من الصعب جداً التنبؤ بنهاية أكيدة للأزمة المستمرة منذ عشر سنوات وثلاثة أشهر بين ليبيا وكل من الولاياتالمتحدةوبريطانيا، والتي تنسب الى بلدة لوكربي في اسكوتلندا، رغم التفاؤل باقتراب الحل من نهايته الذي رافق زيارة الرئيس الليبي العقيد معمر القذافي الى مصر في الاسبوع الفائت. مصطفى كركوتي يعقّب: تعود صعوبة التكهن في موضوع لوكربي الى التقلب السريع والمتطرف في المزاج الليبي الرسمي، والذي يتمثل في الانتقال من حالة الى نقيضها من دون مقدمات، ما يحير المراقبين في بعض الأحيان ويمنعهم من ايجاد تفسيرات لهذا التقلب. ولكن لو سبر المراقب غور الشيء قليلاً لاكتشف ان التردد والمماطلة بشأن هذه الأزمة سببهما لس تقلب المزاج فحسب، ولكن الاضطرار لقبول فكرة الاستجابة للضغط الدولي كخيار وحيد من قبل "ليبيا الثورة" و"الجماهيرية" و"اللجان الشعبية" و"قلعة الحرية" و"كل السلطة للجماهير" الخ. لنبدأ القصة من ظاهرها: فكل الدلائل تشير الى قرب نهاية الأزمة إثر توصل الجانبين ليبيا في جانب والولاياتالمتحدةوبريطانيا في جانب آخر الى صفقة تقوم طرابلس بموجبها بتسليم اثنين من مواطنيها يعملان لدى أحد أجهزة الأمن الليبية لمحاكمتهما فوق أرض محايدة هولندا وتتهمهما واشنطنولندن بتفجير، أو التواطؤ في تفجير، طائرة الركاب الأميركية، مقابل "تعليق" أو رفع الحظر الاقتصادي الدولي المفروض على ليبيا منذ 1992. والتهمة خطيرة جداً لأنها من أعمال الارهاب البشع كما أدت الى مصرع 270 راكباً بمن في ذلك افراد طاقم الطائرة. الآن، إذن، ولأول مرة منذ حادث التفجير، يبدو أن هذا الملف على وشك ان يقفل بعد ابلاغ الحكومة الليبية ممثلين عن رئيس جنوب افريقيا نيلسون مانديلا ومندوب خادم الحرمين الشريفين السفير السعودي في واشنطن الأمير بندر بن سلطان استعدادها تسليم المتهمين الليبيين، لمحاكمتهما أمام هيئة قضائية اسكوتلندية في هولندا. هذه الصيغة، كحل وسط، تلبي للجانب الغربي طلبه الأصلي منذ بداية الأزمة، وهو محاكمة المتهمين عبدالباسط علي المقرحي وعلي أمين فحيمة وفق القوانين البريطانية أو الأميركية لأن حادث التفجير وقع فوق أراض بريطانية اسكوتلندا، وضحيته طائرة ركاب أميركية، كما توفر للجانب الليبي التبرير الشكلي للتراجع أمام الضغط الدولي عن رفض محاكمة المتهمين خارج أراضي ليبيا "لأن ذلك لا يضمن الحياد". وهذه الصيغة، حسب مصادر قريبة من وزارة الخارجية البريطانية، قائمة على مبادرة تقدمت بها جامعة الدول العربية في أواخر 1997، ولم تجد سبيلها الى النور إلا بعد التدخل النشط والايجابي لكل من المملكة العربية السعودية وجنوب افريقيا في العام الماضي. أجواء التفاؤل باقتراب نهاية الأزمة شعت منذ مدة إثر تصريحات لوزير الخارجية البريطاني روبن كوك أدلى بها في تشرين الثاني نوفمبر الماضي وأعرب فيها عن اعتقاده بأن طرابلس "قد وافقت أخيراً على تسليم المتهمين الى هولندا للمثول في محكمة تنتظم في لاهاي وهيئتها من القضاة الاسكوتلنديين". وكانت وزارة الخارجية البريطانية نفسها قد ألمحت الى احتمال تسليم المقرحي وفحيمة "خلال اسابيع قليلة". الوزير البريطاني أشار في تصريحاته الى عنصرين جعلاه يشعر بالتفاؤل: الأول هو "استقبال الليبيين الايجابي لردود لندن على استفسارات ليبيا" بشأن الموقف من الحظر الدولي ضدها وحيادية المحاكمة، والثاني اختيار