قبل وفاة الملك حسين ومنذ سنوات طويلة، كان الاعلام الاردني يركز على اهمية الاردن الاقليمية والدولية، وان تلك الاهمية تتجاوز كثيراً حجم البلد الجغرافي والسكاني. وتأكدت هذه الاهمية من خلال التظاهرة الدولية الكبيرة التي صاحبت مراسم جنازة العاهل الاردني، بل ان المشاركة الواسعة لزعماء اكثر من خمسين دولة بين اهم دول العالم في تقديم العزاء، اثبتت فعلاً بأن الاردن المحدود الموارد الطبيعية. والحضور الشخصي للملك حسين في رسم السياسة الخارجية عربياً واقليمياً ودولياً، جعل غيابه يثير مخاوف معظم المشاركين في جنازته. وهنا تأتي اهمية الاردن والتي جاءت بطبيعة الحال مع اهمية الملك حسين نفسه والذي بناها في ظروف صعبة ومعقدة مرت بها المنطقة، واستطاع وبنجاح ان يقود بلده الى بر الامان الى حين وفاته. وتبدو مهمة الصور التي ارتسمت في عمان خلال مراسم الجنازة والتي من الممكن ملاحظتها بالتركيز على النقاط التالية: اولا - ان بعض الزعماء شارك في جنازة المغفور له بسبب العلاقة الخاصة، خصوصاً ان العاهل الاردني الذي مضى على وجوده في السلطة حوالى ستة واربعين عاماً يعتبر من اقدم الزعماء في العالم الذين حكموا بلدانهم، واستطاع ان يقيم صداقات وعلاقات مع قادة دول تداولوا السلطة خلال تلك السنوات، ومثال على ذلك ان الملك التقى في البيت الابيض الاميركي تسعة من الرؤساء الاميركيين، اربعة منهم شاركوا في الجنازة. ووجد الزعماء ان الواجب يفرض عليهم المشاركة في الجنازة. اي ان مشاركتهم كانت ذات طابع عاطفي وخاص لحزنهم على فقدانه. ثانياً - ان اهمية المشاركين وارتفاع عددهم، بشكل لم يسبق ان حدث من قبل في جنازة اي من زعماء العالم، حتى في الدول الكبرى، يعني ان بعض هؤلاء الزعماء ارادوا ايصال رسالة من خلال مشاركتهم، للملك عبدالله، بأنهم يدعمون وجوده على العرش الاردني بكل قواهم. وانهم لن يسمحوا لأي جهة من الخارج او من الداخل، بالتدخل لزعزعة النظام. وان اختيار المغفور له للملك الجديد، كان موفقاً، يلقى الترحيب والتقدير منهم. ولم تكن مشاركتهم واجب عزاء للأسرة المالكة في الاردن فقط، بل هي دعم اكثر للعاهل الاردني الجديد لكي يشعر بأن قادة العالم يقفون الى جانبه ويؤازرونه امام الاحتمالات التي قد يتعرض لها. ثالثاً - هؤلاء الملوك والرؤساء والقادة ارادوا في الواقع ان يوصلوا رسالة اخرى للاردن نفسه، كدولة ونظام وكيان وشعب، بأنهم يدعمون الاستقرار في البلد الذي بناه الملك حسين طيلة ما يقارب نصف القرن، وانهم لن يسمحوا لأحد، من الخارج او من الداخل، بالعبث بالاستقرار في الاردن، وان مشاركتهم تأتي في اطار دعم ثقة المواطنين بوطنهم، في ظروف فقدان مليكهم. وهذا الدعم كان لا بد منه من اجل التوازن السيكولوجي بين النظام والشعب. ولقد صدرت عن بعض القادة تصريحات واضحة تصب في هذا الاتجاه، وهو ما كان بحاجة اليه المواطنون الذين كانوا في حال من الذهول والصدمة لوفاة الملك الذي لم يعرفوا سواه حاكماً منذ سنوات طويلة. رابعاً - بعض القادة المشاركين