يسعى الباحث المصري ثابت عيد في كتابه "الحيلة في التراث العربي" الى تناول مستويات ثلاثة في هذا الموضوع الشيق الذي سبق ان عرض له عدد من كبار الفقهاء والكتاب في العصور الاسلامية الغابرة، وان كان لم يحظ بالاهتمام الكبير في العصر الحديث. المستوى الأول يتعلق بمعنى "الحيلة" كما فهمها العلماء المسلمون القدامى، والمستوى الثاني يقدم مجموعة من الأمثلة التراثية عن طرق استخدام الحيلة في مجالات مختلفة، والمستوى الثالث كيفية توظيف "الحيلة" لتحقيق التقدم والابداع في الحياة الاسلامية المعاصرة ذات التعقيدات العويصة التي تشكل تحدياً مصيرياً للعقل المسلم. ويبدأ الباحث ثابت عيد كتابه بالقول: "ارتبط لفظ الحيل في التراث العربي بالفقه الاسلامي عامة، والحنفي منه خاصة. هذا على الرغم من أن الحيل لا تمثل الا جزءاً من الكل في الفقه الاسلامي. بل ان هذا الجزء متنازع عليه بين فقهاء المذاهب الأربعة، مختلف عليه بينهم، فقد أسسه صاحب المذهب العقلاني من فقهاء الاسلام، وسار العقلانيون من بعده على نهجه، واتبعوا طريقته، وسارع أصحاب المذاهب الأخرى بذم الحيل، وتحريم استعمالها". وما يلفت النظر هنا ان الفهم الاسلامي للحيل تراجع في العصور اللاحقة ليقتصر على الجوانب الفقهية، علماً بأن "لفظ الحيل كان يطلق قديماً على علم مستقل بذاته يعادل في عصرنا هذا علم الهندسة الميكانيكية والتجهيزات الهيدروليكية". وينقل المؤلف عن الخوارزمي قوله ان علم الحيل ينقسم الى فرعين: الأول جر الأثقال بالقوة اليسيرة، والثاني حيل حركات الماء وصنعه الاواني العجيبة وما يتصل بها من صنعة الآلات المتحركة بذاتها. وإذا تجاوزنا مستوى المرويات التراثية التي يوردها الباحث ثابت عيد عن قصص الحيل وطرائفها في التاريخ الاسلامي القديم، فاننا نبقى أمام هدفين أساسيين نسعى اليهما هما: تنقية مفهوم الحيل مما علق به من شوائب على مدى العصور، وإعادة ترسيخ ضرورة استخدام الحيل بوصفها جهداً عقلياً لمعالجة أوضاعنا الراهنة. يقول: "ان دافعي الأول لكتابة هذه السطور هو الحث على استخدام الحيلة، وإعمال الفكر، سواء على المستوى الشخصي أو المستوى الحكومي في عالمنا العربي. وذلك لايجاد حلول لما نواجهه اليوم من مشاكل عضال، وتحديات جسام. فالاطلاع على كتب الحيل في التراث العربي قد يلهمنا حلولاً لمشاكلنا، ويعيننا على الخروج من أزماتنا". والمؤلف يعتمد لتحقيق ذلك على حقيقة ان المقصود من لفظ الحيل في هذا السياق هو إعمال الفكر وتشغيل العقل واستخدام الحكمة للخروج من مأزق وقعنا فيه أو لحل مشكلة تواجهنا. فالحيل اذن لا تقتصر على الفقه الاسلامي فحسب، بل هي علم قائم بذاته يدخل في نطاق الهندسة الميكانيكية والتحكم الآلي. وفضلاً عن ذلك اشتهر العرب قديماً بحيلهم في السياسة والطب. ويقول: "ولا يقتصر مجال الحيلة على الفقه والهندسة والسياسة والطب فحسب، بل يمتد ليشمل جميع المعارف وكل الصنائع". ومن التعريفات التي يشهدد عليها عيد ما يقوله صاحب كتاب "السياسة والحيلة عند العرب" حققه قبل سنوات رينه خوام من أن الحيلة هي "ثمرة العقل ومستخرجة بقوانينه... وهي أكثر الوسائل حذقاً ومهارة للوصول الى الأهداف والغايات". اما المحقق خوام فيقول في مقدمته لذلك الكتاب المجهول المؤلف: "وكلمة حيلة لا تعني كما يتبادر الى الذهن انها تنكب طرق الكذب والنفاق لخداع خصم ما، بل على العكس من ذلك، لأن كلمة حيلة في معناها الأصلي تدل على توفير الجهد والمشاق على الانسان، وهذا يرتكز الى قواعد علمية تكون بمتناول مخترع حاذق، وعالم عامل". ونكتشف مع الباحث ثابت عيد في فصلين عن الحيل الهندسية والحيل الطبية الانجازات المهمة التي حققها العلماء المسلمون في القرون الأولى للهجرة، وتُوجت في سلسلة من الكتب المهمة التي ما زال القسم الأكبر منها غير محقق. "فنحن لم نعر هذا التراث ربع ما أعرنا تراثنا الأدبي والديني من الاهتمام، على الرغم من أن هذا التراث العلمي للعرب لا يقل أهمية عن تراثهم الأدبي والديني، فضلاً على تأثيرة الجلي على علماء الغرب في مجال التكنولوجيا والطب والهندسة". وأول كتاب عن علم الحيل وضع في القرن الثالث للهجرة من تأليف بنى موسى، وقال فيه ابن خلكان: ولهم في الحيل كتاب عجيب نادر يشتمل على كل غريبة. وقد وقفت عليه، فوجدته من أحسن الكتب وأمتعها". أما على الصعيد الطبي فقد فرّق الأطباء المسلمون بين الحيل الطبية النافعة من جهة، وخداع المحتالين الذين يشعوذون باسم الطب من جهة ثانية. والأمثلة عن الحيل النافعة كثيرة ومتشعبة في التراث العربي الاسلامي، وقد أورد المؤلف العشرات منها ومعظمها معروف ومشهور في الأدبيات التراثية. ويختتم الباحث عيد دراسته بالقول: "ان استخراج الحيلة يحتاج الى عقل متفتح بعيد عن التزمت، لا يقف عند ظاهر النصوص وحروفها، بل يتعدى ذلك الى المعاني المقصودة والمقاصد المنشودة. أصحاب الحيلة هم، باختصار، أصحاب العقل وأهل العلم. وأعداء الحيلة هم أهل الجهل وأصحاب الجمود". والأمثلة المتنوعة في الكتاب تؤكد هذا الموقف الجذري وكيفية التعاطي معه في عصور الازدهار الاسلامي. * "الحيلة في التراث العربي"، ثابت عيد. مكتبة وهبة - القاهرة 1998.