1- اعتزال الجرأة ان ننبش تاريخاً ضبابياً انحسر في ظاهره، قد يعرّي البعض منا ويضعه امام شريط من الصور القديمة ليتذكر أعواد الدخان والرصاصات المجنونة والمؤامرات والجلجلة اللبنانية، ليس هذا الموضوع صرختنا ولا الهدف. عقدة مسرحيتنا هي الجرأة. فالجرأة اليوم اصبحت غير مألوفة، ضيعها سلاح الماضي القريب، وبعثرتها دولارات أو بالاحرى ليرات "دولارية". اصبحت قطعة أثرية يتأملها الناس تأملاً عابراً بارداً، ينظرون اليها من وراء الزجاج وتحت حماية فائقة، مع عبارات منبهة "ممنوع التصوير" أو "ممنوع التقليد" أو حتى "ممنوع التطبيق" وما شابه من عبارات تبدأ "بالممنوع..." وتنتهي بكلمات نتمنى لو تصبح في "المسموح"، ويتصورن هذا كله ديموقراطية كي لا يقولوا انها دكتاتورية "تدمقرط". نتكلم ونكتب لانه اذا صمت قلم كل واحد منا لتحوّل الى بندقية زادت تمزيقاً في الناس انفسهم. فتصير الكلمة سلاحاً ولا يتحول السلاح الى كلمة. ولمن يقولون ان عهد البنادق ولّى، فما أسهل من تنكّر البنادق بأشكال عديدة لها نفس الفعل. نخاف ان نقول "رزق الله على الجرأة" وكأننا نقول "رزق الله على الشروال والطربوش". نكتب لتكون تلك الكلمة إن وضعها الناس تُنشر وإن ردودها تُسمع، وإن حملوها تُنقل وإن سمعوها تُحفظ... علينا الا نشرب كأس الغيبوبة حتى الثمالة فتضيع الجرأة. ان نطلق نداء الى "اصحاب المتاحف" ليطلقوا "الجرأة" الى الناس ليس كافياً. وان نحث انفسنا لكسر الزجاج والتقاط الجرأة هنا يكمن الهدف. حذار ان تسكت الكلمة ونسكت نحن عنها، عندها يبقى الصليب بلا حامل وتبقى القيامة في ليل عميق يتوق الى فجرٍ وحاملات طيب ودحرجة حجر. 2- وداعاً أيها العم الطيب قبل أيام قليلة كان بإمكانك اذا سألت طالباً في السنة الاولى في كلية الاعلام عن "عمو كميل" لحصلت على أجوبة ربما غير كافية. اما اذا صودف وسألت طالباً في السنة الرابعة حتماً عندها سيخبرك الكثير الكثير عن انسان يعرفه الجميع لكن بدرجات متفاوتة. ويلقون عليه كل يوم تحية الصباح كل على طريقته. اما هو فيبتسم لهم على طريقته ويحدثهم بكلمات قليلة بقدر ما كان يعرفهم. أو قل بقدر ما عايش ايامهم وسنيهم فرِحاً لفرحهم بالنجاح، معزياً لحزنهم بالفشل. ومواكباً لهم مسيرة الاربع سنوات تلك بكل تفاصيلها وكأني به أباً لهؤلاء جميعاً. أو صديقاً ولو عن بعد خاصة لمن رافق يومياتهم على مدى سنوات. فعادة تبدأ العلاقة مع "العم كميل" بكلمات قليلة منذ اللحظات الاولى لانتسابك لهذه الكلية لتنضج رويداً رويداً مع كل سؤال عن عطلة أو موعد امتحان أو ما شابه. مع كل نظرة فاحصة منه، أو وقفة قصيرة منك معه متكلماً تارة أو صامتاً تارةً اخرى. لكنك سرعان ما ترغب في هذه اللحظات يومياً. لتعتاد بعد حين وقبل خطوات المغادرة ان تودعه بكلمات الشكر والعافية على ان تلقاه في اليوم التالي. ولكل يوم رفاق درب، زملاء اساتذة، لحظات خاصة واحداث وفي كل يوم هناك غائبون أو مغيبون على الأقل عنك. لكن هناك ايضاً العم الكميل ينتظر الحاضرين والغائبين بروح واحدة. حتى في الايام الصعبة ايام الامتحانات وثقلها. تراه ايضاً هناك يشجع هذا ويقوي ذاك ويتمنى للجميع التوفيق والنجاح اما الطلاب فغالباً ما يرددون على مسامعه "صليلنا يا عمو كميل فصلاتك مستجابة". منذ ايام قليلة غادر "عمو كميل" لكن قبل ان نودعه ببضع كلمات اخيرة مصلية. وقف قلبه المحب هكذا على غفلة. ولوقتٍ طويل سيترك فراغاً ليس فقط على مدخل الجامعة، وفي أروقتها لكن الأهم في اليوميات والمشاعر والقلوب. وداعاً أيها العم الطيب ولتسترح نفسك الطاهرة في أحضان الله فغداً يوم آخر جديد، أمكنته، لحظاته والاشخاص تتسارع في غمرة الحياة لكنها حتماً ستفتقدك لأيام كثيرة. بيروت - جورج الحوراني