الموت حق على الكبير والصغير، على الملك والفقير فهو الحقيقة الوحيدة في الحياة، وإذا وقع قضاء الله فتأثير ذلك أكيد، بخاصة عندما يحدث في القمة إذ يعتبر بحق نقطة تحول جذرية في النظم السياسية سواء كانت ملكية أو ما عداها، اذ يتم تبادل السلطة وانتقالها في حدود شرعية تنظمها الدساتير القائمة. ونقل السلطة سواء عن طريق الشرعية الدستورية أو الشرعية الثورية حدث خطير بحق، تتبعه تغيرات هائلة في السياسات الداخلية والخارجية لأن السياسة أولاً وآخراً من صناعة الافراد. وشجع على هذا الحديث الحدث الكبير الذي شهده الاردن بوفاة الملك حسين بن طلال بن عبدالله وانتقال الحكم الى ولده الأكبر عبدالله الثاني مع دعائنا بالرحمة للفقيد العظيم وبالتوفيق والسؤدد للملك الجديد في مهمته الصعبة وسط توازنات إقليمية وعالمية غير مواتية. ومن يتأمل في شجرة العائلة الملكية الاردنية يلاحظ تعدد الأشكال والظروف في نقل السلطة في كل نقطة تحول تمت سواء بفعل البشر أو بفعل القدر، وبذلك تعددت أشكال جنازات القمة التي حدثت في هذا البلد الشقيق. وقبل الحديث عن جنازة الفقيد الكبير لابد من التحدث عن عملية نقل السلطة التي سبقتها بأيام قليلة، لأن موت الذي في قمة السلطة لا يعني النهاية لكنه يعني بداية مرحلة سياسية جديدة، ليس في أشخاصها فقط ولكن في عقيدتها وفي أسلوب تسييرها للأمور أيضاً. وتحدث الكثيرون عن ايجابيات المؤسسات الأردنية في نقل السلطة بالطريقة السلسة التي تمت، وهو ما اعتبره - على رغم ما أكنه من عميق الاحترام لها - تقويماً فيه كثير من المجاملة، لأن اللاعب الأساسي في هذه الساحة الدقيقة الوعرة كان الملك حسين وحده لأنه كان مركز القوة الوحيد الذي تجمعت في يده كل السلطات بخاصة في مجال وراثة العرش. فهو الذي عيّن أخاه الأمير الحسن منذ العام 1965 ولياً للعهد بما اقتضاه ذلك من تعديلات اُدخلت على الدستور من دون موافقة المؤسسات التي كانت قائمة في ذلك الوقت او اعتراضها. وهو الذي أوكل إليه في آب اغسطس 1998 مسؤوليات واختصاصات غير مسبوقة من دون موافقة المؤسسات القائمة في تلك الفترة او اعتراضها. وهو الذي عزله من ولاية العهد قبل موته بأيام قليلة في الانقلاب الابيض للقصر كما وصفه بعضهم، ثم عيّن ابنه الامير عبدالله ليخلفه من دون موافقة المؤسسات الحالية أو اعتراضها. وحينما اختار الله الملك السابق الى جواره أصبح ولي العهد ملكاً بحكم الدستور القائم، فعيّن بدوره أخاه الأمير حمزة ولياً للعهد من دون حاجة الى رأي المؤسسات القائمة أيضاً. وكما نرى فإن عملية انتقال السلطة تمت بناء على توازنات وإجراءات وضعها الملك والتزمتها المؤسسات القائمة من دون تدخل منها، إذ كانت دائماً في وضع المتلقي الذي عليه التنفيذ والمصادقة على ما يتخذ من قرارات. وكان الاجراء الوحيد الذي يعتبر استثناءً هو حلف الملك اليمين الدستورية أمام المجلس التشريعي لإعطاء الوضع شكله الدستوري الى أن يقضي الله أمراً كان مفعولاً. وليس في هذا أي عيب لأن العيب كل العيب ألا يكون هناك نظام واضح لنقل السلطة، لما يعقب