بعد ستة وأربعين عاماً من الحكم في الأردن غادر المرحوم الملك حسين بن طلال هذه الدنيا، لم يغادر في صمت وسرعة، ولكن فترة مرضه وكذلك مراسم دفنه قد استطالتا، ووفدت من الاركان الأربعة للعالم وفود شتى للتعزية في وفاته الأليمة وكان من بين المعزين الشيخ عيسى بن سلمان أمير البحرين، الذي وقف في طابور طويل من المعزين - عل رغم قلبه المرهق - ليقدم واجب العزاء. وبعد أقل من أربعة اسابيع على وفاة الملك حسين وثمانية وثلاثين عاماً من الحكم في البحرين توفي الشيخ عيسى بن سلمان نفسه، فتدفقت الى البحرين وفود عديدة للقيام بواجب التعزية. لم تكن وفاة الملك حسين مفاجئة، كما ان مراسم عزائه قد وضعت بدقة من يعرف ان العالم يضع عيونه جميعاً على شاشات التلفزيون ليرقبها، اما وفاة الشيخ عيسى فكانت اشبه بقدر عفوي، كما ان مراسم الدفن كانت سريعة وغير رسمية، مثلما مارس حياته، بعيدة عن البروتوكول. كان أول القادمين للتعزية من رؤساء الدول الى البحرين امير الكويت الشيخ جابر الأحمد الذي مثل العلاقة التاريخية بين البلدين بهذا الوجود المتعجل وقبل ان يجف الماء على قبر الراحل، كما قطع ولي العهد رئيس مجلس الوزراء الكويتي الشيخ سعد العبدالله السالم الصباح جولته الرسمية لكل من جمهورية ايران الاسلامية وسورية ولبنان ومصر عائداً من مطار طهران ليترأس وفداً عالي المستوى لتقديم العزاء للبحرين. وهذا ما فعله بعد ذلك رؤساء دول وحكومات ووزراء وأعيان ورجال بسطاء هزّهم الحدث، كلهم الا القلة لم يشهدوا الجنازة او الدفن، لأن اهل الفقيد ينتمون الى تراث قديم وانساني، يؤكد ان "إكرام الميت سرعة دفنه". فوجئ الجميع بحشد شعبي ضخم يقود الشيخ البشوش الى مثواه الاخير من دون بهرجة ولا موسيقى الا اصوات النحيب بعد ساعات قليلة فقط من رحيله. ومثلما كانت الجنازة بسيطة كان القبر بسيطاً ولكن مغزى هذه البساطة كان عظيماً. كنت ضمن وفد شعبي كويتي قصد مدينة الرفاع مقر الحاكم في وسط جزيرة البحرين لتقديم واجب العزاء، وفي ذلك الديوان المتواضع الذي شهد معظم سني حكم الراحل ومئات الآلاف من المترددين عليه، شددت على يدي ابنه البكر امير البحرين الجديد معزياً، وكنت منذ الوهلة الأولى قد لاحظت ان الخصال الايجابية للراحل متأصلة وممثلة في الابن والوريث. وبعد الجلوس التفت اليّ وزير الخارجية الصديق الشيخ محمد بن مبارك آل خليفة فقال مفسراً هذا الحشد الكبير الذي امّ مكان العزاء من الداخل ومن الخارج الذي فجع بوفاة الشيخ عيسى ولم ينقطع ونحن في اليوم الخامس، قال ان كل ذلك تفسره مواقف الفقيد فهو "احب الناس فأحبوه". ظاهرة بكاء الجماهير لقائدها هي ظاهرة لا تتكرر للجميع، إذ يذهب هذا القائد او ذاك من دون ان تتعاطف الجماهير على المستويات كافة وبهذا العمق حزناً على ذهابه، ولكن ما حدث لكلا الرجلين الحسين بن طلال وعيسى بن سلمان يعني انهما اعطيا الكثير لشعبيهما ولأمتهما، هذا الكثير الذي اعطياه غير المحسوس بالمادة ولكنه الملموس بالقلب. جلت في البحرين لساعات، فوجدت ان هذا التعاطف العفوي والجماهيري الكبير على الراحل غير مقصور على فئة او جنس، فقد فتحت "الحسينيات" - التي تقام فيها مآتم الشيعة - ابوابها لتلقي العزاء في الفقيد مثلها مثل كل المساجد ومنازل كبار القوم، وهي ظاهرة قل ان توجد، لأن هذه الاماكن عادة تفتح لتلقي العزاء للراحلين من ابناء الطائفة او لإقامة المواسم الدينية المعروفة. هذه الظاهرة تستحق ان توصف، وهي تعبير لا جدال فيه عن الوحدة الوطنية التي عادة ما تتجلى وقت المصائب الكبيرة، والأزمات، كما انها تعبير عن ان الراحل الكبير كان أول المهتمين بكل طوائف شعبه، تغيرت اجتهاداتهم في الحياة او تشابهت، وهو رد عفوي ومباشر على كل ما قيل حول الفرقة بين مذهبي أهل الجزيرة. آخرون من فئات الشعب في البحرين لم يستطيعوا الوصول لأبناء الفقيد وأهله لتقديم واجب العزاء، بينهم العديد من الرجال المعروفين، وذلك لسببين: الأول شدة ازدحام المعزين، والثاني تدفق الوفود من الخارج الذين اعطوا اولوية للعزاء، فاكتفى الكثيرون منهم بعد سماع النبأ بالتدفق حول المقبرة في مدينة الرفاع - مقر الأمير - لإلقاء نظرة الوداع ولو من بعيد. النساء ساهمن بدورهن في ابداء الحزن على الراحل الكبير بطريقتهن الخاصة وهي التدفق على المقبرة حيث دفن لإبداء شعورهن ولفترات طويلة، بأنه فقد الأبناء للأب الراعي العطوف. لا انسى صورة احداهن وهي تقول باكية: "وجوده كان يشعرنا بالأمان. لقد كنت احبه من دون ان ادري وعندما رحل ادركت انني افتقد فيه أبي". بعدما سلّم الوفد الشعبي الكويتي على الأمير الجديد الشيخ حمد بن عيسى لاحظت انه سار سيرة ابيه في الحفاوة بالزائرين، وفي كسر البروتوكول وفي اظهار مودته، فقد مشى مع الجميع الى باب ديوانه الخارجي شاكراً ومسلماً. فترة حكم الراحل الشيخ عيسى بن سلمان لا تدانيها في طولها فترة اخرى في تاريخ البحرين الحديث غير فترة سميه الأسبق عيسى بن علي طيب الله ثراه، فقد حكم ما يناهز خمسين من السنين من الثلث الاخير في القرن الماضي الى الثلث الأول من هذا القرن. ولم تمر هذه الفترة في سلام، خصوصاً في آخرها حين بدأ النفوذ البريطاني يشتد في التدخل في شؤون الخليج بحثاً عن موطئ قدم في المياه الدافئة يؤمن الوجود البريطاني في الهند وكذلك يؤمن امدادات النفط. وقد قاوم عيسى بن علي آنذاك، كما يقاوم الرجال، هذا المد الاستعماري العاتي الذي غمر معظم بقاع العالم. ومن الخير البيّن ان فترة عيسى بن سلمان الراحل قد شهدت انحسار النفوذ البريطاني ثم خروجه وبناء الدولة الحديثة بكل تبعاتها وظهور الدولة بمؤسساتها، كما شهدت فترة حكمه خروج البحرين الى العالم الفسيح بمشكلاته وتحدياته. لقد شهدت فترة نهاية الستينات وبداية السبعينات تخلص البحرين من الهم المقيم وهو الادعاء الذي ظلت ايران تردده على مدى سنوات طويلة من حقها في دولة البحرين. وقد حسمت هذا الامر ارادة شعبية حازمة اختارت ان يكون حكمها مستقلاً ووجهها عربياً، وتمت الموافقة على هذا الاستقلال الناجز عالمياً وليس محلياً وعربياً فقط، وقيام الدولة الحديثة بكل تبعاتها الدستورية والقانونية، كما تم بناء الاقتصاد الحديث وتطوير التعليم وبناء قوة عسكرية. وفي الثمانينات التحقت البحرين بجيرانها في الخليج في منظومة مجلس التعاون، الذي استضافته اكثر من مرة وكانت فاعلة فيه وكانوا من