هل بدأ العد العكسي لشرذمة اندونيسيا؟ الزمن وحده كفيل بالاجابة، اما الأحداث الراهنة، وفي مقدمها مسألة استقلال تيمور الشرقية فليست سوى غيض من فيض مما سيحصل في الأشهر القليلة المقبلة. على بعد يوم في الحافلة الى الجنوب من شاطئ تيمور الشرقية مشهد يشبه كثيراً ما ألفناه خلال الحرب الأهلية اللبنانية: شبيبة محبطة، من دون عمل ولا أمل، تحمل سلاحاً حصلت عليه بالمجان، تقيم الحواجز الطيّارة وتقتحم البيوت، تقتل، تنهب، تغتصب، تعذب، محمية بالقوة العسكرية الاندونيسية المسيطرة. وخلال أقل من اسبوع على أثر انتشار خبر احتمالات الاستقلال سقط ما لا يقل عن مئتي قتيل وهجر أكثر من خمسة آلاف عدا الجرحى والمشردين. ورأينا تلك المشاهد الوحشية في كل صراع أهلي مما يعيد طرح انسانية الانسان من نقطة الصفر. فالرؤوس والأطراف المقطعة والحوامل المبقورات، والأطفال المرميون في القمامة، ممارسات وقعت لدى الطرفين. هناك هوة سحيقة بين الجهود الدولية المتلكئة والواقع العنفي المستشري راهناً في تيمور الشرقية. تفيد احصاءات الأممالمتحدة ان مئتي ألف قتيل سقطوا في هذه المستعمرة البرتغالية سابقاً منذ 1975، والرقم المذكور يشكل عشرين في المئة من عدد السكان. لكن الآتي أعظم وقد يكون المتشائمون على حق إذا اعتقدوا ان جزرة الاستقلال الممدودة أمام الحصان التيموري لا تعدو كونها كأس السمّ التي ستقوده الى التذابح الأهلي، ما يجعل الاستقلال، بل حتى الحكم الذاتي المحدود اضغاث أحلام دموية يعلم الله وحده نهايتها. عملياً جاء التلويح بالاستقلال على هيئة تهديد مبطن الهدف منه إقناع التيموريين بقبول عرض الحكم الذاتي الموسع كما طرحته جاكارتا قبيل نهاية العام المنصرم كحل نهائي، وليس كمرحلة تراوح بين 10 و15 سنة يجري بعدها استفتاء شعبي تحت مظلة الأممالمتحدة في شأن الاستقلال، كما يقترح القادة التيموريون عموماً. من جهتها تشكو السلطات الاندونيسية من تكاليف حكمها لتيمور الشرقية وهي تكاليف عسكرية بالدرجة الأولى ذلك ان قطاع الخدمات العامة آخذ بالانهيار يوماً بعد يوم. وجاء في تقرير ديبلوماسي سرّبته كانبيرا أخيراً ان امكانات قيام وضع مستتب في ظل استقلال سريع لن تكون ممكنة من دون دعم اقتصادي عالمي على المدى الطويل، ناهيك عن الفوضى المحتملة في غياب هيكلية تحتية للدولة. اذن فالوضع الراهن، بعد تبدد زبد التلويح بالاستقلال، لا يبشر بعنف أقل. ويؤكد ذلك كليمينتينو دوس رياس أمرال، رئيس اللجنة الدولية لحقوق الانسان في تيمور الشرقية: "من رابع المستحيل انجاز استقلال في وقت قصير... ان ما تفعله الحكومة ليس مجرداً من رغبة الانتقام. وإلا لماذا وزعت البنادق على الرعاع ووضعت التيموريين على حد المقصلة؟". ولا يستطيع المراقب تنحية السيناريو القائم من خانة التهيئة لمذابح متبادلة بين مؤيدي الاستقلال والميليشيات المدعومة من الجيش. فالمناطق الريفية انفجرت بضراوة في الأيام القليلة الفائتة، وشهدت بعض القرى تصفيات علنية للجنود الأسرى، اتباع جنانا غوشماو، بقدر ما شهدت إرغام كل راغب في الانتماء الى الميليشيا على قتل واحد من ذويه. ويزيد في المشهد غموضه ان رسميين في السلطة الاندونيسية يعلنون بين الفنية والأخرى ان التواصل مقطوع بين جاكارتا وقواتها المسلحة في المقاطعة، وأن أي شيء ممكن الحصول في أي وقت. ويقول مصدر مقرّب من حكومة يوسف حبيبي ان التقارير الأخيرة الوافدة من تيمور الشرقية تكشف وجهاً آخر للوضع يجهله تماماً المراقبون الدوليون: "حتى لو جاءت الأوامر بالانسحاب مباشرة من القيادة العسكرية العليا في جاكارتا" يقول المصدر "امراء الحرب وقادة الميليشيات المحلية لن ينصاعوا، لأنها تهدد مصادر سلطتهم، فالوضع المتسيّب طوال السنوات الفائتة ساهم في نمو "حكومات" بديلة سيكون من الصعب ازاحتها". يبقى أن جاكارتا تستثمر آبار بترول متوسطة الانتاج في منطقة "المضيق التيموري". لكن انتاج تلك الآبار لا يؤمن أكثر من 350 مليون دولار سنوياً، لو صرفت كلها على تيمور الشرقية لن تشكل عاملاً جوهرياً في اقتصاد الجزيرة. يعتقد المتفائلون ان التوصل الى أي حل يشمل تهدئة الأوضاع سيؤدي الى عودة الزراعة الى سابق عهدها، خصوصاً اذا انسحب الجيش من المساحات الشاسعة التي يحتلها ومعظمها مراع خصبة للماشية. ويمكن عندئذ التوصل الى صيغة تشبه ما حصل في المستعمرة البرتغالية السابقة "الرأس الأخضر" كيب فيردي فهي فقيرة، لكنها آمنة ومحكومة محلياً في صيغة ديموقراطية، بلا جيش على الاطلاق. ويقول جوزيه راموس هورتا، التيموري الحائز على جائزة نوبل للسلام، ان الأحداث تكشف بوضوح عدم قدرة اندونيسيا على احتواء تيمور الشرقية الى ما لا نهاية: "لكنني أرفض الاستقلال الفوري وأفضل ادارة انتقالية دولية تحت مظلة الأممالمتحدة ومشاركة استراليا ونيوزيلندا والبرتغال والولايات المتحدة، كي يجري تحضير الأرضية اللازمة للاستقلال، كما حصل في بوغينفيل". ويؤكد هورتا ان قوة دولية متواضعة تكفي لتحقيق هذا الهدف. إلا أن جاكارتا لم تبد حماسة لمقترحات هورتا، اضافة الى رفضها ضم خمسمئة مقاتل في جيش المقاومة التيمورية الى أفراد الجيش الوطني المقبل. أخيراً، بين الكلام والفعل، وبين الديبلوماسية المحتشدة بالأكاذيب والوعود والتصريحات الكثيرة، يسقط الأبرياء بالمئات على ضفتي النزاع وينجلي التهديد الجدي بامتداد النار الى أطراف أخرى من اندونيسيا.