ذلك من فراغ يفتح المجال لمخاطر كثيرة. وكل ما أردناه من هذا الحديث هو وضع الأمور في إطارها الصحيح فلا ينسب الى أي جهة فضل هي في غنى عنه. وقضية نقل السلطة في الأردن أو غيره تنال أهمية خاصة سواء على المستوى القطري أو الاقليمي أو العالمي. ولا عجب بعد ذلك ان يصدر مركز الدراسات الاستراتيجية في لندن كراسته الدراسية الأخيرة الرقم 324 في شباط فبراير تحت عنوان "العلاقات السياسية العسكرية واستقرار الأنظمة العربية" ركز فيها في الفصل الرابع على "تحديات الاستقرار: تعاقب القيادة في سورية والاردن ومصر وتأثيره الاقليمي". ولا عجب أيضاً أن تهتم كل الأجهزة المعنية في الدول المختلفة بنظام الحكم في الدول محل الاهتمام ومراكز السلطة الحقيقية فيها. وهذا يعني في الوقت نفسه أن هذا الموضوع، مضافاً اليه الناحية الصحية والاجتماعية للدائرة الضيقة التي تؤثر في صناعة القرار، يعتبر من المناطق الرمادية التي توضع دائماً تحت القفل والمفتاح. وتعطي درجة سرية لا تقل عن "سري للغاية" والتي لا يمكن الوقوف على حقيقتها إلا عن طريق "البصّاصين" والقنوات الخفية، ولا أقول القنوات الخلفية للفارق الكبير بينهما. والسبب في اهتمام الآخرين بهذا الموضوع في كل العالم، على اختلاف أنظمة الحكم فيه، يرجع الى أن صاحب القرار هو الشخصية المتحكمة بصدوره مهما اختلفت طرق صناعته. والأسهل إذن أن يتم التعامل مع الشخص الرئيسي في المطبخ الداخلي بدلاً من التعامل والتفاهم مع الطباخين الكثّر من المساعدين. ولذلك فإن من المعتاد عند اختفاء صاحب القرار، سواء أكان ملكاً أو رئيساً أو أميراً وسواء بفعل القدر أو البشر، ان يقوم خلفه بتغيير كل أو معظم أفراد المطبخ الداخلي، لأنه لا يمكن أن يعمل بمساعدي غيره بل يريد أن يعمل بمساعدين من صنعه. فهذا هو واقع الحال في ما يجري أو سيجري، الأمر الذي كتب عنه بتفصيل نيقولا ميكيا فيللي في كتابه "الأمير" وكذلك في المطارحات. وقبل أيام أذاعت الانباء أن عبدالله الثاني أصدر قراراً باستبعاد بعض الطباخين ذوي القبعات الحمر، كما أعفى عمه الحسن من إحدى عشرة مؤسسة كان يرعاها "بعد أن حققت أهدافها على صعيد تقدم الأردن في الماضي"، فاللعب داخل ملعب السلطة لا يعرف المجاملة أو العاطفة. وهذا يوضح أيضاً أنه كان من المحتم أن يقدم رئيس الوزراء استقالة حكومته الى الملك الجديد، فقبلها بعد ذلك بأيام. ولا ينطبق ذلك على المجلس التشريعي المنتخب من الشعب لأن الأمور هنا تجري بأسبقيات محسوبة لفرض الولاء في حقل السلطة، بل يتسع مجال التغيير أحياناً ليقدم السفراء استقالاتهم كما يحدث في الولاياتالمتحدة ليتركوا للرئيس الجديد حرية التصرف ليحلّ محلهم آخرون أكثر قدرة على تنفيذ سياسته الخارجية التي قد تكون مغايرة لسابقتها. ولا شك في أن الملك الراحل واجه حسابات دقيقة ليهيئ لنقل السلطة الى ولده عبدالله، إذ اتخذ قراره تحت عوامل ضاغطة قاسية: كان عليه أن يختار من بين بدائل صعبة، وهو تحت وطأة مرض عضال ظل يقاومه فترة طويلة، وفي وجود الأمير الحسن الذي ظل في ولاية العهد 34 عاماً، وفي