على عكس لغة بكائية شائعة في العالم العربي، رأى عدد آذار (مارس) من مجلة «العلوم الإنسانية» Sceinces Humaines الفرنسيّة المتخصّصة، أن العلوم الحديثة أدّت الى تجدّد الاهتمام باللغة. ولفتت إلى أن علم اللغة شهد قفزة قوية في فترة الستينات من القرن الماضي، لكنها لم تدم طويلاً، بل ذابت في دراسات فكرية واجتماعية اخرى. ومع التقدّم الضخم في العلوم المعاصرة، خصوصاً الجينوم والكومبيوتر والطب، تجدّد الاهتمام باللغة على نحو فاجأ حتى أكثر الناس تفاؤلاً بإمكان عودة هذا الموضوع الى مساحة النقاش الفكري. ابحث عن «السيمنطيقيا» ربما يصلح هذا العدد مدخلاً لإعطاء فكرة عن طفرة نوعية تنتظرها الانترنت، يسمّيها الإختصاصيون «الشبكة السيمانطيقية» Semantic Net أو «الويب السيمانطيقي» Semantic Web، ولربما كان أقرب ترجمة لها «شبكة الويب الدلالي» The Net of Semantic Web، بمعنى أنه الشبكة المؤتمتة ذاتياً التي يعتمد عملها على دلالات المعلومات ومحتوياتها، وليس على المعطيات الشكلية (الكلمة، تكرارها، العدد، وجود أكثر من كلمة قريبة من بعضها...) التي تتحكّم بها حاضراً. ثمة مواقع متخصّصة في تقديم صورة عن هذا المستقبل الذي لم يعد بعيداً، خصوصاً موقع «دبليو3.أورغ» W3.org. واستطراداً، لا يدور الحديث عن «الويب السيمانطيقي» بصورة خيالية، بل أنه يعبّر عن مبادرة موجودة فعلياً، ينهض بها تحالف من المؤسسات المؤتلفة في تحالف «وورلد وايد ويب 3 كونسورتيوم» World Wide Web 3 Consortium، واختصاراً «دبليو3 سي» W3C. أفق للشبكات يعبّر الويب السيمانطيقي عن مجموعة من صيغ في المعلوماتية ولغاتها، تجعلها قادرة على تحليل البيانات والتعامل مع اللغات، ما يساعدها على «فهم» المعلومات المتنوّعة على الإنترنت. ومن المستطاع القول إن الشبكة تمثّل ثورة جديدة في عالم ال «ويب» ومتصفّحات الإنترنت، وفق ما صرّح به السير تيم بارنز لي، وهو العالِم الذي ابتكر شبكة ال «ويب» التي يُشار إليها بالحروف الثلاثة الشهيرة «دبليو دبليو دبليو» www. ورأى لي أن الويب السيمانطيقي يمثّل المرحلة التي تتحوّل فيها أكداس المعلومات من إشارات إلكترونية رقمية، إلى معلومات «مفهومة» من الكومبيوتر ذاته، بمعنى أنها تفهم بطريقة «الذكاء الإصطناعي» للكومبيوتر. ويعتبر ال «ويب» الدلالي نتيجة تعاون بين عدد كبير من العلماء والتقنيين في مجال تقنية المعلومات وشبكة الإنترنت، منضوين تحت مظلة «منظمة دبليو 3 سي» التي تعمل على إيجاد قواعد ومواصفات ومعايير للويب السيمانطيقي، إضافة إلى تطوير تقنياته وبرامجه وتطبيقاته ومحتوياته المتنوّعة. ويزيد في أهمية ال «ويب» السيمانطيقي أنه يظهر في لحظة يتنامى فيها الميل إلى اندماج المعلوماتية مع الاتصالات، ما يعني أنه يتوجّب على الحواسيب أن «تفهم» أيضاً معطيات الاتصالات وشبكاته، وعلاقاتها مع الكومبيوتر وشبكاته. وبقول آخر، يتوجّب على ال «ويب» الدلالي أن يفهم الرسائل النصيّة القصيرة، وأشرطة الفيديو، وأن يربطها مع مواقع الاتصالات وإشارات المكالمات، إضافة الى ربط كل ما يتعلّق بالخليوي، مع المعلومات التي تتصل بالكومبيوتر الذي ربما امتلكه صاحب الخليوي، أو بالآلة الذكية (مثل «آي باد») التي يستعملها هذا الشخص عينه أيضاً! وفي التجربة العملية، جرّب الاختصاصيون تقنيات هذا النوع من ال «ويب» في الطب والجراحة، خصوصاً التخدير الذي يرافق العمليات الجراحية. ولأن التخدير مسألة حسّاسة وحاسمة، يستطيع ال «ويب» السيمانطيقي أن يكون أداة مهمّة في التعرّف الى نوع أدوية التخدير التي تلائم مريضاً ما، بالرجوع الى ملفاته الطبية وما يتوافر من معلومات عنه عبر الشبكات المختلفة، سواء كانت عبر الإنترنت أم على شبكات الخليوي. دور بارز للجينوم في السياق عينه، استعانت مجموعة من الباحثين بال «ويب» السيمانطيقي في تطبيقات طبيّة تتصل بالوراثة، خصوصاً علاقة الجينات مع أمراض القلب. وفي «مستشفى سينسيناتي الطبي» في الولاياتالمتحدة، استفاد البحّاثة من معلومات هذا ال «ويب» في البحث عن روابط بين تراكيب جينية متنوّعة من جهة، ومجموعة من أمراض القلب والشرايين من جهة اخرى. وأعطت بحوثهم مؤشّرات أولية عن العلاقة بين أنماط معينة من الجينات والأمراض التي تسبّب اعتلالاً في عضلة القلب. وسعت مجموعة اخرى من العلماء للإستفادة من ال «ويب» عينه في مجال الصحة العامة، خصوصاً تفشي أوبئة كالإنفلونزا. ففي العادة، يتطلب الأمر بعض الوقت قبل أن يتعرّف الاختصاصيون على وصول الإصابات بأحد أنواع الأنفلونزا الى درجة الوباء، وهو درس أستُعيد كثيراً في سياق تفشي وباء «أنفلونزا الخنازير». في المقابل، استطاعت مجموعة من الاختصاصيين في جامعة تكساس الاستفادة من قدرات ال «ويب» السيمانطيقي في محاصرة تفشي وباء محليّ في منطقة هيوستن. إذ صنعوا برنامجاً معلوماتياً اسمه «سافيير» sapphire، استطاع أن يحلّل بصورة مستقلة ومؤتمتة، الأوضاع المتصلّة بالصحة العامة في منطقة جغرافية محددة. واعتمد هذا البرنامج على الترابط بين معلومات الصحة العامة الآتية من المراكز الصحية والصفحات الشخصية للجمهور، ومعلومات المستشفيات، وبيانات مراكز الطوارئ، ومعلومات العيادات العامة وغيرها، ثم صاغها بطريقة مكّنت من ملاحظة الوباء في مهده. وللنقاش بقيّة.