لا يعرف قيمة "الثوب" إلا من يُكابد غيره. ولقد لمستُ وشاهدت - ككثيرين غيري - معاناة أجسادنا مع الأرْدية و "الثياب" الأخرى. رأيت أقواما "يخرجون" من "ثيابهم" الرحبة الفضفاضة، ويحشرون أنفسهم حشرا في "الأوعية" المحزومة... الضيقة. فكأنما كانوا يخرجون من فضاء فسيح إلى نفق ضيق. ولا يمكن أن أنسى معاناة رفيق لي - في أحد أسفاري- كان يمتلك جسداً ممتلئاً حتى ليكاد يهرق نفسه على ما حوله. وكان - بقامته القصيرة - يبدو ككرة... مربعة. ولم تكن "النتوءات" والانتفاخات - التي ازدحم بها جسده - لتلفت نظر الآخرين تحت ثيابه الفسيحة. ثم رأيته وهو يخرج من ثوبه الفضفاض ويحشُرُ شَحْمَه ولَحمَه في البنطلون والقميص. وعلى رغم أن القميص كان واسعاً كنصف "دشداشة" خليجية، و "البنطلون" كان "عائما" ك "سروال" فلاح تركي، الا ان ذلك الاتساع النسبي بدا وكأنه يضيق ذرعاً بذلك "الكوم" الجسدي. كان منظره وهو يئز ويئن داخل الوثاق الضيق يثيرالاشفاق والضحك معاً... وشر البلية ما يضحك. لم يكن صاحبنا حالة شاذة ، فكلنا- أو معظمنا- ذلك الرجل. كثير منا واجه معضلة "الخروج" من "الثوب" الى البنطلون والقميص، وأكثرنا ظهرت له "كرش" صغيرة أو متوسطة أو كبيرة، على غفلة منه أو عن سبق اصرار... وتصميم. فنحن ننهمك في إلتهام الكبسة.. واللحوم في استغراق صُوفي لا نفيق منه الا عندما نشد الحزام. ونذوب هياماً في "الكنافة" و "زنود الست" و "عيش السرايا" و"الحيسة" و "الحنيني" . ولا نصحو الا على احتجاج "مُقَّدماتنا" المتمردة على سياج الملابس الغربية وقيودها. وحين يزاح عن "كروشنا" الستار وتبرز "مواهبنا" على الملأ، تشعر بأن أجسادنا قد خانتنا، وأن مؤامرة ماكرة كانت تدبر في الخفاء ضد رشاقتنا وتناسقنا الجسدي. ولا أريد أن يكون حديثي عن "الثوب" كما لو كانت ميزته الوحيدة أنه يستر عوراتنا الشحمية ويساعدنا في الاستمرار في عاداتنا الغذائية السمينة . فالرشقاء من الناس يمكنهم- أيضاً- أن يعتزوا بثوبهم الوطني ويتمسكوا به حتى لو كان لا يستر لهم "كرشا" أو يخفي لهم "مُقدمة". وقليل من الاردية الوطنية يتوافر له من المزايا ما يتوافر ل "ثوبنا". ف "اللون" - غالباً - ناصع... بهيج. و "التفصيل" - على الاعم... واسع، رحب. ويستوعب "ثوبنا" حرارة الطقس من حولنا حين يسمح بعبور التيار من منافذه المتعددة وفي اتجاهاته المختلفة، فتبترد لذلك أجسادنا المتفصدة عرقاً. ولا يتطلب الثوب - و"توابعه" - أن نشد عليه بحزام من الوسط، ولا يحتاج أن نربط من أجله حبالاً مزركشة حول أعناقنا. والذين يرتدون الثياب، لا يقضون وقتاً طويلاً أمام خزانات ملابسهم لانتقاء التناسق المناسب بين لون القميص وربط العنق وموديل "البدلة". وليس هناك ثوب للسهرة وثوب للنهار، وثوب لحضور سباق الخيل، وثوب لحضور حفل رسمي ، وثوب للتسوق. هناك فقط نوع واحد من الثياب تذهب به الى عملك، وتحضر به مناسباتك الرسمية، وتتزوج فيه، وتتسوق به في حراج "عتيًقة"، أو أفخم "سوبر ماركت". وهذه الميزة الاخيرة للثوب تتضمن إحدى أهم المزايا الحضارية ل "الثوب". فالثوب رداء "ديموقراطي" من الدرجة الاولى. وفيما عدا اختلافات طفيفة، يلفع ثوبنا البسيط جميع الاجساد بصرف النظر عن الثروة.. والمنصب والمكانة الاجتماعية. نحن، خلف ثيابنا على الاقل، نبدو أشخاصاً متماثلين متشابهين. فالرداء الرحيب ينسدل علينا، فيواري كثيراً من "نتوءاتنا" و"بروزاتنا" الاجتماعية والمالية التي قد تحفز البعض الى التطاول بها على البعض الآخر. وأذكر أنني قرأت مقالاً كتبه أحد رجال الاعمال الغربيين عن زيارته الاولى الى السعودية. كان يقول أن الصعوبة الكبرى التي كانت تواجهه في صالات الفنادق وأروقة المصالح الحكومية هي التمييز بين الرجل المهم والرجل الاقل أهمية، لأن الجميع كانوا يبدون له متشابهين في ثيابهم. ويذكر أنه أخطأ مرة فخاطب سائق الوزير ب "صاحب المعالي" وتجاهل الوزير الذي كان يقف الى جانبه. ان "ديموقراطية" الثوب الوطني هي أحد موروثات بساطة الصحراء وبراءتها عندما تُضفي على أبنائها ثيابا يتمّيزون بها، لكنّهم لا يتمايزون فيها. لقد حاول بعضهم أن يتآمر على "ديموقراطية" الثوب وبراءته. واجتهدت بعض طلائع "الموضات" المستوردة لكي تعوج لسان الثوب العربي الفصيح فتجعله يتحدث بلكنة أعجمية... ركيكة. حاولوا أن يضيقوا وسطه حتى تَغنُج فيه بعض الاجساد المائعة مستعرضة خصورها... ورشاقتها. وأطالوا "رقبته" وعدوا "ازاريره" الى درجة الاختناق... حتى تتطلب في قالبه بعض الرقاب النافرة. وشق له بعضهم شقاً عند أطرافه... حتى يبدو كفستان سهرة باريسي. واستورد له البعض أقمشة ملونة لامعة. وطرّز له آخرون خيوطاً ذهبية وفضية وحريرية. لكن "ثوبنا" المناضل صمد وقاوم، وتكسرت هذه "الموجات" على صخوره الصلبة. وبقي "الثوب" ناصعاً... رحباً... بسيطاً... و"ديموقراطياً". على رغم أنف "الافرازات" المستورة، ورغم أنف "الموضات" المهاجرة، ورغم انف النزعة الى التفاخر والتمايز... الموروثة في النفس الانسانية. ليحفظ الله لنا "ثوبنا"... نداري به من سوءاتنا ما نَسَجَتْهُ أضراسُنا... وما لم تَنْسُج.