في الجنازة، أراد ان يدعم القيم والسياسة التي سار عليها المغفور له سنوات طويلة. وهذه القيم مثل الاعتدال والتسامح والسعي الحثيث من اجل السلام في الشرق الاوسط والتعاون المشترك مع اعداء الامس، كلها نادى بها المغفور له وسعى الى تحقيقها خلال وجوده على العرش الاردني، الا انها - اي تلك القيم - يجب ان تبقى وان لا تموت مع وفاة الملك حسين، بل ان تستمر وتدوم في المنطقة. خامساً - على الرغم من ان الاردن كدولة ، ولد في عهد الملك عبدالله الاول، الا ان الاردنيين في معظمهم عاشوا في عهد الملك حسين وترعرعوا في ظله، وشاهدوا بلدهم ينمو في كل يوم، مع وجود الحسين. اي ان الاردن نما وارتبط وجوده باسم العاهل الراحل. وحتى المؤسسات الرسمية كانت مرتبطة مباشرة بالملك، مما جعل المواطنين الاردنيين يشعرون في نهاية المطاف بأنهم منتمون للحسين مباشرة اكثر من انتمائهم للاردن كوطن ودولة ومؤسسات وأطلق شعار "شعب الحسين" على الشعب الاردني. وبقي الانتماء للعرش وما يمثله من قيم، اكبر من الانتماء للوطن الواحد. وهذا يفسر ظاهرة الحزن الكبير الذي ساد الاردن من مختلف الفئات على فقدان الملك الراحل، لانه كما قيل فان كل فرد شعر بأنه يفقد انساناً عزيزاً على نفسه، لأن الملك حسين، كان يمثل له بعداً في غاية الاهمية وهو الشعور بأنه وحده القادر على حل مشاكله والاحتفاظ بمصالحه، مما جعل بعض الاردنيين يقولون بأنهم "تيتموا" بعد وفاة الملك. سادساً - ان الظروف التي ولد فيها الاردن لم تعد قائمة الآن على الرغم من الصعوبات الاقتصادية والاقليمية التي يعاني منها في بعض الاحيان. الا ان الاردن استطاع من خلال وجود الملك حسين ان يصبح حقيقة قائمة في المنطقة يحسب لها الحساب فلا يستطيع احد ان يتجاوزه في الشرق الاوسط. واكدت القيادة الاردنية ذلك في مناسبات عدة، وكان التوقيع على اتفاقية وادي عربة عام 1994 مع اسرائيل بمثابة التأكيد على الوجود الجغرافي والسياسي للمملكة الاردنية الهاشمية، وعلى حدودها التي رسمت لها منذ عام 1922، تلك الحدود التي لم يكن معترفاً بها لدى اسرائيل. ولقد تدعم الوجود السياسي الاردني من خلال وجود قادة العالم في هذا البلد الصغير جغرافياً، والمؤثر في المحيط العربي والاقليمي، ما اعطى الانطباع ان المشاركة في جنازة العاهل الاردني كانت في الواقع بمثابة اعادة الاعتراف العربي والدولي بالاردن وبالدور الذي من الممكن ان يلعبه في المستقبل. ولا شك ان مشاركة القادة العرب، خصوصاً من مصر والسعودية وسورية وفلسطين، يسير في هذا الاتجاه من الحرص العربي على الاردن والدور الذي يلعبه في الشرق الاوسط وكذلك الامر بالنسبة الى اسرائيل التي شاركت تياراتها السياسية كلها في جنازة الملك، حتى من كان يرفع شعار انكار وجود الدولة الاردنية قبل سنوات. ونستدل من كل ذلك على ان المغفور له الذي افاد الاردن خلال حياته، قد افادها ايضاً بعد مماته، واعطاها دعماً قوياً، وهو يوارى تحت التراب بعد وفاته. * رئيس قسم العلوم السياسية في جامعة اليرموك - الأردن.