ثمة عبارة مشهورة بالانكليزية هي "الفن يقلّد الحياة"، وهي عبارة يمكن ان تطبق على أي بلد سوى العراق، فهناك الحياة تقلد الفن، لذلك فقد أصبحت مأساوية كمواويل المغنين العراقيين. كنت قبل أيام في حفلة خاصة لصديق عراقي في مناسبة بلوغه الخمسين. ولم ينتصف الليل حتى وفد علينا أصدقاء عراقيون آخرون، بينهم صديق عزيز ناجح في عمله وزوجته تحبه، ومع ذلك فهو لم يرَ "الميكروفون" حتى كان ينتزعه من المغني العراقي ويصدح "معلّم على الصدعات قلبي". هذه لازمة اثيرة للغناء عند العراقيين، ومثلها: انا شسويت عاداني أي كي يعاقبني زماني. وأفضل مما سبق: أنا لو موت، لو يعمن عيوني. كيف يتمنى انسان لنفسه الموت أو العمى؟ يفعل إذا كان عراقياً منطرباً، ما يجعلني ارجو ألا أرى عراقيين يوماً في مجلس عزاء. على كل حال، المغني العراقي لم يخيب أمل الصديق الذي تعود قلبه على الصدعات، فهو رفع صوته بموال كله حزن وبكاء، بل فيه تابوت، قبل أن يقول "فوق النخل فوق..." وتصورت انه طلع النخلة ليلقي بنفسه منها وينتحر. وإذا اعتقد القارئ ان الحزن في الأغنية العراقية جديد، أو انه طرأ نتيجة للحصار والمعاناة، فهو مخطئ. في الستينات ظهر مغنٍ عراقي اسمه سلمان، اتخذ لنفسه اسماً فنياً هو "منكوب" وأحزن جيلاً عراقياً كاملاً بنوحه. الطرب العراقي لا يتحدث عن ربيع وزهور وغيد حسان، وانما يفضل المرض، وهكذا نسمع: - حار الطبيب بعلتي ودواي. - فراقهم بكّاني مثل الجل ماطلية بالضلع مثل مرض متمكن في الاضلاع. - سقيم وعلتي لقمان ملها. - الدهر قص عيناي... شل يسرتي التبين والمقصود هنا ان يديه مشلولتان، وربما لا يستطيع مسح دموعه. وحتى خارج المرض يظل جو النكبة مخيماً فتسمع غناء من نوع: - مظلوم مهموم خايب سايب يا قلبي، - معاديني زماني يمته أشوف الراح بمعنى الراحة، - خايب يا قلبي خايب، شكد متحمل مصايب، - زمان اللي عرفنا كان... عنود وسلط الحرمان. وما سبق يظل أهون من الذبح والموت في الطرب العراقي فقد سمعنا: - ان تروني مطربا، فالطير من ألم الذبح مضطربا. - ميت والمعزيات موش أمهاته... يتناوسن بسكوت يبجن شماتة... والمقصود في هذا البيت الأخير ان المغني ميت، والمعزيات به لسن من أهله، بل يتشفين به ويتغامزن سراً. هل هناك طرب بعد هذا الطرب؟ ربما كان من رحمة الله بالكويتيين ان العراقيين احتلوا بلدهم، ولكن لم يغنوا لهم. اعتقد ان هذا الطرب في "جينات" العراقيين المورثات بدأ قديماً، وسيستمر حتى لو رفع الحصار الاقتصادي غداً. قديماً كان العراقي لا يسافر، وإذا طلع الى سطح البيت لينام يحلف بغربته، ومع ذلك سمعنا الذي غنى: أحبتنا لقد طال التنائي وحالت بيننا بيد وبيدُ. وقد أدت السياسة الرشيدة للحكومة العراقية المظفرة، الى خراب البيت، فطار السطح مع الأثاث، وشُرِّد العراقيون فعلاً، فتبعت حياتهم الفن، وأصبحت المواويل تُعبّر عن واقع الحال. وهكذا أعود الى صاحب الموال الذي يسأل ماذا فعل ليعاقبه زمانه. ماذا فعل؟ هو غنى ونكّد عيشه وعيشنا، واستحق العقاب من دون ان يدري ما فعل.