان خيارات لبنان في الظرف محدودة وبالتالي عليه ان يستوعب الدروس التي أكدت تمازج المقاومات التي حصلت في الاسبوعين الأخيرين وان يخرج بقرار واضح من شأنه اذا اتخذ ان يعيد فتح القضية اللبنانية على مصراعيها وعلى المستويين العربي والدولي. صحيح ان تقديم شكوى الى مجلس الأمن ودفعه لاتخاذ قرار قابل لتنفيذ قراراته السابقة معرض ان يعطل بفضل استعمال الولاياتالمتحدة حق النقض، لذلك نجد ان الديبلوماسية الاميركية تحاول ان تجعل اللجوء الى مجلس الأمن مكلفاً للبنان وبالتالي تقوم على حث لبنان على الاكتفاء بالعمل من خلال آلية "تفاهم نيسان". ويؤكد ان اكتفاء لبنان بالعمل من خلال هذه الآلية المبهمة من شأنه ان يفسح أمام الولاياتالمتحدة فرصة لإقناع حليفتها لا على الانسحاب في هذه المرحلة بل على عدم الاصرار على ضم أرنون. بمعنى آخر الديبلوماسية الاميركية تعد بتخفيف شراسة التعامل الاسرائيلي مع لبنان، لكنها ليست "في الوقت الحاضر" مستعدة لأكثر من محاولة اقناع... أمام "الضغط" الذي يثيره بعض الواقعيين ان بإمكان الولاياتالمتحدة ممارسته على اسرائيل، فهو أبعد ما يكون عن الواقعية الصحيحة. صحيح ان باستطاعة الولاياتالمتحدة استعمال الضغط، لكن هذا يتطلب إرادة للضغط وهذه الإرادة غائبة أو مغيبة أو مفقوده. الحقيقة ان اسرائيل تدرك ان باستطاعتها ان تمارس ضغطاً سياسياً محلياً، وهذا معروف ومثبوت، كي تردع إرادة الضغط عليها في تجاوزاتها وعدواناتها الخارقة، بمعنى آخر ان المعادلة الاميركية - الاسرائيلية هي في وجود ما يقارب ال "فيتو" الاسرائيلي على أي احتمال بأن تتبنى الادارات الاميركية موقفاً لها من أي وجه من أوجه الصراع العربي - الاسرائيلي على طبيعة واستحقاق الشأن المطروح. وبنتيجة هذه المعادلة صار شبه مستحيل ان تلجأ الأطراف العربية الى مجلس الأمن ما دامت الولاياتالمتحدة ممسكة بمفاصل أزمة النزاع. هذه الحالة الاميركية تجعل صعباً التمسك بشرعية ومرجعية قرارات الاممالمتحدة وبالتالي هذه الحالة تنطوي على تعويدنا على تقبّل الاحتكام باستمرار الى المرجعية الاميركية. ولكن المرجعية الاميركية لا تريد ان تبدو مستأثرة لذا تصبح آلية "تفاهم نيسان" مانحة نوعاً من الغطاء المطلوب بحيث يمنح اللجوء الى هذه الآلية وقتاً كافياً للولايات المتحدة ان تطلب أو تقنع اسرائيل بالعدول عن ضم أرنون الى "الحزام الأمني". هذا قد يؤدي اذا حصل - وهذا ليس بالضرورة مضمون - الى تثبيت أحقية "الحزام الأمني"، وبالتالي عودة أرنون الى السيادة اللبنانية. بمعنى آخر ان تفعيل آلية تفاهم نيسان في هذا الشأن يعني العودة الى الحالة السابقة التي سبقت عدوان اسرائيل على أرنون. ان لجنة نيسان غير معنية بشؤون ومتطلبات إزالة الاحتلال، كما أن مهماتها محصورة بإصدار بيانات ملتبسة للحيلولة دون وقوع ضحايا مدنيين. إضافة الى هذه الحالة الاميركية التي راهنت ثم ارتهنت اليها أطراف عربية رئيسية نجد ان تهميش المداخلات الأوروبية غير مرغوب سوى من حيث انها تعبر عن مواقفها من خلال مساعدات مالية من ضمن الخطة الاميركية في ادارة المباحثات أو المفاوضات الجارية خاصة على الساحة الفلسطينية. وتكاد الولاياتالمتحدة تجعل أي تدخل أوروبي - أو غير أوروبي - في معالجة "أزمة الشرق الأوسط" وكأنها مجابهة مما يضطر بعض المجموعات الدولية ان تجتنب هذا الخيار الغابن لها وللمجتمع الدولي. لأجل هذا تعمل الإدارات الاميركية المتعاقبة على شل مجلس الأمن في كل ما يتعلق بإسرائىل وتفعيل مجلس الأمن عندما يتعلق الموضوع بالشكوى على دول عربية. أمام هذا الواقع هل يبقى لبنان رهينة اللاحسم مكتفياً بتسجيل شكوى اعتقد ان على لبنان ان يستثمر ديبلوماسياً وسياسياً واعلامياً ما قام به طلاب لبنان في أرنون وما تقوم به المقاومة في الجنوب. ليس كافياً ان يبارك الحكم ما قام به طلاب أرنون كما لم يعد كافياً ان يتبرك الحكم بروعة انتفاضة أرنون، على لبنان الحكم ان يوظف الحالة اللبنانية ومقاومتها الشاملة كي يعيد فتح ملف الجنوب دولياً وفي مجلس الأمن وان ترافق هذه المبادرة المطلوبة بإلحاح حملة تنويرية في الوطن العربي الكبير كما في داخل الولاياتالمتحدة. فبدل ان يكون لبنان هو المحرج بالذهاب الى مجلس الأمن يصبح أي تساهل مع اسرائيل هو احراج للحالة الاميركية. إن إعادة فتح ملف الجنوباللبناني من شأنه ان يؤدي الى اعادة النظر في ما سمي خطأ "مسيرة السلام" وسياسات التطبيع على المستوى العربي العام. وهذا بدوره يجعل جنوبلبنان لا ساحة المجابهة العملية في الصراع العربي - الصهيوني فحسب، بل قد يصبح الجنوب المدخل لما يدعو اليه العالم ومن ثم يهمله - أي السلام العادل. ما قام به طلاب لبنان في اقتحام أرنون يشكل مع نجاحات المقاومة المسلحة مفاجأة يكتشف فيها لبنان والعرب اجمالاً طاقاتهم التي كبتتها الكآبة والتردي. إن ما أعطاه طلاب لبنان في عملية أرنون أنهم جعلوا الاستقالة من التفاؤل غير واردة. هذا بحد ذاته كافٍ ليجرؤ لبنان ان يخترق الحواجز الحائلة دون رجوعه الى مرجعية الشرعية الدولية مثلما اخترق طلاب لبنان الأسلاك الشائكة حول أرنون. لقد حان الوقت ان يبادر لبنان وان يخرج فوراً من حالة التأرجح. فليس هذا بمثابة مجازفة أو مغامرة... هذا ما يتوقعه العالم من لبنان اذ ان تفعيله لمجلس الأمن - مهما كانت النتيجة - هو الإسهام في لحلحة المكبلات التي تحول دون مشاركة جادة للمجتمع الدولي في حل القضايا العالقة في كل الجهات والمواضيع. ان المقاومة اللبنانية بفرعيها - عملية أرنون وعمليات المقاومة - تستحق ان تدفع لبنان الى جعل ما يُعتقد أنه مستحيل ممكناً. * مدير مركز دراسات الجنوب في الجامعة الاميركية في واشنطن