اذا كانت حرب الخليج قد بسطت نفوذ محطة سي إن إن الاميركية على الاعلام العالمي، وبالتالي اعطت للإعلام وقعاً يتخطى حدود الدول وذلك رغم انعدام أية صور من حرب الخليج!، فقضية لوينسكي كانت، بمعنى ما، معمودية لشبكة الاتصال: انترنت. فالفضيحة بدأت على "الويب" قبل ان تتناولها الصحف، وخلال الاشهر التي عاشها العالم في تتبعه لانعكاسات الفضيحة، ظلت الشبكة وسيلة الاعلام الاولى لتناقل المعلومات او مناقشتها، خاصة وان الطلاق الذي جرى بين وسائل الاعلام "التقليدية" والرأي العام حوّل جزءاً كبيراً من ابناء القرية الكونية الى مراكز انترنت. بيد ان الشبكة لم تصبح اداة انحياز الى طرف من الاطراف، وكينيث ستار لم يتأخر في نشر تقريره على احد مراكز البث، وذلك للوقع الفوري والعالمي الذي اراد ان يعطيه لملفه التحريضي ضد الرئيس كلينتون. انترنت غيّر عاداتنا، والمعلقون لاحظوا، على سبيل المثال، كم ان البرامج الاذاعية او التلفزيونية، التي كانت تعتمد على مكالمات المستمع/ المشاهد توك شو فقدت من اهميتها. لم يعد احد ينتظر دقائق طويلة يحاول فيها الحصول على المكالمة الهاتفية للتكلم في برنامج ما. فالنقاش وتبادل الآراء غديا ممكنين في سرعة البرق عبر مراكز الحوار على شبكة الاتصال. حتى في الصين، اضطرت اكثر من مئة وسيلة اعلام بناء مراكز لها على انترنت لكي لا تفقد صلاتها بقرّائها او مشاهديها. مجلة "صالون" التي لا تظهر سوى على الويب غدت من وسائل الاعلام الاكثر نفوذاً في الولاياتالمتحدة، بما في ذلك تناول الاخطار التي تهدد مهنة الصحافة، كالتهديد في قتل العاملين فيها، او الانذار بوجود قنبلة في مركزها! جديد انترنت ايضا هو انه لم يعد هذه الوسيلة التقنية المبهمة التي تتطلب تدريباً طويلاً للدخول في اعماقها، او التي لا تطول سوى الاجيال الجديدة التي لم تدخل عالم الكتب والورق المطبوع. فحسب دراسة قامت بها صحيفة "نيويورك تايمز" الاميركية، تبين ان الشبكة بدأت تتغلغل بشكل جدي في اوساط من هم فوق الخمسين: في الولاياتالمتحدة، 40 في المئة ممن تخطوا الخمسين يستخدمون الكومبويتر و70 في المئة منهم اشتركوا في انترنت. هذه النسبة لم تتعد 17 في المئة في 1995. ومن المتوقع ان يغدو عددهم سنة 2002، حوالى 11 مليون شخص. اهتمام اجيال ما فوق الخمسين من العمر بالشبكة هو ايضا علاقة جديدة بالذاكرة. فانترنت برهن على انه المخزن الاول والثابت لأحداث الماضي. الصحف، المجلات، الاذاعة او التلفزيون تتطلب جهوداً قد تكون مضنية للعثور على وثيقة من الماضي. انترنت شكّل ثورة في هذا المجال. الماضي من خلاله يلاحقنا دون مفر، وبذلك فهو يمثّل خطراً واضحاً على حياتنا! فعبر بعض المراكز، اضحى ممكناً لأي شخص في العالم معرفة امور عديدة تخص شخصاً آخر. يكفي وضع اسم الشخص على هذه المراكز، وانتظار سنوات، لظهور عشرات النصوص التي ذُكر اسمه فيها، مقدمة بذلك لپ"الباحث" صورة واضحة عن هذا الشخص، او عن الجوانب الخفية منه، او عن هواياته، او آرائه في الماضي ومعتقداته. هكذا غدت حياتنا بكامل جوانبها مشرعة الابواب امام اي فضولي يريد الدخول اليها ومحاولة الايذاء. على ان ارشيف انترنت سيحفظ للاجيال القادمة معلومات طائلة قد لا تعطي بالضرورة الصورة الصحيحة عن شخص ما، وقد تورّط العديد بمشاكل قد تؤثر سلباً على مستقبلهم! ترى لو وجد في الستينات انترنت ومركز نقاش حول المخدرات شارك فيه الطالب بيل كلينتون، الذي اعترف بأنه في شبابه ذاق طعم الماريوانا، هل كان ممكناً مع هذه "الوثيقة" انتخابه رئيساً لجمهورية الولاياتالمتحدة؟ بعض مقدمي المراكز والخدمات على الشبكة كپ"اميركا اون لاين" AOL قرروا اخذ تدابير جدية للحد من النقاشات الحادة. AOL الغت النقاش العاصف حول ايرلندا خلال اسبوعين، معلنة بذلك للمستخدمين ان عليهم تحسين الفاظهم. كذلك ألغت العديد من المراكز التي تطال قضايا حساسة كالعنصرية والعلاقات بين المجتمع وأقلياته العرقية. غير ان هذه الاجراءات جعلت المستخدمين يشعرون انهم يخضعون للمراقبة، وان الحرية التي وعدوا بها لها شروط تحددها شركة خاصة، وربما في المستقبل ستُملي هذه الشركة شروطا لا علاقة لها بالاخلاقيات، بل بمصالحها التجارية. التلاعب على انترنت لم يعد ايضاً حكراً على الدول الغربية. العالم العربي الغني في تلاعبه دخل الحلبة مؤخراً، وذلك على صعيد علاقة احدى الدول بحقوق الانسان فيها. فقد لجأت السلطات التونسية الى إنترنت لبث "انجازاتها" في مجال حقوق الانسان والعجيب انها اسمت مركزها www.amnesty-tunisian.org موحية بذلك ان Amnesty، اي منظمة العفو الدولية، تقف وراء هذا المشروع، ولم تكتف تونس بهذا الاجراء بل قامت ايضا بمنع منظمات حقوق الانسان في العالم من ان يبثوا عبر انترنت معلومات حول تدهور هذه الحقوق في تونس. بيد ان التلاعب على شبكة اتصال لا حدود له، ورد منظمة العفو الدولية جاء في غاية التقنية، اذ انها قامت بانشاء مركز اسمته www.amnesty.org/Tunisia يفند الخطاب التونسي حول حقوق الانسان ويعطي للمستخدم صورة اقل "اشعاعاً" للانجازات التي حققت. انها صورة الواقع.