الحكومة الليبية لفريق الدفاع الليبي الذي سيدافع عن المتهمين الليبيين برئاسة وزير الخارجية الليبي السابق المحامي كامل المقهور. في هذه الأثناء كان أمين عام الأممالمتحدة يلعب دوراً مهماً وراء الكواليس كانت ذروته زيارته العاصمة الليبية ولقاءه بالعقيد القذافي، وهذه كانت مناسبة بالغة الأهمية بالنسبة الى الحكومة الليبية أمام الرأي العام الليبي على الصعيدين الرسمي والشعبي. فقد بدت الأممالمتحدة وكأنها تقوم بدور الوسيط بين كل من لندنوواشنطن من جهة وبين طرابلس من جهة أخرى، خاصة لأنها مقر آلية صنع القرار الدولي. وأعربت القيادة الليبية في أعقاب هذه الزيارة عن ارتياحها للتطمينات التي قدمتها اليها الحكومة البريطانية حول سير المحاكمة الجنائية في لاهاي وسلامتها. وكانت بريطانياوالولاياتالمتحدة قد وافقتا في آب اغسطس الفائت على حل وسط طالبت ليبيا به منذ عدة سنوات، وهو اجراء المحاكمة فوق أرض محايدة، واقترحتا على الحكومة الليبية هولندا كمكان لاجراء المحاكمة. وردت ليبيا بالموافقة شرط الاجابة عن استفسارات عدة وتقديم بعض الضمانات. ومن الضمانات التي قدمتها بريطانيا، ووافقت عليها الولاياتالمتحدة، ان اجراء المحاكمة في هولندا "ليس مصيدة لاحتجاز المتهمين الليبيين لدى وصولهما إليها ونقلهما الى لندن أو واشنطن". وأكدت لندن ايضاً انها تضمن لأفراد عائلتي المقرحي وفحيمة الاتصال معهما طوال فترة المحاكمة، وموافقتهما لفريق الدفاع الليبي ان يدعو من يحتاجه من الشهود من بريطانيا لتقديم شهاداتهم أمام المحكمة. من ناحيتها، كانت ليبيا قد أبدت قلقها على مصير الشهود الليبيين، خاصة المسؤولين منهم، الذين قد يدعون الى المثول أمام المحكمة في هولندا للادلاء بأفاداتهم، واحتمال تعرضهم للاعتقال من قبل السلطات الهولندية أو البريطانية. إلا أن الوزير كوك قال في تصريحاته ان كل من يستدعى الى الادلاء بشهادته أثناء المحاكمة "يتمتع بحصانة ضد الاعتقال حتى لو كان مسؤولاً عن جرائم وقعت في الماضي". وعلى صعيد آخر، أكد كوك على أن الدول الغربية في مجلس الأمن بريطانيا وفرنسا والولاياتالمتحدة ستلتزم ما تعهدت به في السابق من أنها "ستنهي الحظر الدولي المفروض على ليبيا مباشرة بعد تسليم المتهمين الليبيين للمحكمة"، وهو أمر كانت طرابلس تطالب بتوضيحه من دون أي التباس. آخر عقبة كانت تعترض التوصل الى صيغة الحل الوسط اصرار ليبيا على تمضية المتهمين فترة الحكم - اذا وجدتهما المحكمة مذنبين بارتكاب التهمة الموجهة اليهما - في سجن ليبي. إلا أن طرابلس تراجعت عن هذا الطلب بعد موافقة لندنوواشنطن على وضع السجينين تحت "اشراف دولي" في سجنهما في اسكوتلندا. روبن كوك قال: "هناك زنزانتان تنتظران المتهمين في سجن بارليني اسكوتلندا وهذه مسألة غير قابلة للتفاوض". اللافت للانتباه بدء السلطة الليبية مؤخراً بحملة اعلامية كثيفة تهدف الى اظهار ان القذافي لم يكن هو الذي تراجع عن مواقفه السابقة وان القرار بالموافقة على التسوية نابع من "الشعب عبر لجانه المنتشرة في كل مكان". وقالت الوكالة الليبية للانباء ان "محاولة الزج باسم قائد الثورة يتجاهل آلية صنع القرار في النظام الجماهيري... لا توجد حكومة في ليبيا وانما مؤتمرات شعبية تضم كل الليبيين والليبيات ولجاناً شعبية تنفذ قرارات هذه المؤتمرات". ومنطق كهذا فتح ويفتح على الاحتمالات كافة!