اوائل الذين طرحوا فكرة برلمان خليجي. الا ان التحديات القادمة ليست هي بأقل مما واجه الآباء، فالجيل الجديد الذي يتسنم الحكم اليوم في البحرين، تتلخص فيه معادلة شباب السلطة وسلطة الشباب، ولا بد من القول ان المدرسة السياسية مستمرة لأن المساهم الأول فيها كان ولا يزال عضيد عيسى بن سلمان، اخاه الشيخ خليفة الذي يحظى باحترام وتقدير لمجهوده الدائم في المشاركة في تسيير دفة الحكم كل هذه السنوات الطويلة بما فيها من فترات حلوة ومرة. لعل الاجندة السياسية الداخلية التي تواجه الحكم الجديد تتلخص في قضيتين هما: الاستقرار والتنمية. ومن المفارقات انهما متشابكتان تشابك العضد بالمعصم، فلا احتمال وجود لتنمية من دون استقرار، ولا استقرار طويل المدى من دون تنمية حقيقية. معادلة بسيطة في ظاهرها ولكنها معقدة في منهجها، فمن جهة دول الخليج جميعاً - والبحرين ليست استثناء - تواجه مرحلة من انحسار الدخل الوطني بسبب تراجع اسعار النفط عالمياً، كما تواجه ايضاً آثار الازمة الاقتصادية والدولية، وهذا يترك تبعات كبيرة في اعادة هيكلة الاقتصاد والتي تحتاج الى مجموعة من القرارات التي قد تكون صعبة ان لم تفسر للناس لتدرك مدى اهميتها وان الامر لم يعد يحتمل المزيد من المسكنات. ففي الوقت الذي تتصاعد فيه نسبة زيادة السكان في كل الاقليم الخليجي تضرب البحرين المثل الأعلى ليس في الزيادة فقط ولكن في نسبة الشباب من السكان. والذي يضاعف من حدة هذا الامر ان هذه الزيادة تحتاج الى سنوات من التعليم والرعاية قبل ان تقف بعد ذلك في طابور طويل بحثاً عن الوظائف، التي بدورها تحتاج الى نوع آخر من التدريب. انه عصر جديد يحتاج الى رؤية جديدة. فقد تضاعف في الثلث الاخير من القرن العشرين عدد الدول التي تأخذ بمبدأ الديموقراطية، والشورى. وفي التسعينات تصاعد المد الى اقصى درجاته في البلدان التي كانت تحت الحكم الشيوعي لتتخلص من انظمتها الشمولية وتعلن ان افتقاد الحرية لا يعوضه امن زائف او خبز جاف. ويعتقد بعض المراقبين ان العالم يمر بثورتين متلازمتين: الأولى هي الثورة الاعلامية والثانية هي الثورة الديموقراطية. وبالتأكيد فإن السنوات الأولى من القرن الواحد والعشرين سوف تشهد امتداداً واسعاً لذلك التيار الاخير. في ضوء الواقع الاقتصادي والاجتماعي فإن توسيع القاعدة الشورية عملية مطلوبة وحصيفة في آن واحد لتجنب شرور كثيرة منها اللعب غير المنضبط على مصالح الوطن لقوى التعصب والارهاب، والتي قد تستفيد من سلبيات الممارسة للعبث بالاستقرار. معادلة كما قلت ليست سهلة ان اضفنا اليها المصاعب الخارجية، ليس اقلها خليج مضطرب يتقاذفه الكثير من المصالح والأهواء، ليست اقلها خلافات الاخوة. انا ما رأيته في البحرين من فورة شبابية رغم طابع الحزن الذي كان يسود الجزيرة يجعلني اوقن انهم يفهمون كثيراً من معادلات المستقبل الصعبة وانهم على استعداد لمواجهتها بفكر جديد ومفتوح، ولعل هذا ما دعا أمير البحرين الشيخ حمد بن عيسى في خطابه الأول الى ان يهيب بجبل الابناء وشباب البحرين ليأخذ دوره ويتهيأ لمسؤولياتها كل في موقعه. ولعل اعلان حالة التأهب هذه هي افضل بيان لمواجهة المستقبل. * كاتب كويتي.