حتى ذلك الحين، من المؤكد أن ما كان يجمع جمال عبدالناصر زعيم ثورة تموز/ يوليو 1952 والقابض نهائياً على السلطة في مصر بعد ازاحة محمد نجيب بالغرب وقيمه، كان أكثر بكثير مما يقربه إلى الكتلة الاشتراكية بزعامة الاتحاد السوفياتي. وفي الحسابات كافة، كانت ثورة تموز ثورة ليبرالية لا تنظر بعين الرضى إلى النفوذ الشيوعي وانتشاره في مصر والعالم العربي. بل ان عبدالناصر كان في الشهر الأخير من العام 1954، كتب مقدمة لمنشور دعائي عنوانه "الشيوعية على حقيقتها" يفسر فيها مواقفه العنيفة ضد الشيوعية وضد معتنقيها قائلاً إن الشيوعيين "انكروا الكائن البشري، لأن هذا الكائن لا وجود له في المذهب الشيوعي، حيث الدولة هي الحقيقة الوحيدة. وهم انكروا الحرية لأنها تعبير عن الثقة بالكائن البشري وبما لديه من امكانيات". ومع هذا، على الرغم من هذه الصرخة المبكرة ضد الشيوعية، وعلى الرغم من عدم وجود رغبة لدى عبدالناصر، ولدى غيره من أعضاء مجلس قيادة الثورة، باستثناء خالد محي الدين ويوسف صديق، في التقارب مع الكتلة الاشتراكية، فإن العام 1955 لم ينقض إلا وعرى التحالف والتقارب بدأت تتوثق بين القاهرةوموسكو. فما الذي حدث طوال شهور ذلك العام وأدى إلى تبدل جذري، على الصعيد السياسي لا على الصعيد الايديولوجي، في موقف عبدالناصر، وموقف القاهرة بصورة عامة؟ حدث أن جمال عبدالناصر التقى سير انطوني ايدن، وزير الخارجية البريطانية يومذاك! حدث اللقاء في دارة السفير البريطاني في القاهرة. وذلك اللقاء الذي كان يفترض به ان يقرب بين لندنوالقاهرة، أدى إلى العكس تماماً، إذ خرج منه الزعيم المصري ولديه انطباع حاسم بأن الأمور لن تسير على ما يرام مع بريطانيا العظمى. وبالتالي مع العالم الغربي بشكل عام. خرج عبدالناصر يومها من الاجتماع ليقول لمرافقيه بلهجة غاضبة: "لقد تصرف هذا الرجل حيالي وكأنه أمير يتعامل مع حفنة من المشردين". الصورة: انطوني ايدن ولسوف يظل لدى عبدالناصر، لسنوات طويلة مقبلة، انطباع بأنه نادراً ما ازعجته حفلة عشاء قدر ما ازعجته تلك الحفلة. ومع هذا كان المسؤول البريطاني يعتقد أنه بدعوته عبدالناصر إلى العشاء في دار السفارة، سيتقرب منه، ويلتف على محاولات "الشرقيين" للدنو من رجال ثورة مصر. من هنا بدأت السهرة بكل أنواع المجاملات والكلمات الطيبة. وبدا الزعيم المصري مرتاحاً، ولكن في لحظة من اللحظات عادت إلى ايدن طبائعه الارستقراطية البريطانية، وتذكر، كما يبدو، أنه يخاطب هنا زعيم بلد كان واقعاً تحت الاحتلال البريطاني، فبدا يتعالى على محدثه وراحت لهجة حديثه تتحول إلى لهجة تعليمية، وبدأ كمن يلقي دروساً في السياسة على تلامذة قاصرين. وحدث ذلك، خصوصاً، حين راح الحديث يطاول مسألة اقامة "حلف بغداد"، وهي المسألة التي أتى ايدن إلى مصر، بشكل خاص، للبحث فيها، ولاستدراج مصر للوقوف إلى جانبها. هنا جابهه عبدالناصر بأنه من الأفضل لبريطانيا وللغرب عموماً ولمصر وللأمة العربية، أن تطوى صفحة ذلك المشروع، قائلاً له إن اقامة الحلف، هي التي ستجعل الشعوب العربية أقرب إلى السوفيات منها إلى الغرب. فالغرب اذاقها الويلات، ووقوف الشعوب العربية ضد المذهب الشيوعي لن يمنع العرب من النظر بعين التعاطف إلى موسكو، خصوصاً أن هذه تعرف كيف تأخذ إيمان العرب والمسلمين بعين الاعتبار. هنا أبدى ايدن استياءه من هكذا درس يلقيه عليه "البكباشي" وأفهمه أنه يعرف عن شؤون الشعوب العربية أكثر مما يعرف هو، الزعيم المصري. هنا كان النقاش وصل إلى درب مسدودة، وادرك عبدالناصر ان الزعامات الغربية هي هكذا ولن تتبدل، فخرج من ذلك اللقاء غاضباً، واثقاً من أنه لن يمكنه أبداً أن يقنع بريطانيا والغرب من ورائها بالتخلي عن مشروع الحلف. والحقيقة ان تلك القناعة التي ساعد استعلاء ايدن على ترسخها لدى الزعيم المصري، هي التي قادت هذا الأخير، وبعد ثلاثة أشهر إلى ذلك اللقاء الشهير الذي عقده مع السفير السوفياتي في مصر دانيال سولود، وأعلن هذا على اثره أنه جرى للمرة الأولى الحديث عن شراء مصر لأسلحة سوفياتية. ونعرف أنه لم يمض ذلك العام إلا وكان السفير السوفياتي نفسه يعلن ان بلاده مستعدة للمساهمة بشكل فعال في بناء السد العالي. وقبل ذلك بأسابيع كانت مصر وقعت معاهدة تحالف عسكري مع سورية، وبالتحديد رداً على مشروع حلف بغداد، وهو التحالف العربي الذي سرعان ما اجتذب إليه الرياض وعمان، فكان ان ولد حلف بغداد ميتاً تقريباً، وتوجه عبدالناصر صوب موسكو مدعوماً بمساندة عربية كبيرة.