في الأربعينات، قامت كبرى شركات السجائر بتمويل عدد من الأفلام الهوليوودية لقاء أن تظهر علبة الدخان في أيدي أبطال الفيلم الايجابيين. سيجارة في فم همفري بوغارت أو لورن باكال كانت كافية لتسويق سلع الشركة التي انتجتها، وبالتالي حث الملايين من المراهقين والمراهقات على الشروع في التدخين، رغبة في تقليد نجومهم السينمائيين. سلع اليوم الجديدة لم تعد تحتاج إلى استديوهات هوليوود لتسويقها. فبفضل تغلغلها السريع في القرية الكونية، غدت ظاهرة يلهث كتّاب السينما إلى الكتابة حولها ولا يطالب المنتجون بأي أجر ولو ساهم الفيلم في مضاعفة المبيعات. سلعة نهاية هذا القرن هي بلا شك شبكة انترنت وفيلم "وارنر" الجديد وهو من بطولة توم هانكس وميغ ريان: "استلمت رسالة الكترونية" هو دعاية مثيرة ومجانية؟ لمركز AOL الالكتروني على الويب: رسائل غرام بين البطلين عبر انترنت. بيد أن المركز المذكور لا يبدو بحاجة ماسة إلى الدعاية. البورصة وحدها كفيلة، عبر نتائجها، بترويج استخدام AOL. فخلال السنة الفائتة تضاعفت قيمة سهمها أربع مرات. وبشكل عام حققت أسهم مراكز انترنت سنة 1998 ارباحاً خيالية، جاعلة كبرى الشركات العالمية في الحقل المصرفي أو الصناعي تبدو وكأنها "تقليدية" ذات أرباح "تقليدية" أيضاً. على سبيل المثال، أسهم مركز Amazon com. ارتفعت بنسبة 2255 في المئة!! خلال سنة ونصف السنة، فظهرت بذلك بصفتها الأسهم الأكثر ارتفاعاً في تاريخ البورصة. "أمازون كوم" ابتدأت سنة 1994 ببيع الكتب وتسويقها عبر انترنت. الفكرة ان عدد المؤلفات يزيد عن عشرات الملايين في العالم. وحدها اللغة الانكليزية تقدم اليوم أكثر من ثلاثة ملايين كتاب، مشكلة بذلك سوقاً أساسية للتجارة الالكترونية. خلال السنة الماضية، باعت "أمازون" من الكتب ما يوازي مبيعات ثلاثين مكتبة بحجم Virgin، جاذبة إليها حوالى خمسة ملايين مشتر، عاود ثلثاهما عاودوا عملية الشراء مرة ثانية خلال الأشهر التي تلت العملية الأولى. هذا ما حمل "أمازون" على تنويع سلعها وإدخال اسطوانات ال "سي دي" وأفلام الفيديو والألعاب الالكترونية على اعلاناتها، مضاعفة بذلك مبيعاتها خلال شهر الأعياد. إلا أن هذه التجارة الرابحة بدأت تحث كبرى دور النشر العالمية ك "بارنز اند نوبل" أو "برتلسمان" على فتح مراكز بيع على انترنت، وكأنه إقرار بأن مستقبل الكتاب يمر أيضاً عبر الشبكة الالكترونية. هذا الهوس بمراكز انترنت يعود إلى الاحساس بأن العالم دخل مرحلة الشبكات وان زيادة مبيعات الكومبيوتر ستضاعف كل سنة عدد مستخدمي المراكز التسويقية عليها. البورصة أيضاً تعلم ذلك، وحسب دراسة قامت بها "فايننشيال تايمز" البريطانية، تبين للصحيفة ان توظيف ألفي دولار في نهاية الثمانينات في شركة "مايكروسوفت" جلب لأصحاب هذا التوظيف أربعين ألف دولار في غضون عشر سنوات. العجيب في الأمر أن معظم هذه المراكز رغم سرعة رواجها وانتشار سلعها، ما زالت حتى الآن تخسر. مركز "أمازون" رغم مبيعاته خسر في النصف الأول من السنة الماضية حوالى خمسة وستين مليون دولار! مركز آخر "بنك موني"، الذي يسوّق "روائع الأدب" لم يعط أي رقم عن خسارته المادية خلال السنة. وهذا لم يمنع أسهمه من الارتفاع بنسبة 250 في المئة خلال السنة نفسها، حتى أنه أضحى من الأفضل لهذه المراكز ان تمضي في تكبد خسائرها المادية عوضاً عن ايقاف حملاتها التسويقية التي قد تؤدي إلى تراجع أسهمها في البورصة! سنة 1999 ستشهد حسب التقديرات دخول المايكرو كومبيوتر في العمل كما في المنزل بشكل متزايد. أدوات لن يزيد حجمها على كف اليد سيمكنها ان توفر لمستخدميها معظم مطالبهم. فكرة مزج الكومبيوتر وشاشة التلفزيون لم تعد اليوم تُغري الصناعيين. الزمن هو للأدوات الصغيرة ذات الوزن الخفيف التي يمكن نقلها في أي مكان. سنة 1999 ستكون سنة الحسم في تكريس انترنت كأداة الاتصال الأولى. خمسة وسبعون مليون أميركي، أي أكثر من ثلث عدد السكان، يستخدمون الشبكة. مليون وثلاثة وخمسون منزلاً في أوروبا اشترك أصحابها في انترنت. حوالى تسعة ملايين منزل ياباني أيضاً. في 1999، سيصل مجموع المبيعات على انترنت الى عشرين بليون دولار، والسلع التي ستشهد زيادة في مبيعاتها ستكون بطاقات السفر، السلع الالكترونية، السلع الغذائية، الكتب وحتى الملابس. بيع الأدوية، خصوصاً التي تعتبر منشطة كالفياغرا، ستشهد ارتفاعاً متزايداً في ارقامها. "متاجر" انترنت لا تغلق أبوابها في الليل ولا تعرف عطل نهاية الأسبوع. وإذا اعتبرنا ان دخولها سيكون في متناول أي شخص يملك آلة لا يزيد حجمها عن كف اليد، أدركنا إلى أي عالم نحن ذاهبون. عالم الاتصال هو أيضاً زمن البداوة. وكأن الحضارة دارت حول ذاتها لتعود إلى عصر ما قبل الحضَر، إلى نماذج بقيت في العالم بشكل مصغر تعيش على هامشه في جنوب آسيا وافريقيا واستراليا أو حتى في أميركا الشمالية. غير ان حتى رُحّل كالاهاري في افريقيا الجنوبية غدوا اليوم يستخدمون الكومبيوتر المحمول والذي يُربط بالأقمار الصناعية لتحديد الزمان والمكان لهم وهم يطاردون الحيوانات البرية أو يراقبون تنقلاتها. البدو الجدد لا يطاردون الحيوانات، ولكن لا بيت لهم ولا وطن، لا يدفعون ايجارات وفواتير كهربائية، يتنقلون بين منازل اصدقائهم في العالم، مع لوازمهم الشخصية التي لا غنى عنها وما وصلت إليه الحداثة من أدوات تربطهم بمراكز انترنت...