سواء كانت حادثة عادية أو "مؤامرة" مدبرة، ساهم فيها "الباباراتزي" أو صنعها عقل جهنمي، فإن نهاية ديانا وعماد الفايد لم تنته بعد. فموتهما لا يشبه موتاً آخر، اذ كان له وقع الارتجاج، في العلاقات والأحداث والصور. ولأن للموت بعداً مفارقاً، كما هو الشأن بالنسبة الى الصور، انتزع انطفاء حياة ديانا وعماد الفايد، كثافة مفارقة أيضاً. إرادات متعددة للقوة التقت في نفس المنعطف، إرادة التحرر والعشق، وإرادة الضبط والاحتواء، وإرادات لا حدّ لها للتعويض عن النقص، كل أشكال النقص. موت ديانا كان مثيراً للدهشة. ان تنتهي حياة هذه المرأة بهذه الطريقة التراجيدية؟ كل شيء ممكن. غير ان الشعور العام التقى على اعتبار ان ما حصل أمر من قبيل الظلم. والدهشة، هنا، كان لها فعل الارتجاج بقدر ما ولدت لدى البعض شيئاً من الفضول، ولا يتعلق الأمر بدهشة الفلاسفة أو فضول المنقبين على الحقيقة المجردة، لأن الفلاسفة، منذ ما قبل افلاطون، عملوا على البحث عن الحقيقة من دون فائدة تذكر، لأن الفلاسفة، منذ ما قبل افلاطون، عملوا على البحث عن الحقيقة من دون فائدة تذكر، كما يقول اومبيرتو ايكو، وهو وإن كان يقر للفلسفة بدور كبير في معرفة الحقيقة، فإنه يرى ان اجهزة الشرطة أكثر الاجهزة امتلاكاً لوسائل ومناهج الوصول الى الحقيقة. فالشرطي غير ملزم بأن يتلقى دروساً في الفلسفة، على الطريقة الديكارتية، إلا ان مهامه تجعل منه أكثر الكائنات شكاً وتساؤلاً عما يقع من حوادث. وحادثة نفق "ألما" زجت بأكثر من جهاز في دهاليز البحث عن الحقيقية. حقيقة موت ديانا ومن معها. لهذا يظهر ان انطفاء جسد هذه المرأة لا يؤشر على نهايتها بقدر ما سيشعل الرغبة المتجددة في احيائها، سواء من خلال الطقوس التي أقامتها الحداثة أو بواسطة البحث عن حقيقة موتها، هذا إذا افترضنا ان هناك قراراً فعلياً للوصول "بالتحقيق" الى نتائجه القصوى. ماتت ديانا، سماها البعض "أميرة الشعب"، وتشبث الرسميون الفرنسيون بنعتها بكل الأوصاف التي تحيل الى الحداثة، "امرأة حديثة" قالها شيراك، و"جوسبان" و"شوفنمان"... والحمولة الدلالية التي يمنحها الفرنسيون "للحداثة" يصعب على البريطانيين الاتفاق عليها، في هذه النازلة بالذات. فالحداثة لم تكن تعني نمط لباس ديانا أو تسريحات شعرها أو ارتباطها بمظاهر الفن الحديث فقط، وانما كانت تعني استحضار صفات التمرد على التقليد والاحتجاج على نظام معياري قاهر. كيف يعقل لمن جسدت بعض قيم الأنوار، من إخاء ومحبة ومساواة وحرية، أن تموت في مدينة الانوار من دون معرفة "حقيقة" موتها؟ لست من دعا القول بالمؤامرة، وانما ممن يستهويهم البحث عن الحقيقة، حتى ولو كانت نتاج جهد بوليسي. وما دام الغموض سيد الموقف، فلا شك ان أكثر من حقيقة في حاجة الى من يتجرأ على الجهر بها. وفي كل الاحوال، فالمسألة في منتهى التعقيد، لأن الحدث كان مهولاً ومفجعاً. قد يقال بأن الشغف ينتهي بصاحبه، عموماً الى نتائج تراجيدية. شغف شابة ذات سحر جاذب تتزوج بمؤسسة تاريخية ورمزية ثقيلة وتهتدي الى ان منطق الدولة لا يمكن ان يولد الحب أو يرعاه، فتعلن الانفصال، لأن هوية المؤسسة لن تتسامح مع اختلاف الحب، أو أن حب الاختلاف لن يتوافق مع المؤسسة الحارسة للهوية، وظهر لها، بالملموس ان للحب مناطقه الخصوصية التي تعين الإنصات إليها، لأنه كلما حاولت السياسة ان تصنع حباً ما إلا وصنعت، في المقابل، كائنات ممسوخة لا روح فيها ولا حياة. فالدولة لم تعمل، في يوم من الأيام، على تعليم الحب، لأن جوهر سلطتها يتجلى في الامتثال والطاعة، ولأن ديانا امرأة فنانة، شغوفة، و"حديثة" فإنها شقت عصا الطاعة وأعلنت العصيان، وارتمت في نزعة جامحة للانفصال، عن الزوج والمؤسسة والتقليد. وإذا كان زواج ديانا مع تشارلز مطبوخاً بطريقة أفضت الى نتائج مرة، فإن لقاءها عماد الفايد تميز، في كل الاحوال، بنسبة عالية من الحرية ومن الميل الشخصي الى الارتباط بالآخر. فالانفصال يولد اتصاله الخاص، والهروب من جفاف المؤسسة قد ينتج علاقة لها معنى. هل موت ديانا وعماد إعلان عن فشل تراجيدي آخر للقاء الغرب والشرق؟ هل العائلة الملكية، ومن ورائها المؤسسة الانكليكانية، لم يكن بمستطاعها احتمال استفزاز حضاري من قبيل "زواج ملكي" بين مسلم ومسيحية؟ قد تكون هذه الاسئلة غير ذات موضوع، أو تحركها "هلوسات" عربي حزن على موت شاب مسلم في عز نجاحه المالي والاعلامي وعلى أميرة انطفأت قبل الأوان، غير ان في الأمر ظلماً ما. هناك لا تكافؤ حتى في الموت، بل وفي نفس الموت. ذلك ان النظام الوسائطي الغربي رفع من شأن نهاية ديانا الى درجة جعلها تلتقي بالتعبير الاسطوري - باستثناء نظام اخراج الپ"بي.بي.سي" لطقوس الجنازة - في حين ان عماد لا ينعت إلا بپ"صديق" "ها" "الملياردير" العربي. ولأن حجم الكارثة كان كبيراً، ولأن ديانا برزت بالصور وماتت بها، فإنه صعب على هذا النظام الوسائطي ان يبرز أكثر من مظهر من مظاهر الموت في نفس الآن. ذلك انه في الوقت الذي سقطت فيه ديانا وعماد، كان الموت يحصد مئات الجزائريين بأبشع أشكال القتل والحقد. يقال بأن النظام العسكري الجزائري قرر إدارة الحرب المشتعلة في أحشائه من دون صور وبأن حرية التعبير في الغرب ونظام الصور فيه يسمح بإبراز ما يريد، لكن اقتصاد الصور المختل يمنح للحياة القيمة التي يريد، كما يسوق الموت بالطريقة التي تضمن له المردودية المتوخاة. المثير للدهشة، ايضاً، هو ذلك التعاطف الجارف الذي انتزعه موت الأميرة ومن معها، ومن كل الجهات، وهو تعاطف مشحون بدلالات ليس مجال استعراض أبعادها، هنا. ذلك ان الحدث، وطقوس تنظيم الجنازة وكيفية نقلها تلفزيونياً، مكنت ملايين الناس من الشعور بنوع ما من اللقاء أو بالأحرى بالاندماج في طقوس الجنازة. وحدث من هذا النوع لا يحتمل التنافس، حتى ولو كان موت الأم "تيريزا" أو تجويع الفلسطينيين وقتل اللبنانيين والجزائريين... الخ. جاءت المشاركة في توديع الأميرة وكأنها انخراط في حج جماعي لم يكن من الممكن التشويش عليه بصور أخرى كيفما كان نوعها، بل ان قوة هذا الميل الجماعي الجارف فرض على العائلة الملكية المتحفظة الانصياع الى طقوس الجنازة، بطريقتها ولا شك، لكن أفرادها ظهروا وكأنهم يشاركون في حدث على الرغم منهم. والكل يعرف في الخرافات ان الملكات تسمم "الأميرات"، لكنهن يلتحقن بالمعزين للمشاركة في الجنازة، وهي مشاركة محسوبة على كل حال، إذ بدت الملكة اليزابيث الثانية وكأنها تتفرج بشكل عادي على حدث عادي، هنا تدخل الاخراج التلفزيوني للجنازة، فتصوير حركات وسكنات أفراد العائلة الملكية يخضع في الپ"بي.بي.سي" لنظام صارم. ممنوع اتخاد لقطات مكبرة، اللهم إلا في حالات التدخل العمومي الايجابي. ومعلوم ان موجات بشرية جماعية مثلما حصل في جنازة ديانا تمثل فرصة بالنسبة للمجتمع لكي يستنهض وعياً مكبوتاً بذاته، فالحياة اليومية لا تسمح، إلا نادراً، بخلق فرص يمكن للمجتمع ان يرى فيها ذاته. وكأن موت ديانا لم يكن سوى ذريعة لمساءلة الذات البريطانية عن ذاتها، كما كان الشأن مع المجتمع البلجيكي حين خرج بمئات الآلاف الى الشوارع احتجاجاً على الاعتداءات الجنسية لپ"ديترو" على الاطفال وعلى تواطؤ بعض اجهزة الأمن. هل الفراغ الداخلي يفضي الى ارتماء في خارج لا يعرف المرء فيه، بالضبط، دلالات ارتباطه به؟ أليست هذه الحركات الجماعية الكبيرة مباريات كرة القدم، حفلات موسيقية ضخمة... تعبيراً عن نمط جديد من "التدين" في المجتمع المعاصر؟ يصعب الدخول في أبعاد هذه الأسئلة، فالظاهر ان موت ديانا وعماد كان ملغزاً وفي منتهى الكثافة، سواء من حيث عمليات "التحقيق" أو من زاوية اقتصاد الصور. ولأن التلفزيون له قدرة جبارة على ابتكار الصور الملائمة، كما ظهر في الاخراج التلفزيوني للجنازة، فإن صور ديانا، حتى ولو أوصلتها الى مستوى الرمز والاسطورة، فإن المؤسسات الحاضنة للرمز، مثل المؤسسة الملكية والكنيسة، ستعمل، لا محالة، على "قتل" صورها، حيث مثلت مصدر ازعاج في حياتها، فما بالك بعد مماتها. * كاتب مغربي