ادت الاحداث الاخيرة داخل المنطقة الخاضعة للاحتلال العسكري الاسرائيلي في جنوبلبنان الى تحويل حدود اسرائيل مع لبنان الى قضية انتخابية رئيسية فيما يشتد التنافس مع اقتراب موعد الانتخابات الاسرائيلية في 17 ايار مايو المقبل. ويصطدم اولئك الصهيونيون الذين لا يزالون مقتنعين بأن اسرائيل ماهرة في الاستراتيجية، ويؤمنون بأن جيشها لا يُبارى بفضل تفوقه التقني، بأدلة محيّرة ومقنعة تثبت العكس. فمع عجز اسرائيل عن قهر "حزب الله" وعدم استعدادها للخروج من لبنان، اصبحت سياستها تعاني تخبطاً كاملاً. واصبح وجودها واداؤها في جنوبلبنان يجسّدان انعداماً لا يصدق للكفاءة السياسية وكارثة عسكرية متفاقمة. في 23 شباط فبراير الماضي، قُتل رائد وملازمان من وحدات النخبة في لواء المظليين واصيب خمسة جنود اخرون بجروح في مواجهة مسلحة شمال ما يسمى ب "الحزام الامني". وحسب تقرير نشرته صحيفة "جيروزاليم بوست" في 5 اذار مارس الجاري، "لم يلحق، حسب ما يبدو، اي أذى بمقاتلي "حزب الله" الذين عرضوا في وقت لاحق اسلحة وغنائم اخرى ملطخة بالدم. وكانت المواجهة المكلفة اول مرة يُقتل فيها جنود في اشتباك مسلح مع مقاتلي "حزب الله" منذ اكثر من سنة". واطلعتُ على تقارير متضاربة عن الحادث، لكن يبدو ان عنصر المباغتة كان لمصلحة مقاتلي "حزب الله" الذين ابدوا مستوى من الانضباط جعلهم يحجمون عن اطلاق النار حتى اللحظة المناسبة. وفي 28 شباط فبراير الماضي، مُنيت اسرائيل بنكسة اخرى عندما قتل الجنرال إيرز غيرشتاين، قائد وحدة الارتباط مع "جيش لبنانالجنوبي"، وجنديان ومراسل حربي معروف اثر وقوعهم في مكمن. وكان الجنرال يتنقل داخل المنطقة المحتلة في سيارة مصفحة من طراز "مرسيدس" دُمّرت في الهجوم. وكان اكبر ضابط اسرائيلي يُقتل في لبنان منذ 1982. ولا بد ان القدرة الاستخبارية الواضحة ل "حزب الله" تثير قلقاً كبيراً لدى الجيش الاسرائيلي. واعقبت النجاح الملفت لهاتين العمليتين مبادرة سياسية ساذجة، بل حمقاء، اطلقها ارييل شارون وزير الخارجية الاسرائيلي المثير للجدل. إذ دعا رئىس الوزراء بنيامين نتانياهو الى تأجيل الانتخابات وتشكيل حكومة طوارىء وسحب القوات الاسرائيلية من لبنان. وكان شارون لوّح من قبل بفكرة انسحاب من طرف واحد وتعرض الى التوبيخ من قبل رئيس الوزراء. ولم يكن هناك ما يدفع الى الاعتقاد بأن نتانياهو سيكون مستعداً لتغيير موقفه خلال الحملة الانتخابية في وقت يقدم فيه نفسه كزعيم قوي لبلد قوي. ويصح هذا بشكل خاص بعدما اعلن خصمه إيهود باراك، زعيم حزب العمل المعارض، ان القوات الاسرائيلية ستترك لبنان في غضون سنة من انتخابه رئيساً للوزراء. وبدا ان شارون نسي ايضاً ان الدعوة الى الانتخابات جاءت بعدما خسر نتانياهو الدعم السياسي في الكنيست. منذ ان بدأت هجمات "حزب الله" قبل ما يزيد على عقد من السنين، قُتل 1539 جندياً اسرائيلياً في لبنان - 162 منهم قتلوا خلال وجود نتانياهو في الحكم. واذا كانت اسرائيل لم تلق صعوبة في غزو لبنان، ولا تزال مهاجمة لبنان بالطائرات والمدفعية شيئاً سهلاً، فان الاحتفاظ بسيطرتها على اراضٍ لبنانية يكلف ثمناً باهظاً لا يُحتمل. ليس من الصعب تحديد ما ينبغي لاسرائىل ان تقوم به الآن، مثلما يمكن الجزم بلا تردد ان اسرائيل لن تُقدم على مثل هذه الخطوات الواضحة. اولاً، يجب ان يكون هناك اعتراف كامل بان اسرائيل خسرت المعركة في المنطقة المحتلة من لبنان، وان مقاتلي "حزب الله" ال 600 الذين يتمتعون بخبرة كبيرة وتسليح جيد سيصبحون أقوى واكثر جرأة على السواء. ثانياً، كانت المشورة التي يقدمها كبار جنرالات اسرائيل حتى الآن هي ان البقاء في لبنان خيار صعب لكن الخيارات الاخرى اسوأ. هذه المشورة خاطئة ويجب ان تُرفض. ثالثاً، ينبغي ادراك ان الجيش اللبناني هو الآن قوة وطنية متعددة الانتماءات المذهبية قادرة على حماية حدود لبنان مع اسرائيل. واعلن "حزب الله" مراراً وتكراراً ان مهمته هي إخراج القوة المحتلة من لبنان والامتناع عن شن هجمات على اسرائيل. كما ان الارجح ان تلعب قوات من خارج الشرق الاوسط، اميركية او اوروبية او تابعة للامم المتحدة، دوراً في تحقيق السلام في هذه المنطقة. رابعاً، من البديهي ان عدم تبادل كلمة واحدة مع السوريين هو موقف اخرق. ولا يمكن لسورية، بالطبع، ان تنسى انها اقتربت لدرجة مدهشة من التوصل الى اتفاق مع الحكومة السابقة في اسرائيل، وهي لا تريد ان تبدأ مرة اخرى من نقطة الصفر. فالحكومات تتحمل المسؤولية، في الشؤون الدولية، عما وافق عليه اسلافها. فاذا لم يكن الحال هكذا، لن تكون هناك أي جدوى من التفاوض والتوقيع على اتفاق دولي. ان ما شاهده العالم في جنوبلبنان هو زعيم ضعيف لا يريد ان يواجه الحقائق، وليس مستعداً لأن يضع اسرائىل على مسار يبشّر بوضع حد للموت والدمار. * سياسي بريطاني، نائب سابق من المحافظين.