وجود كثير من الأولاد من زوجاته الأربع، كان عليه أن يحسب حساب تنافسهن الطبيعي. وفي ظل هذه الظروف وغيرها اتخذ قراره بالتعديلات الخطيرة وعاد من فوره إلى أميركا حيث وضع نفسه ومصيره بين يدي الله ومعالجيه في "مايو كلينيك" ولا يدري أحد بحقيقة مشاعره ودرجة اطمئنانه الى عرشه في ساعاته الأخيرة، لكن الشيء المؤكد أن توقع موته كان قائماً وأكيداً في الدائرة الضيقة للمهتمين بالأمر، مما ساعد في أن تخرج الجنازة بالمستوى الذي تمت به حيث كان الوقت متوافراً ليتم ذلك. كانت الجنازة رسمية "ملوكية" بمعنى الكلمة، لعبت فيها قواعد البروتوكول دوراً أساسياً وحضرها أكثر من 50 ملكاً ورئيساً ومندوباً. وعلى هامش التشييع يمكن التحدث عن ثلاثة مواضيع: لفت الانتباه في حضور بعض الشخصيات الذين اعتبر مجرد حضورهم في رأي بعضهم تصفية لخلافات قائمة. وهذا مفهوم خاطئ تغلب فيه النواحي العاطفية على الناحية الموضوعية، لأن الخلافات لم تحدث بين الأطراف بسبب حضور أو عدم حضور جنازة، لكنها حدثت بسبب مواضيع معينة ما زالت قائمة فواجب العزاء غير اختلاف المصالح، العلاقات الدولية لا تبنى على المجاملات ولكنها تبنى على المصالح والاختلاف على المصالح أعمق من أن يزيله السير في جنازة أو قراءة الفاتحة على روح الفقيد. حضر الجنازة "بطارية" من الرؤساء الاميركيين وهو الشيء نفسه الذي سبق حدوثه في جنازة المرحوم الرئيس السادات، مما يدل على عمق العلاقات بين أصحاب القرار في الجانبين، كما حضرها "بطارية" أخرى من المسؤولين الاسرائيليين كما حدث في جنازة الرئيس السادات أيضاً، هذا ليس بالشيء الغريب، إذ ترتكز السياسة الاردنية على دعامات معروفة أهمها العلاقة بين عمان وواشنطن من جانب وبين عمان وتل ابيب من جانب آخر، الى درجة ان احد أسس سياسة الأمن الاسرائيلي هي المحافظة على الوضع القائم في الأردن. وكلنا يذكر أن اسرائيل أعدت خطة تدخلها بالقوة بالتنسيق مع الولاياتالمتحدة أيام أحداث "ايلول الأسود" كما هو معروف ومدوّن في كتاب هنري كيسنجر "سنوات البيت الأبيض". لاقى تشييع الجنازة مساحة واسعة جداً من أجهزة الإعلام العالمية والاقليمية، مما دعا بعضهم الى أن يذكر ان الملك الراحل كان أكبر حجماً من دولته. ولكن ربما كان من دواعي هذا الاهتمام الناحية الانسانية التي ترتبت على حضور الملك توقيع "اتفاقية مزرعة نهر واي" بالرغم مما كان يعانيه من مرض أدى إلى سقوط الشعر واختلاف ملامح الوجه، ثم قطعه لعلاجه والعودة الى الأردن لقيادة انقلاب القصر، وصلاته على أرض المطار بعد عودته، والانسان على رغم ما يتحلى به من صفات سيئة إلا أن له في نهاية الأمر مشاعر وقلباً. وملك الأردن يواجه الآن اسئلة كثيرة تحتاج الى اجابة. ومن يطالبه بالسير على نهج أبيه الملك الراحل يطالبه بالمستحيل، لأنه يعيش الآن في مسرح تتغير فيه الأمور بطريقة سريعة وربما غريبة والقرارات وليدة ظروفها والظروف صعبة والإمكانات المتاحة قليلة. مات الملك الراحل فاستراح، وعاش الملك الابن ليتسلم الراية ويكمل المشوار. * كاتب ووزير دفاع مصري سابق.