منطق الحزب الواحد الذي يمنح ويمنع، المتكبر المهيمن، المنقذ والقائد، ولَّى الى غير رجعة في المغرب العربي كما في الغالبية الساحقة من بلاد الدنيا. لكن الديموقراطية تتقدم ببطء وبكثير من العثرات في المنطقة المغاربية لأن عقلية التفرد والوحدانية تسعى للعودة من نافذة التعددية بعدما أخرجت من الباب غداة الانعطافات السياسية التي شهدتها بلدان المنطقة في السنوات العشر الأخيرة. ليست التعددية اعلانات تثبت في الدساتير والنصوص القانونية بمقدار ما هي ممارسة يومية تقوم على فلسفة التعايش، أي القبول بوجود الآخرين والتنافس معهم في خدمة الصالح العام لافراز الأصلح الذي تختاره صناديق الاقتراع. والديموقراطية طبعاً أكبر من التعددية وأعمق تجاوباً مع خفقات المجتمع ولذلك فهي أصعب منالاً وتحقيقاً. وتدل التطورات الأخيرة في المغرب والجزائروتونس على وجود اتجاه لمجاراة رياح التغيير في العالم، لكن بكثير من التردد والتوجس. يندرج في هذا السياق تكليف أركان "الكتلة الديموقراطية" المعارضة السابقة تسيير حكومة التناوب التداول في المغرب منذ أكثر من سنة على رغم كونها لا تشكل الغالبية في غرفتي البرلمان، وكذلك الانتخابات الرئاسية المقبلة في الجزائر التي يتنافس خلالها سبعة مرشحين يعكسون المدرستين السياسيتين الرئيسيتين في البلد، الوطنية العلمانية والعربية الاسلامية، و"تنازل" التجمع الدستوري في تونس عن عشرين في المئة من مقاعد مجلس النواب المقبل لأحزاب المعارضة. الثابت ان الصيغة التقليدية للحكم تجاوزتها التطورات الدولية بعد انهيار جدار برلين وسقوط الأنظمة الشمولية في جميع القارات بدءاً من أوروبا الشرقية وانتهاء بأميركا اللاتينية. وبقدر ما كانت التحولات سريعة في مناطق أخرى، أتت التعددية في المغرب العربي بولادة قيصرية رافقتها آلام وتضحيات جسيمة، ففي الجزائر أعيد قطار الانتخابات الى السكة الطبيعية بعد ثماني سنوات من العنف الذي حصد عشرات الآلاف من الأبرياء، وفي موريتانيا يقبع زعيم المعارضة في السجن بدعوى كشف صفقة مع اسرائيل لدفن نفايات نووية في بلده، وفي المغرب أضاع البلد فرصة التداول في العام 1993 وفي تونس ما زال الاعلام أحادياً ولا يعكس خصوبة المجتمع. وكل تأخير في دفع المنطقة نحو الديموقراطية سيكون له ثمن وليس أكيداً أن الثمن زهيد، فإذا كان كل واقف في تأخر، فإن التردد أيضاً يؤدي الى الاحتقان وشعور فئات كثيرة بالغبن مما يهدد بهز الاستقرار واستبدال التحول السلمي ب "خضات" أقل هدوءاً. ولا يمكن فصل الصعوبات التي تعطل اجتراح التغيير الديموقراطي في المغرب العربي عن العراقيل التي تعيق بناء نظام اقليمي متكامل. فالخطوات الديموقراطية التي قطعتها البلدان المغاربية في الماضي القريب تزامنت مع تقدم المشروع الاقليمي مثلما أن انتكاس الاتحاد انعكس تراجعاً عاماً على صعيد البناء الديموقراطي. قد لا تكون ثمة رابطة مباشرة بين الظاهرتين، إلا أن قطع خطوات حاسمة في مجال بناء الديموقراطية سيخلق بالضرورة مناخاً مناسباً ومشجعاً على استئناف مسيرة التكامل الاقليمي ويزيل الشكوك والأحقاد المتبادلة.