"تحية الى عصفور حر" هو عنوان معرض الفنان التشكيلي فيصل سلطان، الذي يقام في غاليري جانين ربيز بين 3 و25 شباط فبراير الجاري، متضمناً مجموعة من 76 لوحة محفورات واكريليك علي ورق وقماش نفذت في مجملها من وحي قصائد الشاعر انسي الحاج لتشكل القراءة التشكيلية الأولى لشعره. استغرق الإعداد للمعرض أكثر من سنتين بدأت بتجارب غرافيكية غرافور وليتوغرافي وسيريغرافي في باريس العام 1997 في محترف جان بيار تانغي، في المدرسة الوطنية العليا للفنون، لمناسبة صدور أول أنطولوجيا لقصائد أنسي الحاج بالفرنسية، واستكملت في بيروت العام 1998، برسوم تتفاوت بين مناخات الأمكنة ورموز النساء والعصافير وبين مسودات الشاعر المكتوبة بخط يده، وصولاً لقطف الحالة الشعرية بأبعادها الداخلية في اللوحة - القصيدة. قدمت للمعرض الشاعرة والناقدة إيتل عدنان بكلمة بالفرنسية في عنوان "تحت تأثير اللقاءات" ومنها: "هذا العمل الجديد لفيصل سلطان ينتظم حول لقاءات وصِدامات وتحدِّيات. ظاهراً يبدو أنه يخاطب في شكل خاص انسي الحاج وجهاً لوجه. من فنان الى شاعر. من لوحة الى قصيدة. ووجه أنسي الحاج يتكرر بحياد تقريباً في تلك السلسلة من التجارب. حيث الوجه يخالط اللوحة والقصائد المكتوبة تغدو كلاماً ورسماً يؤسسان لفورية الرؤية. كل قصيدة هي بداية الشعر. كل حب هو بداية السماء. كتب الحاج وكل لوحة هي بداية الرؤية. فنحن أمام قراءة بصرية حقيقية للنصوص. قراءة لعالم أدبي مقترن بالكلمات، حيث الأعراض الدائمة للحب واللغة، الخاصّين بأنسي الحاج، لا تلبث أن تتجابه بتقطير للخطوط والألوان يشيد المسيرة الجوهرية لسلطان: هنا خطوط وألوان تعيد تأليف العالم جنباً الى جنب مع الشعر لعبور الاحتمالات، الذي هو انتقال من نسقٍ في التعبير عن المدركات الحسية الى نسقٍ آخر. إذ أن التأمل في الحب الذي هو عمل الشاعر يتلاقى مع التأمل ذاته لدى الفنان. والمفردة - المفتاح لدى سلطان مؤلفة من العصفور - العاشق الذي يضع على شَعر المرأة - الحبيبة تاجاً هو رمز تملُّك الشفق. هذا الإلحاح على العصفور لدى فيصل سلطان هو لالتماس الرسالة، كما لو أن المكاشفة هي دوماً اهتمام كل الشعر وكل الرسم. إمرأة، عصفور، كلمات، طبيعة ومقاطع من مناظر وألوان، تلتقي في تنظيم بارع للقصائد والرسوم، حيث تتطابق وتتجاوب ويحتك بعضها ببعض، مثل أمواج على أمواج. هذا التحفُّز الصامت يتيح لشيء ما أن يولد، أن تصير رؤيته ممكنة، أن يغدو دلالة، أي حقلاً لحضور آخر يتعذر التقاطه إلا بنشوة الروح". يعكس المعرض المراحل التطورية لعمل المحفورات. كالحفر على صفيحة النحاس بالرأس الحاد، ومعه الظهور الأول لسلسلة "طيور المواسم" حيث الفضاء الناصع لورقة حدودها العصافير المحلِّقة في طيرانها الأول، مع اشارات صغيرة تشبه البدايات، التي تخطها الكلمات في مساحة قلقة ومتوترة تجعل العصافير تفرُّ في كل الاتجاهات. هذا الفَرار الذي يستكشف سحابات الضوء في شَعر امرأة متوجة بالحب، أو فسحات الظل عند جفنيها. طفوٌ وغمرٌ يُظهران التعقيبات الحبرية لتناقض الفاتح والغامق، والكثافة والشفافية. ومع الأكواتنت الذي يشبه الغبار الفحمي حين يُنْثَر على سطح المحفورة، يبدأ الأزرق ليأخذ لون النوم في سماء نجمية ويغدو طيران العصافير أجنحةً تصطفق مع الكلمات التي يشع بياضها أكثر من ذي قبل وكأن الهواء الذي يحيق بالعصافير كما يقول الشاعر "هو هواء الحب". ويتراءى وجه الشاعر في بضعة أعمال "سيريغرافية". فالتقنية تسمح بإدخال صورٍ وعناصرَ ومفردات، ومن الأسود والأبيض، الى التلوين بالأكريليك الشفاف الذي يساهم بظهور درجات الأزرق ذلك "الأزرق الذي هو حلم الشعراء"، ثم الأجنحة الدائرية المرسومة كخلفية