"كلا لا أستطيع القدوم. سأمضي عطلة نهاية الأسبوع هذه المرة في بيتنا الجبلي بعيداً عن عجقة المدينة وضجة الناس"، هكذا اعتذرت منه وأقفلت الخط مسرعاً لأجهّز نفسي وأستعد للانطلاق. فالرحلة الى ضيعتنا الجبلية طويلة وشاقة خاصةً في أيام الشتاء الماطرة. لكني لم أشعر بهذا أبداً ربما لأني أزورها للمرة الأولى منذ أكثر من سنتين. في تلك الضيعة وُلد وعاش أبي قبل أن ينتقل الى احدى البلدات الأكثر ازدهاراً في ذلك الوقت. وفي تلك الضيعة كانت لي ذكريات وصور. ذكريات بدأتُ أستعيدها ببطء في رحلتي الطويلة الى الوراء الى الأيام الوردية. وصور بدأت أبصر ملامحها بسرعة كلما اقتربت أكثر من بيتنا على سفح الجبل. عندها وجدت نفسي أكتشف رويداً رويداً أن كل شيء حولي يكْبُر مع الزمن فيتغير. وأني لا أستطيع مقاومة ذلك الشعور بالحنين الى أشياء قديمة جديدة معاً. عرفت هذا جيداً عندما قمت بنزهة صغيرة مشياً على الأقدام في أزقة الضيعة وعلى طرقاتها التي كبرت هي أيضاً بفعل الزمن، فاتسعت للمارة صغاراً كانوا أم كباراً الفارق بسيط. لكنّ المفارقة الكبرى بالنسبة لي أنهم جميعاً يضعون الروح في كل يد مصافِحة. فيلقون عليك التحية وكأنهم يعرفونك جيداً. أما أنا فأعترف أني بذلت جهداً لأتعرف الى هذا وذاك خاصة من كانوا منذ سنين صغاراً وأصبحوا اليوم في عمر الشباب، أما هم فكانوا يحدقون بي وفي عيونهم أسئلة كثيرة من بينها السؤال عما فعلته طيلة هذه المدة. أسئلتهم تلك لم تتعدَ ابتساماتهم والكلمات القليلة لكنها حرّكت في بالي ألف فكرة وفكرة فامتزجت في نفسي مشاعر تارةً من الضيعة وزمنها وتارةً أخرى من الوجوه الطفولية المبتسمة. رحلتي الى الضيعة كانت تجربة لها أيامها وناسها. أيام أعادتني الى الوراء سنين فمنحتني متعة التذكّر. وناس التقيتهم على الطرقات. أعطوني جُرعات من الأمل والمحبة. التقيتهم هكذا ببساطة من دون موعد مسبق كما في المدينة.