يفصح تحليل الحياة السياسية المعاصرة عن العديد من الظواهر السياسية الجديدة وازدياد أهمية بعض الأساليب في معالجة هذه الظواهر. ومن الأساليب الجديدة في هذا المجال ما يمكن أن نطلق عليه المعالجة الدرامية للقضايا السياسية. وهذه المعالجة الدرامية للقضايا السياسية ربما نجد أصولها في تراث المسرح الاغريقي الذي تناول العديد من القضايا السياسية في أعمال مسرحية خالدة لا زالت تقدم حتى يومنا هذا. ويعد الكاتب المسرحي اريستوفانيس من أشهر من قدم هذا النوع من المسرح، إلا أن هذا الأسلوب اكتسب أبعاداً وأشكالاً جديدة في الواقع المعاصر وفي ظل ثورة الاتصال والمعلومات والإعلام. إذ أتاحت الوسائل التكنولوجية المتطورة نقل الأحداث السياسية المهمة وغير المهمة في قالب درامي تستخدم فيه وسائل الإبهار والتأثير كافة على الجمهور وعلى الهواة مباشرة، أي وقت وقوع الحدث، ومن دون حاجة الى كاتب مسرحي في وزن اريستوفانيس أو غيره. ويذخر واقعنا السياسي المعاصر بنماذج عدة من المعالجة الدرامية للقضايا السياسية لا تقتصر علي الغرب وحده وانما تمتد الى دول العالم كافة، ومنها ما يلي: أ- في ماليزيا: في يوم من أيام العام 1998 ظهر السيد مهاتير محمد رئيس وزراء ماليزيا على شاشات التلفزيون يتحدث عن مؤامرة كان يدبرها نائبه انور ابراهيم، ويعدّد التهم والأخطاء التي ارتكبها النائب السابق، ثم يتحدث عن جانب من فضائل هذا النائب السابق قبل ان يقع في دائرة الخطأ، ويختتم حديثه والدموع في عينيه متألماً ليقول: "لقد كان صديقي"، وذلك بعد ان كان أمر بالقبض عليه وتقديمه للمحاكمة. وكان أنور ابراهيم حمّل مهاتير محمد مسؤولية الأزمة المالية والاقتصادية التي تعيشها ماليزيا، بل وكأنه رأى أن وقت رحيل مهاتير محمد عن السلطة أصبح وشيكاً، فبالغ في جمع الأنصار من حوله، من أجل معارضة رئيس الوزراء الذي كانوا يتحدثون عنه قبل أيام بوصفه صانع المعجزة الاقتصادية في ماليزيا. وقد يكون أنور ابراهيم محقاً او مهاتير محمد محقاً، لكن ما يعنينا هو الأسلوب الذي اتبع في إدارة الصراع، وهو توظيف الدراما، خصوصاً الدموع، في محاولة للتأثير على الجماهير من خلال تصوير النائب السابق كناكر للجميل وخائن للصديق. ب - في بريطانيا: تحتل واقعة موت الاميرة ديانا زوجة ولي العهد البريطاني السابقة نموذجاً آخر من نماذج توظيف الدراما في نقل حدث له أبعاد سياسية، وقد استخدمت في نقل هذا الحدث، وسائل الإبهار الدرامي كافة: الحب، الجنس، الصراع، الدم، الجريمة، لتتحول الأميرة الى قديسة تعيش في عالم متوحش، يسعى الى اختراق خصوصيتها، وكأنها لم تكن في ذات يوم هي الراغبة في الظهور من خلال وسائل الإعلام. ورغم أن سلوكيات ديانا الخاصة كانت تتعارض مع قيم وعادات بعض المجتمعات، إلا أن الصورة العامة التي تم نقلها الى العالم عنها جعلتها بمثابة قديسة ضحت بحياتها في سبيل الآخرين، وكانت تقدم العون والمساعدة الى الجميع. ولعل أكثر المشاهد إثارة في هذا الحدث هو المشهد الأخير الذي صور أطنان الورد التي احاطت بقبر القديسة ديانا والتي ارسلها الآلاف من سائر أنحاء العالم. ج - الولاياتالمتحدة الاميركية: ولا يمكن أن تخلو هذه المسألة من بصمة تحمل آثار استوديوهات هوليوود وتقاليد السينما الاميركية. فها هو الرئيس بيل كلينتون يتعرض لما لم يتعرض له أي سياسي آخر على مر التاريخ. الرجل عاشق للنساء يسيل لعابه أمام أي امرأة مهما كان مستوى جمالها، وها هي شاشات المحطات الاميركية تعرض قصصاً وأحاديث حول صولات وجولات السيد الرئيس في عالم النساء، وتبلغ الدراما أقصاها عند تقديم قصته مع المتدربة السابقة في البيت الأبيض مونيكا لوينسكي حيث يتم عرض الوقائع والتفاصيل كافة، ثم يخرج الرئيس ليتحدث أمام الكاميرات معلناً اعتذاره عن اخطائه، وعما سببه من قلق نفسي لمونيكا ولأسرته، وتترقرق الدموع في عينيه وهو ينظر الى زوجته التي تقف الى جواره في تماسك يحسدها عليها نساء العالم ورجاله. ويتحول هذا الحدث المليء بكل وسائل الجذب الى حدث سياسي عالمي، حول مصير رئيس أقوى دولة في العالم، ولكن المخرج الخفي لهذه الدراما يأبى أن تنتهي نهاية غير سعيدة، فيحصل الرئيس على البراءة. د - الأردن: ثم تأتي جنازة العاهل الأردني الراحل جلالة الملك الحسين لنجد الإعلام الدولي يقدم توظيفاً درامياً مثيراً لهذه الجنازة، مستفيداً في ذلك من حُسن التنظيم الأردني الواضح، إلا أنك تلاحظ استخداماً واضحاً للأدوات الفنية الدرامية، فها هو حصان الملك الأبيض يظهر في الجنازة من دون فرسه وتركز الكاميرات على ملامح هذا الحصان مبرزة جوانب من الحزن تبدو على ملامحه، وها هي الكاميرات تركز على الرئيس الروسي يلتسين الذي أصر على المشاركة رغم مرضه الشديد، لتقدم صورة إنسانية مؤثرة، ثم مشاهد الدموع والحزن والانفعال الشديد للاسرة المالكة الاردنية وللشعب الاردني، والعدد الكبير من الرؤساء والملوك والأمراء المشاركين في الجنازة. هذا العرض الذي نقل على الهواء مباشرة كان في واقع الأمر يحمل العديد من الرسائل الإعلامية لكل من يهمه الأمر، وكل فسرها كما ادركها وفهمها. إلا أن الدلالة الخاصة بهذه الدراسة من هذا الحدث تتمثل في أن التوظيف الدرامي للأحداث السياسية والقضايا السياسية لا يقتصر على مكان أو دولة أو نوعية معينة من الأحداث، وإنما يشمل كل ما يمكن أن يحدث في أي مكان في العالم طالما رأى صانعو الإعلام أن هذا الحدث يصلح لأن يوظف درامياً لخدمة هدف سياسي معين. والخلاصة: أن هذه النماذج التي عرضنا جانباً منها ليست فريدة في عالم اليوم، وانما هي جزء من كل، والهدف من تقديمها هو إبراز كيفية استخدام أسلوب المعالجة الدرامية في تناول القضايا السياسية، لأننا عندما ندرك أبعاد هذا الأسلوب وقواعده فقد نستطيع تفسير بعض القضايا السياسية التي تعرض على الشاشة وعلى الهواء مباشرة. * كاتب مصري