مثل غيوم وتكورات مما يؤكد أهمية الاشتغال على إيحاءات القماشة اللونية لكل طبعة فنية. لا يمكن اعتبار أعمال فيصل سلطان وخصوصاً لوحات الأكريليك على الورق والقماش، إلا تجارب تشكيلية مستقلة باختباراتها ومناخاتها وعناصرها، فهي لا تستهدف تصوير الشعر، بل تبتغي الشعر كحاجة وكمحرضٍ دافعٍ، لتخطي الصراع مع الذات أولاً مع المادة تالياً بقوة الإيحاء الشعري: يقول الفنان "ثمة دوافع ثقافية وفنية ونفسية هي التي أَمْلَتْ عليَّ توجهات التجربة. كنت أقرأ وأرسم وألون وأطير بشغف فوق جسد اللوحة. كانت رغبات العصافير تفتح أبواب الغيوم على شفير الهاوية وكانت لهفة الشعر هي حصانتي الوحيدة لمتابعة التجربة". هنا يفتح الشعر ذراعيه لعالم من الصور والرموز والعناصر في المجال البصري المتأثر بقوة المادة ووسائط التعبير وإيحاءاتها، حيث جمال الشعر لا يُفسر بل يُقرأ ويُحس. والقراءة الحسية تجعل النص يدخل كجزء من فعل كناية المساحة، وذلك ضمن علاقة ترابطية لمفردات من ذاكرة تبتكر حضورها الخاص، فالقامة مجنحة وكذلك الكلمة، والرجل والمرأة يلتقيان في تأليف على شكل قلب. وتتراءى في متون اللوحات أو هوامشها رموزُ الشعرِ: كالقمر والوردة والنجمة وعين النوم واليد والغيمة والنسر والعصفورة. كل هذه الرموز من أجل أن تتحقق أعجوبة الحب. فالنص التشكيلي لدى سلطان، يطرح لغة لأشكال تصويرية تنأى عن الواقع لترتمي في الميتولوجيا والتخييل الشعري. بين الحرية والصرامة والفوضى والتنظيم، تتوحد المتناقضات وتتخطى اللوحة لزومية النص الشعري لتطرق الشعر من بابه الأوسع كحالة شكلانية ومناخ لوني، فالسوريالية في الصورة الشعرية تصير سوريالية المفردة التشكيلية التي وجدها الفنان أكثر ما وجدها في العصافير "النقاط صارت عصافير والفواصل فراشات والأرقام أشجاراً..." كما يقول أنسي الحاج. في الرسوم تتراكض الأشياء وتتوثب بحرية أكبر، والطرقات المبهمة لليد تصير أوضح مع نزوات الحب، ولحظات الانتظار واحتفالية لقاء العاشقين. فالشعر المكتوب يغدو قماشة اللوحة، وحين ينحسر في انتصارٍ غير مباشر للتشبيه، تتزحلق الخطوط اللعوبة في تجسيدها للأشكال حيث تخبىء الصورة مفاجآت كانت تخفيها، لتنكشف ببطء في الأبعاد التي تحتاج الى قراءة متمعِّنة، لأن اللوحة لا تمنح أسرارها للعين دفعة واحدة. فالخطوط مسننة ولينة ومنكسرة ولولبية وزخرفية تارة. وهي عصب التكوين ومتواه ومضمونه وصوره. ونكتشف أكثر قدرة الرسم لدى سلطان التي يمنحها الشعر طاقة خفية للابتكار والتنوع. ويبدو أسلوب تجزئة المساحة الى عناصر صغيرة، هو من أبرز خصوصيات العمل التشكيلي لوحات الأحجام الصغيرة لدى فيصل سلطان، حين يأخذ التأليف معنى الجمع للمتناثرات أو التمزقات مع طيران غير مستقر لعصافير باحثة عن الحب. والحب هو الموضوع الذي يحاكيه سلطان في محور تجاربه، وفي تمجيده للمرأة كما يقول الشاعر "إذا أنا رأسك يا حبيبتي فأنت الهالة حول رأسي"، فالمرأة التي ترسل شعرها من الينابيع تعطي صورتها للكائنات، تصير الغصن والوردة والغابة والشجرة، والشمس والشعاع، كأنها صورة للعالم الأنقى. المرأة التي تضع الألغاز في شعر أنسي الحاج أمست في لوحة "المتوهجة" موشاة بالرموز والإشارات. "فالكلام هو جسد من أجسادنا" - كما يقول الحاج - "ولا شيء في الداخل غير الرقة". فالشعر يفسر اللوحة - القصيدة حين لا تلتقط الخطوط إلا اطار الأشكال من الخارج كي تظل الأجساد بيضاء من الداخل. في لغة مشهدية - بصرية تتفتح بأَمارة الشعر ودلالاته ورموزه، وثمرة التجربة هي ليس الوقوع في ثنائية الحب والأيمان، لأن كلاهما من اللهب ذاته، بل الوصول الى حالة حب خلاصية تحمل كل الحلم وكل التوق. لأنه الحب المطلق.